زين المواصف تحوِّل حبيبها الغني إلى متسوِّل (9 - 30)

نشر في 25-05-2018
آخر تحديث 25-05-2018 | 00:00
توقفنا في الحلقة السابقة عند أحداث الليلة السادسة والأربعين بعد الأربعمئة، حينما ذهب التاجر مسرور إلى صديق يفسر له حلمه، فذهب إلى أحد القصور اليانعة ذات الخضرة البديعة، فرأى صبية جميلة تدعى زين المواصف، فازداد إعجاباً بظرفها وأدبها، مع فرط حسنها ولطافة حديثها، وجلس عندها بعض ساعة. ولما أقبل الليل، أمرت زين المواصف بإحضار الطعام والشراب، وسرعان ما وضعت بين أيديهما مائدة فيها مختلف الألوان، حتى طلبت منه أن يلعبا الشطرنج، لكنها اشترطت عليه أن تحصل على عشرة دنانير كلما انتصرت عليه في اللعب، وأن يطلب ما يشاء إذا انتصر عليها.

انتهينا في الحلقة السابقة إلى أنه لم يزل يلعب معها وهي تغلبه ويدفع لها في كل مرة عشرة دنانير، إلى أن قالت له: نلعب الدور بمئة دينار لعلك تعوِّض خسارتك، فوافق على ذلك، لكنه استمر في الخسارة أيضاً، إلى أن انتهت السهرة، وخسر كل ما كان معه من المال. ثم، استأذن في الذهاب إلى منزله حيث جاء بأموال كثيرة أخرى.. في هذه الحلقة نستكمل حكاية شهرزاد عن زين المواصف والتاجر مسرور.

اقرأ أيضا

لما كانت الليلة السابعة والأربعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف لما سمعت شعر مسرور التاجر، تعجبت من فصاحته، ولم تزل تلاعبه ثلاثة أيام، وتغلبه في كل مرة، حتى أخذت منه جميع ما أحضره من الأموال، ثم سألته: هل تريد أن ألاعبك على دكان العطارة؟ فأجابها: نعم، وهو يساوي خمسمئة دينار نلعب بها خمسة أشواط. ثم لعبت معه الأشواط الخمسة فغلبته فقال لها: لاعبيني على ما عندي من الجواري والعقارات والبساتين. فلعبت معه عليها وغلبته أيضا!

ثم قالت له: هل بقي عندك شيء تلعب به؟ فقال لها: وحق من أوقعني في شرك محبتك، ما بقيت يدي تملك قليلاً ولا كثيراً. فقالت له: كل شيء أوله رضا لا يكون آخره ندامة. ولكن إذا كنتَ قد ندمت، فخذ مالك واذهب عنا في سبيلك. فقال لها مسرور: والله لو أردت أخذ روحي لكانت قليلة في سبيل رضاك، فما عشقت أحداً سواك.

فقالت له: ما دام الأمر كذلك فاذهب واحضر القاضي والشهود، لنكتب عقداً بجميع ما ربحته منك، فردّ: حباً وكرامة. ثم نهض وتوجه إلى القاضي والشهود وأحضرهم عندها، وما رآها القاضي حتى طار عقله وذهب لبه وتبلبل خاطره من جمالها ودلالها، وقال لها: يا سيدتي لا أكتب لك الدكان والعقارات والجواري، إلا إذا كانت كلها في حيازتك، فقالت له: أنا واثقة في ذمة صاحبها. فسكت القاضي وكتب الحجة ووقع عليها الشهود، ثم صرفتهم بعدما أخذت الحجة، وقالت لمسرور: اذهب في سبيلك أنت أيضاً. فنهض وهمّ بالانصراف وهو يبكي آسفاً على فراقها، فقالت له جاريتها هبوب: أنشدنا شيئاً من الأشعار في شأن لعب الشطرنج، وما أصابك بسببه، ففاضت عيناه بالعبرات وأنشد هذه الأبيات:

