الصين بين «ماو» و«بينغ» (3-3)

نشر في 31-05-2018
آخر تحديث 31-05-2018 | 00:10
 خليل علي حيدر نجحت الصين الجديدة في تجنب الكثير من تحديات وكوارث حركة التغيير في روسيا التي رافقت انهيار النظام الاشتراكي، غير أن الصين رغم ذلك لم تنج من فضيحة سياسية نقلتها أجهزة الإعلام العالمية، ولا تزال أصداؤها تتردد منذ مايو 1991.

وفي حين كان الجميع يتابع توالي الأحداث في بلدان أوروبا الشرقية انفجرت حالة الاضطراب الاجتماعي في الصين، وانتهت بمذبحة.

وارتفع صوت المطالبين بالديمقراطية بقيادة الطلاب في ميدان "تيانانمين" في بكين، غير أن الحكومة الصينية بعد أسابيع من استمرار هذه الاحتجاجات أعلنت الأحكام العرفية في 20 مايو، وأرسل قادة الصين، بمن فيهم "دنغ"، الجيش إلى بكين لسحق الاحتجاج، فتدفق الملايين من سكان بكين إلى الشوارع لمساندة الطلاب، وصارت السيدات يعنفن الجنود، واتحد الجيران لوضع المتاريس في طريق مصفحات ودبابات الجيش، وفي الهزيع الأخير من الليل وصباح الرابع من شهر يونيو بدأ الجنود بإطلاق النار على المواطنين، ولقي من رفض من الطلاب مغادرة الميدان مصرعه، واعتلى بعضهم أسطح الدبابات وأصاب الرصاص البعض في ظهورهم، ولقي الآلاف مصرعهم، وتقول مؤلفة كتاب "الفيل والتنين" روبين ميريديث إن دوريات الجيش بدأت العمل على حفظ النظام، ولكن وقع في وضح النهار حدثٌ "يُعتبر من أكثر المشاهد إثارة في معرض المواجهات المأساوية، إذ في اليوم التالي للمذبحة وبينما طابور من الدبابات يزمجر على طول الطريق المسمى السلام الأبدي على امتداد ميدان تيانانمين ظهر رجل نحيف الجسم يرتدي قميصا بسيطا أبيض اللون وبنطالا أسود وخطا بعض خطوات، وثبت أمام دبابة وظل في مكانه بلا حراك، وتوقفت الدبابة على بعد بضع بوصات منه، ودارت كاميرات التلفاز وتسمر المشاهدون، ودارت الدبابة وكأنها تلتف حول هذا الصيني من العامة، وتحرك الرجل الأوحد ناحيتها ليعوق سيرها متحديا السائق أن يدوس فوقه. وترددت الدبابة ثانية، وجرى شخص ما ليجذب الرجل الوحيد بعيداً، ولنسمه كما سماه الصينيون في المنفى "رجل الدبابة" ولكن شجاعته وتحديه حدثان يتذكرهما العالم كله". (ص39).

اختارت القيادة الصينية علنا منذ ذلك اليوم الخبز على الحرية، وتوفير الأرصدة المالية على حساب صناديق الاقتراع، وكان لافتا للنظر تعمّد حركة الإصلاح والانفتاح قتل الآلاف من الصينيين لضمان نجاح الرأسمالية الوليدة في الصين!

وبعد إصلاح الريف في الصين ثم بعض المدن بفضل المناطق الاقتصادية الخاصة، شرع "دنغ" في بذل جهود أكبر للتحديث مستخدما خطط السنوات الخمس لرسم خطوات التحرك والمناهج الاشتراكية لبناء الرأسمالية، وتقول الباحثة "تشبت دنغ هسياو بينع بتقنية التخطيط التي اتبعها ماو، ولكن دنغ ربطها بنهج سنغافورة في التطوير بادئا بالبيئة الأساسية".

