صعود «الإسلاميين»... وسقوطهم

نشر في 10-06-2018
آخر تحديث 10-06-2018 | 00:07
اكتشفت القطاعات الغالبة من الجمهور زيف الربط بين العواطف الدينية النبيلة وبين الحكم والسياسة، وهو مكسب كبير لم يكن ليتحقق من دون التكلفة الموجعة الفادحة التي تكبدتها المنطقة بسبب صعود "الإسلاميين".
 ياسر عبد العزيز غداة اندلاع الانتفاضات في عام 2011، كانت المنطقة العربية تبدو وكأنها في طريقها لتصبح "بحيرة إسلامية"، تُستعاد فيها أحلام "الخلافة"، وتظهر في ثناياها إرهاصات "الإمبراطورية" الموعودة، وتتحقق بسببها أمنيات "الخلاص"، والعودة إلى "قيادة العالم وأستاذيته"، بمقومات "القدرة والورع".

كانت تلك أزهى عصور الإسلاميين بحق؛ إذ لم يكونوا أقرب إلى تحقيق أهدافهم في السيطرة والحكم والتأثير من هذا العهد بالذات، منذ انهيار الخلافة العثمانية.

لماذا تسيد "الإسلاميون" المشهد آنذاك؟

ستة أسباب رئيسة حملت "الإسلام السياسي"، بتنويعاته المختلفة، إلى صدارة المشهد، قبل سبع سنوات؛ إذ استطاع "الإسلاميون" أن يفوزوا في عدد من الانتخابات التي اُعتبرت آنذاك "نزيهة"، وأن يشاركوا في الحكم بفاعلية في عدد من البلدان، وأن يهيمنوا على الحراك المجتمعي، وأن يسخروا قطاعاً كبيراً من وسائل الإعلام الجماهيرية لخدمة قضاياهم ومصالحهم.

يكمن السبب الأول في إخفاق عدد من الأنظمة العربية التي أطاحتها الانتفاضات، أو زعزعت مراكزها، في مواجهة التحدي الإسرائيلي، وحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً ومشرفاً.

لقد بنى "الإسلام السياسي" جزءاً كبيراً من تمركزه الاستراتيجي في الواقع السياسي والمجتمعي العربي والإسلامي على معاداة إسرائيل والانتصار للشعب الفلسطيني، ولطالما استثمر الخيبات العربية في هذا الصدد من أجل كشف "عوار الأنظمة وتهافتها"، وقدم نفسه باعتباره "المُخلِص" بتسكين الخاء، و"المُخَلّص" بفتحها، في آن واحد.

أما ثاني تلك الأسباب، فيكمن في إخفاق معظم تلك الأنظمة أيضاً في قضية التنمية، والقدرة على تطوير الاقتصادات القومية، بما يصب في تعزيز الدخل، وتعظيم الموارد، وتحسين حالة المعيشة للملايين من أبناء الشعوب العربية.

وكان السبب الثالث وراء هذا الصعود "الإسلامي" متمثلاً في النزعة الاستبدادية، وشمولية الحكم، في الدول التي شهدت صعوداً لحركات "الإسلام السياسي"؛ إذ قدم "الإسلاميون" أنفسهم للجمهور باعتبارهم أعداء للدكتاتورية، ومخلصين للديمقراطية، وراحوا يتلاعبون بالتأويلات والاجتهادات، من أجل سد الفجوات بين مصطلحي "الشورى" و"الديمقراطية"، وتبرير انخراط بعضهم في الانتخابات، بعدما كانوا يُكفّرون من يأخذ بها كآلية لتداول السلطة.

أما السبب الرابع فيتعلق بتصاعد أثر العاطفة الدينية بين قطاعات مؤثرة من الجمهور العربي، وهو التصاعد الذي لم ينقطع عن تراث ما عُرف بـ"الصحوة الإسلامية"، التي ازدهرت، بحسها التقليدي، وسمتها الطقوسي، في عدد كبير من البلدان العربية، اعتباراً من عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت.

استثمر "الإسلاميون" هذه العواطف، ولعبوا على أوتارها، واستطاعوا من خلالها أن يجذبوا قطاعات كبيرة من المحايدين، وحتى الموالين للأنظمة العلمانية، إلى صفوفهم، بعدما اجتهدوا، بمساعدة المنصات الإعلامية النافذة، في الخلط بين الشعور الديني والموقف السياسي؛ وهو الأمر الذي ظهر جلياً في الانتخابات والاستفتاءات، حينما تم الربط بين التصويت في اتجاه معين و"إرضاء الله" و"نصرة الإسلام"، و"دخول الجنة".

