طفولة ضائعة

نشر في 18-06-2018
آخر تحديث 18-06-2018 | 00:00
 فوزية شويش السالم حرت في تصنيف رواية "طفولة ضائعة" للكاتب عبدالنبي فراج، فهل هي رواية أم سيرة أم تهويمات كابوسية أم خليط ارتآه الكاتب كأسلوب مناسب لنصه؟

هذا مقتطف من التوطئة التي كتبها ليشرح ويبين فيها سبب اتخاذه هذا الأسلوب الكتابي لروايته: "لا أعرف بالضبط هل تصالح الإنسان مع ذاته، يجعل استدعاء سيرة حياته المطمورة- خاصة وقائع ومشاهدات الطفولة- سهل استعادتها؟ أم أن طول الفترة الزمنية التي ظل فيها يقمع الوقائع، والمشاهد المخزية، والمؤلمة، جعلت استعادة الذاكرة للوقائع والمشاهدات والتذكارات، كالواقع الحي المحض نوعا من المستحيل، ويستعاض عنها بنوع آخر من الواقع، واقع أشبه بشريط السينما، يتدخل الخيال فيه، كما يتدخل المخرج في الصوت، والمونتاج، والخدع، والشراك، والتخيلي، لكي يقدم صورة تُرضي رغبة الإنسان في النستولوجيا".

ولعل المقدمة التي كتبها تبين تماما السبب وراء اختياره لهذا الأسلوب الملتبس ما بين الرواية والسيرة والخيالات التهويمية، وربما أغلبية الكتاب العرب يجدون حرجا في الكشف والفضح لماضيهم ولسيرهم الحياتية، فما زالت المجتمعات العربية تحاسب وتدين الكاتب وربما تعايره أو تسخر من ماضيه، هذا غير محاسبة الأهل والمقربين منه الذين لا يريدون كشف حقيقة ماضيهم إذا كان هذا الماضي متشاركا معه، لذا اضطر الكاتب إلى اتخاذ تقنية التخييل والتهويمات والهواجس ليموه حقائق السيرة الحقيقية بخلطها وتعويمها وتذويبها معها، بحيث تبعده عن المحاسبة والملام والمعايرة والسخرية والتبكيت، لذا نجد الكاتب لجأ إلى القص واللزق والمونتاج ليقطع مشاهد سيرة حياته الحقيقية، ليعيد لصقها بمشاهد تهويمات فنتازية تخيلية.

وبهذه التقنية خسر مادة دسمة كانت بحاجة إلى ترتيبها بشكل أفضل بدلا من تركها تهرول بفوضى تداخلت فيها ذكريات الحياة مع التخيلات والهذيانات والأفكار غير المترابطة، وأيضا الإخراج السيئ للكتاب، مما أنقص من قيمة روايته من وجهة نظري، في الحقيقة سيرته كان يجب أن تُذكر كما هي، لأنها ذات قيمة واقعية تفوق الفانتازيا، وفيها واقع إنساني ذو خصوصية وتميز حاد يكشف ويعري حياة وبؤس الفلاحين الكادحين العاملين بنقل السباخة والتقاط البطاطا وتنقية التربة بشقاء عمر وتعب وقهر وعيش حياة تحت خط الفقر، حياة بؤس تشبه حياة عمال التراحيل في قصة "الحرام" ليوسف إدريس مع اختلاف التفاصيل، يعني أن هناك مضمونا لرواية سيرية واقعية رائعة، برأيي مكتفية تمام الاكتفاء بقيمتها دون الحاجة إلى أي تقنيات إضافية، وإن كانت التقنية المتمثلة في التهويمات والخيالات الكابوسية قريبة من روح وواقعية النص الروائي ومتولدة منه، لكن كان من الممكن أن تكون الرواية أكثر تأثيرا من غيرها، الكاتب لجأ إليها كجدار وغطاء يتخفى خلفه من اللوم والتقريظ والحياء من مشاهد أو وقائع مخزية ربما تجرح صورته أو صورة الآخرين.

لا أدري لم ذكرتني هذه الرواية السيبرية برواية "الخبز الحافي" للكاتب المغربي محمد شكري، وهي من أشهر ما كتب وترجمت للغات العالم، ونال بفضلها شهرة عالمية، بسبب صدقه في نقل وقائع حياته بكل ما فيها من بؤس ومشاهد مخزية، صدقها وواقعيتها اخترقت مشاعر قرائها، هذه السيرة ربما تكون السيرة العربية الوحيدة المكتوبة بكل هذا الصدق الفادح.

رواية "طفولة ضائعة" بالفعل تنقل وتكشف حالة ضياع أطفال وصبية ومراهقي الفلاحين وبؤسهم، وسرقة أعمارهم وأيامهم بطاحونة الشقاء التي لا ترحمهم.

الرواية محملة بصدق مشاهد مؤثرة وموجعة لضياع الطفولة بحياة ليس لها أي معنى ولا أي قيمة، ولا تحمل نورا مستقبليا لهم، وهذا مقتطف لمشهد موت الوالد في الحقل: "ثم قام ورفع المقطف، وسار وهو عائد أخذ يكح حتى كادت روحه تزهق ووجهه الأسود الذي لفحته الشمس قد ازرق وجحظت عيناه، جريت وأحضرت القلة التي غيرت من هبو التراب الناعم فكان متكئا على حجر وتنفسه ينتظم. وأمسك الفأس وأخذ يضرب في الأرض، والتراب يتطاير حتى لم يعد يرى أمامه ودون أن يدري وبسن الفأس، ضرب فانفلق الحجر بعد أن طق شرارا، وخرجت منه آلاف الحيات الصغيرة الشريرة، بجسدها الصغير الأسود الرفيع، وعيونها الزجاجية، وهي تقفز وتهرول تجاه أبي الذي حاول أن يجري، لكنه سقط في برك، وانهمرت عليه الحيات تلدغه، بقسوة وعنف والسم الأزرق أراه يجري في عروقه، وأنا أصرخ وأبكي ولا أستطيع أن أقترب منه وأنا أراه يموت أمامي".

back to top