وشيدت الصين شبكة توليد قوى جديدة وحديثة تنتج قرابة أربعة أمثال طاقة مولداتها، وأدرك الرسميون الصينيون أن جذب المزيد من الوظائف يستلزم توفير طرق سريعة، وموانئ وطرق وسكك حديدية، ومطارات حديثة، وشيدت الصين موانئ للشحن من بينها ميناء قرب شنغهاي من المتوقع له أن يكون أضخم ميناء في العالم، وتخطط الصين لمد طرق تصل الى 62 ألف ميل تكتمل عام 2020 علاوة على مئة مشروع سكك حديدية تعمل بالفعل الآن، ويوجد في الصين المئات من المناطق الاقتصادية التي تنظمها الحكومة المركزية، كما يوجد فيها أكثر من ألف منطقة أخرى تديرها حكومات المقاطعات، وحيثما أرادت الشركات الأجنبية فتح مصانع في الصين أصرت الحكومة على أن تستخدم الشركات الأجنبية عمالا صينيين، وأن تعلمهم كيفية استخدام أحدث تقنياتها مما أدى، تضيف الباحثة، "إلى تدفق طوفان أغرق بلدا متخلفا تكنولوجيا بالخبرة التقانية الجديدة، ومن ثم حفز الثورة الصناعية لتمضي سريعا على طريق الإنجاز، وهكذا تستخدم الصين الآن خليطا غير مسبوق من النماذج الاقتصادية، إذ لا يزال الاقتصاد جزئيا تخططه الدولة ومملوكا للحكومة، الأثر الباقي الراسخ من الماضي الشيوعي، ولكن جزءا كبيرا موجها نحو السوق الآن. والحقيقة أن الاقتصاد الصيني عصيّ على الوصف، إنه ليس شيوعيا بالكامل بيد أنه أيضا ليس رأسماليا تماما. ويقول كينيث ليبيرتال الخبير بالشؤون الصينية في جامعة ميتشغان إذ يصف النظام الصيني بأنه رأسمالية بيروقراطية بينما يسميه جون غيتنغز الباحث في الشؤون الصينية "رأسمالية دولة"، بيد أنه من اليسير علينا تماما وصف النظام السياسي الصيني أنه دكتاتوري تسلطي، ولا تزال الصين مجالا خاضعا للحزب الشيوعي، إذ لا يزال قادرا على مراقبة الصحافة وقمع المنشقين وتجنب الديمقراطية". (ص46).

حققت الحركة الإصلاحية في الصين الكثير، وعلى الرغم من المكاسب الاقتصادية التي حققتها للأمة، في تقييم المؤلفة، فإن الكلفة البشرية لصعود الصين كانت فادحة، وخصوصا بالنسبة إلى الفلاحين الذين "نالوا حصة ضئيلة من المنافع، وظل دخلهم مجمدا"، من ناحية ثانية، تضيف الباحثة، كانت التنمية محفوفة بمخاطر كبيرة بسبب ما سببته من تلوث مروع في الماء والهواء، ويقع اللوم في الغالب على رسميين محليين يتقاضون رشا بغية إغماض عيونهم عن انتهاك أسباب الأمان. ولقي قرابة 5 آلاف من عمال المناجم حتفهم عام 2006 في الصين مقابل 47 عاملا فقط في الولايات المتحدة على سبيل المثال.

وتحاول الحكومة منذ فترة الاستفادة من الأسعار الحالية للعقار، وبناء أكبر قدر من العمارات والشقق قبل أن ترتفع أسعار الأراضي أو تنتشر القيم الجديدة "ذلك لأن القاطنين حين يصبحون أكثر ثراء سوف يكون الأمر أشد صعوبة إذا ما أراد منهم المسؤولون عن التنمية إخلاء أراضيهم".

وكانت الصين قد فرضت منذ عام 1979 سياسة الطفل الواحد لكل عائلة، وكانت هذه السياسة مفروضة بالقوة، و"كانت إدارة لتنظيم الأسرة تضم 300 ألف عامل، وهؤلاء مسؤولون عما لا يقل عن عشرة ملايين حالة إجهاض قسرية وعشرة ملايين حالة تعقيم في السنة الواحدة".

ولكن هل نجحت تلك السياسة؟ "وعلى الرغم من أن بعض الأسر استطاعت تجنب القوانين، يقول الرسميون الصينيون: إنه لولا سياسة الطفل الواحد لأصبحت الصين الآن تضم أكثر من 400 مليون مواطن علاوة على الموجودين الآن".

ماذا عن الحرية الفردية؟ تقول الباحثة "لا تزال الحكومة الصينية الآن، شأنها في عهد ماو، تضع ما تراه متطلبات الدولة في المقدمة قبل الحرية الفردية، إذ تحاول الصين الحفاظ على الاستقرار ولو بقمع المنشقين سياسيا، وكذا مراقبة الإنترنت والصحف والمجلات والتلفاز. وتكفي الإشارة إلى أن الصين تحظر مناقشة مذبحة تيانانمين حتى بعد مضي أكثر من ثمانية عشر عاما على الواقعة، ويحتفل بذكراها سنويا بإشعال الشموع في هونغ كونغ، بينما الصحف في الصين الأم محظور عليها ذكر أي شيء عن ذلك، وجدير بالذكر أن طلاب جامعة بكين التي تمثل القمة بين جامعات الصين يردون بنظرات مشدوهة إذا ما عرضت عليهم الصورة الشهيرة للرجل الذي واجه بصدره الدبابة في ميدان تيانانمين، ولا تزال أجهزة الإعلام في الصين الخاضعة لإشراف الدولة ممنوعة من نشر هذه الصورة المشهورة والمعروفة في كل بقية العالم".