يتعلق السبب الخامس بالبعد الدولي؛ إذ ظهر بوضوح أن ذلك الصعود لم يكن بمعزل عن توجهات وتدابير وخطط غربية.

لقد ظهرت وثائق، وتكشفت وقائع، تشير بوضوح إلى دعم غربي قوي وصلب لحركات "الإسلام السياسي" في عدد من بلدان المنطقة، أو على أقل تقدير عدم ممانعة في وصول تلك الحركات إلى سدة الحكم، مع غض البصر عن مرتكزاتها الاجتماعية والأيديولوجية التي تتصادم مع وجهة النظر الغربية، خصوصاً في مجال التعامل مع الأقليات، أو المرأة، أو ملفات الحريات وحقوق الإنسان.

أما العامل السادس، فيتصل بالبعد الإقليمي؛ إذ لم يكن لهذه الحركات أن تحقق هذا الصعود من دون دعم إقليمي حصلت عليه تحديداً من دولتين بارزتين في الإقليم، وقد اتسع هذا الدعم ليشمل المال، والسياسة، والعمل الاستخباري، والسلاح، والأهم والأخطر من كل ذلك... الإعلام.

ومع انقضاء العام الأول على الانتفاضات، كان "الإسلاميون" قد هيمنوا على 70% من مقاعد البرلمان في مصر، وأصدروا دستوراً يعبر عن مصالحهم ومواقفهم، ووصلوا إلى سدة الرئاسة، كما فازوا في الانتخابات البرلمانية بتونس، وصاروا أغلبية مهيمنة على القرار السيادي، وسيطروا على الأوضاع في ليبيا، وصاروا رقماً صعباً بحيث لا يمكن الحسم على المستوى الوطني من دون مراعاة مصالحهم وانشغالاتهم، وفازوا بالانتخابات في غزة، وتعززت حظوظهم في الأردن، كما وصلوا إلى الحكم في المغرب، بعد فوزهم بالانتخابات البرلمانية في نوفمبر 2011.

يبدو اليوم، وبعد مرور سبع سنوات، أن كل ما فعله "الإسلاميون" آنذاك راح سدى، وأن هذا الصعود عصفت به الرياح.

فلماذا انهزم "الإسلاميون"؟

يمكن تقصي أسباب الهزيمة عبر إعادة فحص أسباب الصعود؛ إذ لم يكن ما فعله "الإسلاميون" عندما وصلوا إلى السطلة أو اقتربوا منها سوى تكريس للأوضاع والمواقف التي ساعدت في وجودهم وصعودهم.

لم يستهدف "الإسلاميون" الذين وصلوا إلى مفاصل السلطة أو تحكموا فيها إسرائيل أبداً، بل راحوا ينسجون علاقة معها قائمة على "المودة والتعاون والاعتراف الكامل"، أو هذا على الأقل ما ظهر من رسالة بعثها الرئيس الإخواني المصري محمد مرسي إلى نظيره الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز.

حدث إخفاق واضح في ملفات التنمية بطبيعة الحال، وظهر أن "الإسلاميين" لا يمتلكون طبقة من الكوادر السياسية والتنفيذية القادرة على قيادة عملية التنمية، لكن الأخطر من ذلك أنهم أظهروا ميلاً للاستبداد والعنف والحكم الشمولي فاق في بعض الأحيان ما فعله أسلافهم العلمانيون.

وبموازاة تغير واضح في التوجه الغربي الداعم لهم، بعد انكشاف تهافت قدراتهم، استطاعت دول عربية رئيسة أن تحد من قدرة بعض الدول الإقليمية على دعم حركات "الإسلام السياسي"، عبر سياسات فعالة وحاذقة.

أما العاطفة الدينية، فقد تكفل بتقويم أثرها ما فعله تنظيم "داعش" حين هيمن على الأوضاع في مساحات شاسعة في سورية والعراق، وما فعله تنظيم "الإخوان" حين هيمن على مفاصل الحكم في مصر.

لقد اكتشفت القطاعات الغالبة من الجمهور زيف الربط بين العواطف الدينية النبيلة وبين الحكم والسياسة، وهو مكسب كبير لم يكن ليتحقق من دون التكلفة الموجعة الفادحة التي تكبدتها المنطقة بسبب صعود "الإسلاميين".

* كاتب مصري

«الإسلاميون» أظهروا ميلاً للاستبداد والعنف والحكم الشمولي فاق أحياناً ما فعله أسلافهم العلمانيون

«الإسلام السياسي» بنى جزءاً كبيراً من تمركزه الاستراتيجي في الواقع السياسي والمجتمعي العربي والإسلامي على معاداة إسرائيل والانتصار للشعب الفلسطيني
back to top