«خيراً تعمل... شراً تلقى»!

نشر في 20-05-2018
آخر تحديث 20-05-2018 | 00:03
No Image Caption
انتهى الدكتور محمد، الأستاذ المساعد في كلية الزراعة بجامعة القاهرة من إلقاء محاضرته اليومية على الطلبة... ولملم الأستاذ الشاب أوراقه وغادر قاعة المحاضرات عائداً إلى حجرة الأساتذة. في الطريق، رن جواله ليجد على الطرف الآخر أحد أقاربه يذكره بموعد انعقاد الجلسة العرفية التي سيحكم فيها الدكتور محمد بين طرفي النزاع الذي دبّ بين عائلتين شهيرتين ببلدته التابعة لمحافظة قنا.
في إحدى الشقق الواسعة في حي روض الفرج بالقاهرة... والخاصة بأحد أقارب الدكتور محمد، انعقدت المحكمة العرفية، وحضر الطرفان المتنازعان وعدد كبير من أقاربهما، كذلك وصل في الميعاد الدكتور محمد وبقية أعضاء هيئة التحكيم العرفية.

بدأ الجميع الجلسة بقراءة الفاتحة وتعهد الطرفان المتنازعان بالالتزام بالحكم الصادر عن المحكمة العرفية بعدما اختاروا محمداً ليكون الحكم الأساسي في الجلسة لمكانته العلمية والعائلية في بلدتهم.

بعدما استمعت هيئة المحكمة العرفية إلى تفاصيل النزاع، بداياته وأسبابه ونهاياته... كذلك إلى شهادة الشهود، وبعد كرٍّ وفر من الطرفين، إذ شدّد كل طرف على أحقيته... جاء موعد النطق بالحكم في النزاع. تشاور الدكتور محمد مع أعضاء هيئة المحكمة العرفية نحو ساعة من الوقت، وبعدها أعلن أستاذ الجامعة والحكم العرفي الأساسي قراره في النزاع بتغليب طرف على الآخر.

وكعادة المحاكم العرفية تقبّل طرفا النزاع القرار بصدر رحب وتعانق الظالم والمظلوم، وأمضى الحاضرون ما تبقى من الوقت في التحدّث عن أمور الحياة والمصاعب التي تواجه الناس، خصوصاً البسطاء منهم... ذلك كله على مائدة من الطعام الشهي أصرّ الدكتور محمداً على أن تكون على حسابه إكراماً للضيوف. ورغم محاولات صاحب البيت المستميتة إثناء قريبه عن الدفع فإن الدكتور محمداً قال له بعدما تنحى به جانباً:

- احنا مش بس أقارب... إحنا أخوة واللي في جيبي في جيبك.

ورد صاحب البيت غاضباً:

* انت كده بتهيني يا دكتور محمد. إزاي تبقى في بيتي وانت اللي تدفع ثمن الأكل؟

ولكنّ إصرار الدكتور محمد كان كبيراً على دفع ثمن الطعام، وفي النهاية رضخ صاحب البيت على مضض وعاد الاثنان إلى ضيوفهما وراحا يتجاذبان مع الجميع أطراف الحديث... وتطايرت الآراء يميناً وشمالاً، وكان لرأي الدكتور محمد المعروف بثقافته الواسعة جانب كبير من الصواب في كثير من القضايا المطروحة في الجلسة، الأمر الذي دفع بأحد أفراد عائلة الشخص الذي حكم ضده في المحكمة العرفية إلى الاقتراب أكثر وأكثر إلى الدكتور محمد... وبالحاح شديد عرف عن نفسه إلى الأستاذ المساعد في كلية الزراعة على أنه مقاول كبير وتربطه بالدكتور محمد صلة نسب من بعيد.

ورحب الدكتور محمد بحسن نية بالمقاول الذي أصرّ على الجلوس إلى جواره طوال الجلسة وتجاذب معه أطراف حديث ودي للغاية انتهى بأن طلب المقاول إلى دكتور الجامعة أن يكتب له اسمه وعنوانه ومنصبه ورقم هاتفه كي يظلّ على اتصال دائم به، بما أنهما قريبان وتربطهما صلة نسب ولو من بعيد... ولم يمانع الدكتور محمد وحرّر للمقاول في ورقة كل ما طلبه منه.

شيك بلا رصيد

مرت ثلاث سنوات على تلك الواقعة.

ولم يتصل هذا المقاول بالدكتور محمد سوى مرات قليلة تعد على أصابع اليد، وكانت كل المكالمات الهاتفية بينهما قصيرة جداً، ولا تحتوي سوى على اطمئنان كل منهما على أحوال الآخر. ولم يلتقيا بعدها ولا مرة وتدريجاً، قلّت المكالمات الهاتفية وانقطعت العلاقة بين الطرفين، إذ انشغل كل منهما بأعماله وحياته الخاصة وعادا غريبين كما بدآ.

كانت حياة الدكتور محمد قاصرة على انشغاله الدائم في تحضير الدروس التي يلقيها على طلبة كلية الزراعة وطالباتها، وكان أيضاً يمارس مهام القاضي العرفي بين الحين والآخر، إذا ما اندلع خلاف وطلب منه التحكيم فيه... وقليلاً ما كان يزور أقاربه أو يزوره في بيته أحد إلا مع وقوع مشكلة ما تتطلب الرأي أو مشورة أستاذ الجامعة النابه.