ما موقف الصينيين كشعب من كل هذه السياسات والإصلاحات الإرادية والقسرية؟

تقول الباحثة: "على الرغم من استمرار الرقابة السياسية فإن صعود الصين اقتصاديا نقل الأمة نقلة كبيرة إلى أمام، واستفادت الغالبية العظمى من الشعب فوائد جمة، ويقول معظم الصينيين إنهم الآن أفضل حالا بكثير مما كانت أسرهم عليه منذ جيل مضى، وطبيعي أن كل شيء الآن يمثل تحسنا كبيرا قياسا إلى مظاهر المجاعات في عهد ماو. انتقل الفلاحون من مجرد كسب 16 دولارا في المتوسط في العام الواحد إلى كسب 317 دولارا في السنة على مدى خمسة وعشرين عاما، بينما ارتفع المتوسط القومي إلى 1.023 دولارا ومع حلول عام 2007 بلغ متوسط الدخل نحو ألفي دولار، وثمة وسائل أخرى لقياس المكاسب، إذ في عام 1978 كان الصينيون على غير إرادتهم نباتيين رغما عن إرادتهم، إذ مثلت اللحوم 5 في المئة فقط من نظامهم الغذائي، ولكن بحلول عام 2005 قفزت هذه النسبة الى 25 في المئة". (ص 48-49).

ولكن الفلاحين كما ذكرنا دفعوا ثمنا فادحا لهذا التحسن الكبير في المستوى المعيشي، تقول المؤلفة: "نرى الآن جموعا غفيرة من الفلاحين الغاضبين، إذ تحول عشرات الملايين منهم الى معدمين لا يملكون أرضا خلال السباق المحموم من أجل بناء المصانع والبنيات الأساسية. وبات الفلاحون الآن يستأجرون لأنفسهم أراضي من القرية الجماعية بدلا من العمل لحسابهم مباشرة، ولكننا نرى أيضا كثيرين ممن انتزعت أراضيهم التي سهروا على حرثها واستولى عليها بطريقة غير شرعية الموظفون المحليون الفاسدون الذين يجنون أرباحا ضخمة لحسابهم الشخصي عن طريق بيعها للقائمين بالتطوير، ويحصل الفلاحون عادة على تعويض هزيل، ويحتج آخرون على الفساد المتفشي الذي خرب الأراضي الزراعية ولوث الماء، بحيث لم يعد صالحا للشرب. إنهم وراء نحو 87 ألف احتجاج يوميا في مختلف أنحاء الصين".

لقد تحولت الصين اليوم إلى قوة اقتصادية عظمى واسعة الثراء تشهد تحولات متسارعة، وفي مناطق كثيرة تحولت حقول الأرز إلى مصانع، وتوافرت للناس ملايين الوظائف، وارتفعت الدخول على نحو غير مسبوق.

لقد كانت في شنغهاي عام 1978 ما لا يزيد على 15 ناطحة سحاب، ولكن بحلول عام 2016 أصبح فيها 2780 ناطحة سحاب، متجاوزة في ذلك أعداد ناطحات السحاب في شيكاغو ولوس أنجلوس مجتمعتين.

وتقول المؤلفة: "بينما تعانق أبراج الصين السماء لا تزال صور ماو تطل على الصين، ولكن مع نزر يسير من فلسفته". البعض لن ينسى أيام ماو!

يتذكر أحد الصينيين أنه عندما كان لا يزال صبيا كان رجال "ماو" من الحرس الأحمر يقومون في منتصف الليل بزيارة المرأة العجوز التي تعيش في البيت الملاصق لأسرته، وحدث أن زوجها انتقد الشيوعيين قبل وفاته، ولهذا السبب وضع الحزب اسمها ضمن القائمة السوداء، ولا يستطيع الصيني أن ينسى الضوضاء التي كانت تخترق صمت الليل!

طلب رجال الحرس الأحمر الى السيدة الركوع فوق خشب صلب، وانهالوا عليها ضربا، ظلوا يضربونها في الليلة الأولى ساعة كاملة!

ويقول الصيني متذكرا تلك العجوز المسكينة، وما تعرضت له من عذاب على يد الحرس الأحمر، كانت تصرخ صراخا عاليا كأنه عواء، وعاد الحرس ثانية وأخذوا كل ما تملك في البيت، ثم ضربوها خمس مرات على مدى الأسبوعين التاليين.

تولى الرئيس الحالي "شي جين بينع" (مواليد 1953) Xi Jinping الحكم في 14 مارس 2013، وكان في منصب الأمين العام للحزب الشيوعي منذ 15 نوفمبر 2012، وهو الرئيس السابق لجمهورية الصين الشعبية.

هل النظام الصيني صالح للتطبيق في دول أخرى؟ سنرى ذلك في مقال قادم!.

back to top