أشكو الزمان وما قد حل بي وجرى

من الخسائر في الشطرنج إذ حضرا

لاعبت غانية بيضاء ناعمة

وطالما قبلها قد كنت منتصـرا

لكنها بسهام من لواحظها

قد صيرتني عديم العقل منكسرا

صفت أمامي جيوشاً من محاسنها

ونازلتني وقالت لي: خذ الحـذرا

لم أستطع لذهولي أن أبارزها

والوجه صير مني الدمع منهمـرا

وخيرتني بين العسكرين معا

فاخترت تلك الجيوش البيض مقتمرا

وقلت هذه الجيوش البيض أصلح لي

وسوف ألقى جيوش الحمر مقتدرا

ولاعبتني على رهن رضيت به

فضاع مالي وما قضت لي وطرا

يالهف قلبي ويا شوقي ويا حزني

على وصال فتاة تشبه القمرا

وصرت حيران مبهوتاً على وجل

أعاتب الدهر فيما تم لي وجرى

قالت: أراك سليب العقل، قلت لها:

هل شارب الخمر ذو عقل إذا سكرا

حسناء هيفاء مثل الغصن قامتها

لها فؤاد عنيد يشبه الحجرا

أطمعت نفسي وقلت اليوم أملكها

مدى الزمان ومنها أقطف الثمرا

فصرت عبداً أسير الحب تملكني

ولا أرى لي عنها قط مصطــــــبرا

لما سمعت زين المواصف هذه الأبيات، تعجبت من فصاحة بيانه، وقالت له: دع عنك هذا الجنون، وارجع إلى عقلك وامض عنا في سبيلك، فقد أفنيت مالك وعقارك في لعب الشطرنج، ولم تبلغ غرضك، وليس هناك أمل في وصولك إليه. فالتفت مسرور إلى زين المواصف وقال لها: يا سيدتي، اطلبي أي شيء، وكل ما تطلبينه أجيء به إليك وأحضره بين يديك. فقالت له: أنت ما بقي عندك شيء من المال، فقال لها: يا منتهى الآمال، إذا لم يكن عندي شيء من المال، فإن عندي كثيراً من الرجال، وكل شيء أطلبه منهم ينفذونه في الحال وبلا جدال!

فقالت له: أريد منك أربع نوافج من المسك الأذفر، وأربع أوقيات من الغالية، وأربعة أرطال من العنبر، وأربعمئة حلة من الديباج الملوكي المزركش، فإن جئت لي بها، ومعها أربعة آلاف دينار من الذهب، ملكتك نفسي. فقال لها: هذا عليّ هين يا مخجلة الأقمار. ثم ودعها وخرج من عندها ليأتيها بما طلبته منه، فالتفتت إلى هبوب الجارية وقالت لها: اتبعيه من بعيد لتنظري ما يكون من أمره. فقالت الجارية: سمعاً وطاعة.

بينما كان مسرور سائراً في شوارع المدينة، إذ لاحت منه التفاتة، فرأى الجارية وهي تمشي خلفه على بعد، فوقف إلى أن لحقت به، وقال لها: إلى أين أنت ذاهبة؟ فقالت له: إن سيدتي أرسلتني خلفك لأرى ما تفعل لإجابة ما طلبت منك. فقال لها: والله يا هبوب، إن يدي لا تملك شيئاً من المال، ولا أعرف أحداً يمكن أن يعطيني درهماً. ولكني لم أتمالك نفسي من شدة وجدي وتعلقي بحب سيدتك زين المواصف، فوعدتها وأنا لا أدري كيف أنجز وعدي.

لقاء الأحبة

لما كانت الليلة الثامنة والأربعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية هبوب لما سمعت كلام مسرور التاجر، قالت له: طب نفساً، وقر عيناً، وما دمت مخلصاً في حبك لسيدتي هكذا فلا بد من أن أجمع بينكما، إذ إنها لا يصلح لها سواك. ثم تركته ينتظرها في الطريق، ورجعت إلى سيدتها، وقالت لها وهي تبكي: والله إنه رجل كبير الهمة كريم النفس. وقد ضحى بكل ما يملك، ولكنه ما وجد عندنا قلباً رحيماً، لأننا أخذنا ماله، وبخلنا عليه بما يستحقه من العطف والشفقة...

