قلة أدب في الأدبيات

نشر في 02-06-2018
آخر تحديث 02-06-2018 | 00:05
 جري سالم الجري الأدب له علاقة بالدأب، أي المسلك أو المنهج... وكل كلام يقوله العاقل لا يكون إلا معلومات معرفية ومحفزات شعورية، وما الأدب إلا ترتيب لتلك المعلومات بتسلسل يعطي منطقاً، وبفن لبق من أجل أن يسحر المتلقي، وهو ما يشبه فن الطبخ، حيث تكون الأطباق فيها الحامض والمر والحلو، وكذلك تكون القصة في المسلسل أو الرواية، يبدأ الاستفزاز ثم التشويق ثم الصدمة، ثم إرضاء المشاهد بالخاتمة بعودة الحبيب... فلماذا أرى أن قلة الأدب واجبة... في الأدبيات؟

بوصفي خريجاً بآداب اللغة الإنكليزية ومطلعاً على ترجمات أدبيات مختلفة، كالروسية والفرنسية والإسبانية، أرى كل كاتب عظيم، سواء ألف رواية أو كتب نص مسلسل، نجح لأنه تمرد على المجتمع لغرض نبيل، وليس بقاعدة خالف تعرف، فلا يبنغي على القارئ الفطن أن يحصر التمرد على الأدب في أن يكون جنسياً أو انقلابياً سياسيا، فكما أوضحت في بداية المقالة، الأدب هو الانتظام في سياق عام، فكيف سيبدع أي أديب إذا كان كل فنه مجرد "تحنط" في قالب السياق العام؟

قام الباحثون الروسيون بدراسة أنماط أدبيات البطولة الكلاسيكية فوجدوا هذا التقسيم العالمي الموحد لأدوار الشخصيات: "بطل ـ أميرة ينقذها ـ الشرير ـ مساعد البطل ـ الواهب للبطل قدراته الخاصة".

وعلى ذلك متوقع جدا أن نرى كل أفلام الأبطال لا تخلو من هذه الشخصيات، من باتمان وسبايدرمان، حتى شاروخان الهندي وكمال سونال التركي رحمه الله. غير أنه في أكثر الأفلام العصرية رواجا تكون شخصية البطل معاندة لهذا التنسيق الكلاسيكي، فيكون هو بذاته مجرما، ولكنه مثلا صاحب رسالة نبيلة، مثل أفلام كثيرة من ضمنها (ديد- پول). ولكن بعيدا عن ادبيات السينما نعود إلى الأدبيات التراثية، مثل مصطفى محمود وشيكسبير، لأختم مقالي مؤكداً ضرورة الاستغناء عما يألفه المجتمع.

لم يكن شكسبير مرحبا به من أكاديميي زمانه، فكان يناضل العنصرية تجاه الملونين، ومن هنا أعطى دور البطولة لأسود يعشق بيضاء، وكانت كتاباته من حيث اللغة سرطاناً على الـGrammar أو القواعد الإنكليزية، طيشه الفني لم يعتبر إبداعاً إلا بعدما حفز في الناس مشاعر لم يذوقوا مثل تفاعلات مركباتها من قبل، ووصل بتسلسلاته الفكرية الغريبة إلى نتائج إنسانية جديدة على فلسفة الناس السائدة، فكان في النهاية هو شيكسبير الذي يضربون به المثل.

وأما مصطفى محمود، ففي رأيي الشخصي، لا أؤيد كل كتاباته الدينية، ولكنني أرى في رواياته تطبيقاً لمقاصد مقالتي، مثل رواية العنكبوت، التي خلط فيها بين طب فسيولوجيا المخ ومعان روحانية عن فلسفة الذات، حيث يجعل القارئ في رحلة بين الشك واليقين في ذاته، فهل الروح هي نفسها المخ أم أن المخ هو مجرد مركبة للذات؟ فلم يتقيد مصطفى محمود، رحمه الله، بالإطار الثقافي العربي الممل، الذي لا يُعتبر في أغلب الأحيان سوى تكرير للحبك مع اختلاف الأشخاص والأماكن، فرواية العنكبوت كانت عن اختراع يتيح للشخص الخوض في "حيوات" كائنات مختلفة، من كل زمان ومكان بتاريخ كوكبنا، ولك أن تتخيل مدى التعقيدات الدرامية التي تحصل لتلك الذات التي عاشت في قوالب أكثر من حياة.

هل عرفنا سبب تراجعنا في الأدب العالمي؟ إنها ضريبة الخضوع للتعليم القمعي الذي يُنجح الببغاوات، ويُرسِّب كل مصطفى محمود وشيكسبير بيننا.

back to top