فقالت لها زين المواصف: نعم يا هبوب، إن إخلاصه لا شك فيه، ولكن أخشى إذا بلغته مراده أن يشيع الخبر، فنكون مضغة في أفواه الناس. فقالت لها هبوب: يا سيدتي أنت ما عندك إلا أنا وجاريتك سكوب، ولن نقدر أن نتكلم عنك إلا بما يسرك ويرضيك. فأطرقت زين المواصف لحظة، ثم قالت: الرأي عندي أن أرسل خلفه الآن كي يرجع إلينا ولا ندعه يسأل أحداً من اللئام فما أمرّ السؤال، ثم دعت بدواة وقرطاس، وكتبت هذه الأبيات:

دنا الوصل يا مسرور، فلتهن بالوصل

وهيا بنا داخل القصر بالليل

ولا تحسبني في هواك بخيلة

فقد كنت في سكري وقد رد لي عقلي

وما لك مردود عليك جميعه

وزدتك يا مسرور فضلا عن فضل

لأنك ذو نبل وصبر وهمة

وليس صدودي عنك من شيمة العدل

ثم طوت الكتاب، وأعطته لجاريتها هبوب، فأخذته ومضت به إلى مسرور، حيث وجدته يبكي وينشد قول الشاعر:

يهب على قلبي نسيم من الجوى

فأبكي دماً من فرط وجدي ولوعتي

وقد زادني وجداً صدود أحبتي

وذاب فؤادي في جداول عبرتي

وعندي من الآلام ما إن أبح به

لصُم الحصى يوماً لرقَّت لحالتي

ألا ليت شعري هل أرى ما يسرني

وأحظى بما أرجوه من نيل بغيتي

وتطوي ليالي الصد من بعد نشرها

وأبرأ مما كان في الأصل علتي؟

وما كاد ينتهي من الترنم بتلك الأبيات، حتى ظهرت أمامه هبوب وناولته الكتاب، فأخذه وهو يقول لها: ما وراءك من أخبار سيدتك؟ فقالت له: إن في هذا الكتاب ما يغني عن رد الجواب، وأنت من ذوي الألباب، ففض الكتاب وقرأه ثلاث مرات، ثم أنشد يقول:

ورد الكتاب فسرنا مضمونه

وأردت أني في الفؤاد أصونه

وازددت شوقا عندما قبلته

والدمع من فرحي استفاض هتونه

وبعد أن شكر الجارية على جميل سعيها، كتب البيتين في ورقة، وطلب منها أن تسبقه بها إلى سيدتها، فأخذتها منه ورجعت إلى زين المواصف، فسلمتها إليها، وأخذت تحدثها عن مسرور وما شاهدت من إخلاصه وكرمه، وحسن أخلاقه، فقالت لها زين المواصف: لماذا أبطأ في الوصول إلينا؟ فقالت لها هبوب: أنت طلبت منه أن يأتي بالليل، فقالت: نعم، لقد تذكرت ذلك الآن.

ولما أقبل المساء، توجه مسرور إلى قصر محبوبته زين المواصف، فلما رأته رحبت به وأجلسته إلى جانبها، ثم قالت لجاريتها هبوب: هاتي له بدلة من أحسن ما عندنا. فقامت هبوب وأتت له ببدلة مطرزة بالذهب والجواهر، كما جاءت لسيدتها ببدلة من أفخر الملابس، ووضعت على رأسها تاجاً من اللؤلؤ، وعصابة من الديباج مكللة بالدر والجواهر واليواقيت، وأرخت من تحت العصابة سالفتين، ووضعت في كل سالفة ياقوتة حمراء مرقومة بالذهب الوهاج، ثم أرخت شعر سيدتها على كتفيها وظهرها وبخرتهما بالعود والمسك والعنبر وهي تقول لهما: أسأل الله أن يحفظكما من العين، ثم أخذت تتأمل في محاسن سيدتها، وأنشدت هذه الأبيات:

خجلت غصون البان من خطواتها

وسبت نهى العشاق من نظراتها

والوجه تحت الشعر بدر في الدجى

والصدر فيه الحلو من ثمراتها

طوبى لمن قد أسعدته بحسنها

وسقته صافي نيلها وفراتها

فشكرتها زين المواصف، ثم أقبلت على مسرور، بطلعتها التي تخجل البدور، وقالت له: أنستنا بالحضور، فقال لها: والله ما أدري هل أنت إنسية، أم أنت حورية؟

وبعد ذلك وضعت أمامها مائدة الطعام، ثم مائدة المدام، فأكلا وشربا، ثم أخذا يتبادلان العزف والغناء، وهما في منتهى الطرب والانتشاء، إلى أن ترنم منشداً:

عجبت لعين لم تمل لجمالها

وقلب نجا من أسره بدلالها

وليس لها في عصرها من مشابه

للطف معانيها وحسن خصالها

ويحسد غصن البان لين قوامها

إذا خطرت في قدها واعتدالها

بوجه منير يخجل البدر في الدجى

وأهدابها ترمي سهام نبالها

إذا خطرت في الأرض فاح عبيرها

نسيما سرى في سهلها وجبالها

قصائد غزل

لما كانت الليلة التاسعة والأربعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما سمعت شعر مسرور، تعجبت من فصاحته، وقالت له: أنت يا مسرور أكلت خبزنا وملحنا، فوجب حقك علينا، ولكن من حقنا عليك ألا تطمع في غير مالك، وعلى هذا سأعطيك الآن كل ما أخذناه منك من الأموال وغيرها، ثم تمضي في سبيلك. فقال لها: أنت في حل من قتلي إذا كان هذا يرضيك، وليس لي حاجة بمال ولا عقارات، لأنك كل أملي في الحياة. وقالت لها جاريتها هبوب: يا سيدتي أستحلفك بالله العظيم أن تجبري خاطره، ولا تحرميه من البقاء معنا في هذه الليلة. فردّت: لا يكون إلا ما تريدينه. جددي لنا مجلساً. فنهضت الجارية وجددت مجلساً، وزينته وعطرته بأحسن العطر، ثم أحضرت المدام، ودارت الكؤوس، إلى أن تمايلت الرؤوس، وانتشت النفوس، ولم تعد زين المواصف تتمالك عواطفها، ثم ردت له جميع ما أخذته منه، وقالت له: أنت الليلة ضيفي، وكل ما تطلبه يكون لك ولو طلبت روحي، وفي غد أكون في ضيافتك في دارك، فقال لها: هذا والله فوق ما كنت أتمناه.

ولم يزل عندها في طرب وسرور إلى أن طلع النهار، فانصرف إلى منزله، وأمر جواريه أن يصنعن طعاماً فاخراً، وأن يهيئن مجلساً حسناً وصحبة عظيمة، ثم دعا زين المواصف إلى داره هي وجواريها، فأكلوا وشربوا وطربوا، ثم قالت له: خطر في بالي شعر رقيق، أريد أن أغنيه على العود. فأمر مسرور بإحضار العود وأعطاه لها فأخذته وأصلحت أوتاره، وأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:

قد مال بي طرب من الأوتار

والوقت طاب وطال بالأسحار

والحب أسفر عن فؤاد متيم

بادي الهوى متهتك الأسـتار

والخمر قد رقت وراق

مزاجها

وتلاقت الأفكـار بالأفكار

في ليلة جادت لنا

بسرورها

ومحت جميع شوائب

الأكدار

لما فرغت من شعرها، وهو مفتون بحسنها وسحرها، قالت له: أنشدنا من أشعارك، ومتعنا بأطايب ثمارك، فأنشد هذين البيتين:

طربنا على بدر يدير مدامة

وأنغام عود طاب منها مقامنا

فهل بعد هذا للمحب سعادة

وما هو إلا غاية القصد والمنى؟

لما فرغ من شعره، قالت له زين المواصف: أنشدنا شعراً في ما وقع لنا، إن كنت مشغولاً بحبنا... فقال لها: حباً وكرامة، وأنشد هذه القصيدة:

فطربت زين المواصف من هذه القصيدة طرباً عظيماً، وقالت له: يا مسرور، قد دنا الصباح، ولم يبق إلا الرواح.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد

الخادمة هبوب ساعدت العاشق المسكين لكنه لم يصل إلى مراده من «زين المواصف»

مسرور ظلّ محباً وفياً لزين المواصف وحين طلبت منه أن يأتيها بالذهب وافق راضياً
back to top