ومضت الأيام بالدكتور محمد هادئة لا يعكر صفوها أي أمر، حتى فوجئ ذات صباح بمحضر من المحكمة يطرق باب شقته. ويلقي عليه بمفاجأة من العيار الثقيل. أخبر المحضر الدكتور بأنه صدر ضده حكم قضائي بالسجن ثلاث سنوات في قضية تحرير شيك من دون رصيد!

وأسقط في يد أستاذ الجامعة الذي راح يسأل المحضر عن تفاصيل تلك القضية التي لا يعلم عنها أمراً، فهو لم يحرِّر أي شيك طوال حياته لأي مخلوق، فمن يكون هذا الذي يدعي أنه حرّر له شيكاً؟

وأجابه المحضر بعدما راح يطالع أوراق القضية بسرعة بأن ثمة مقاولاً شهيراً يُدعى حسناً أقام ضده دعوى قضائية واتهمه فيها بتحرير شيك لصالحه بمبلغ 178 ألف جنيه وتبين أن الشيك من دون رصيد... وقد قضت محكمة أول درجة بحبس أستاذ الجامعة ثلاث سنوات!

من هو؟

كاد الدكتور محمد أن يسقط مغشياً عليه من هول المفاجأة... راح يفكِّر من يكون هذا المقاول المدعو «حسن» الذي لا يعرفه ولم يسبق أن التقى به كي يحرِّر له شيكاً بهذا المبلغ ويتقدم ضده ببلاغ ويقيم ضده دعوى قضائية؟ وراح يسأل المحضر الواقف أمامه حول أسباب عدم إعلامه بالقضية قبل صدور الحكم غيابياً ضده؟ فلم يجد المحضر إجابة شافية. سلّمه إعلام المحكمة وانصرف إلى حال سبيله تاركاً أستاذ الجامعة يضرب أخماساً في أسداس، ويحاول تذكر هذا المقاول الذي أقام ضده الدعوى من دون أن تربطه به أية صلة لا من قريب ولا من بعيد.

يومها، ألغى الدكتور محمد مواعيده وانطلق إلى قريبه الذي يقيم في حي روض الفرج وقص عليه الكارثة التي وجد نفسه فيها بلا سابق إنذار... واحتار قريبه أيضاً لأنه لا يعرف مقاولاً باسم حسن. من ثم، اشتعلت نيران الغضب في صدر أستاذ الجامعة المهدد بدخول السجن في جريمة لا يعلم عنها أي أمر.

ترك الدكتور محمد منزل قريبه والدماء تغلي في عروقه وأسرع إلى أحد كبار المحامين وأطلعه على الإعلان الذي تسلّمه من المحكمة... ورغم أن المحامي الكبير طمأن أستاذ الجامعة مؤكداً له أنه سيستأنف فوراً حكم محكمة أول درجة فإن محمداً ظلّ أياماً عدة يبحث ويفتش في رأسه وذاكرته عن هذا المقاول المجهول حسن الذي لا يعرفه ولماذا فعل به هذا كله؟!

أيام عصيبة عاشها الدكتور محمد بعدما أصبح مهدداً بدخول السجن في جريمة لم يقترفها بل ولا يعلم عنها أي أمر من الأساس. طار النوم من عيني أستاذ الجامعة، أهمل عمله تماماً، وانقطع عن الذهاب إلى الجامعة وإلقاء المحاضرات على تلامذته وتلميذاته... كان كل ما يشغل تفكيره هو سؤال واحد ظلّ بلا إجابة:

من يكون هذا المقاول المجهول؟

وفي الجلسة التي حددتها محكمة الاستئناف للنظر في القضية عرف أخيراً الدكتور محمد الإجابة عن السؤال الذي ظل يشغل باله لأيام طويلة وقلب حياته رأساً على عقب... شاهد أستاذ الجامعة المقاول خصمه وتذكره جيداً... هو نفسه الشخص الذي اقترب منه قبل ثلاث سنوات أثناء انعقاد جلسة المحاكمة العرفية وطلب منه أن يتعرف إليه وسلم له ورقة دوّن بها اسمه ومنصبه وأرقام هاتفه!

ولكن قفز سؤال آخر إلى رأس أستاذ الجامعة:

لماذا يفعل به هذا المقاول ذلك كله رغم أن كل ما بينهما أحاديث هاتفية ودية للغاية؟!

هذا السؤال أيضا لم يعرف الدكتور محمد إجابته التي تشفي غليله وتذهب غيظه. عاد إلى بلدياته المقيم في روض الفرج والذي التقى في منزله بالمقاول حسن للمرة الأولى والوحيدة وأخبره بكل ما عرفه ليشتعل قريب الدكتور محمد غاضباً، ويؤكد له أن المقاول لن يفلت من العقاب سواء عقاب المحكمة أو عقاب الصعايدة!

ورغم أن الدكتور محمداً كان بين أهله قاضياً عرفياً فإن الغضب الذي ملأ قلبه وقتها تجاه غريمه المقاول حسن غطى على رجاحة عقله ووافق قريبه على الانتقام من غريمه الذي غدر به من دون سبب مقنع.

وبدأت المحاكمة، وطعن محامي الدكتور محمد في صحة توقيع أستاذ الجامعة الشيك الذي سلمه المقاول حسن إلى أحد البنوك وعليه توقيع أستاذ الجامعة المتهم. كذلك شكك المحامي الكبير في إفادة البنك والأختام الموجودة على الشيك.

وقررت هيئة المحكمة إحالة الشيك إلى الطب الشرعي، قسم التزييف والتزوير لبيان مدى صحة توقيع الدكتور محمد، كذلك إفادة البنك والأختام الموجودة على الشيك الذي لم يكن سوى ورقة مدون فيها أن الدكتور المتهم كتب على نفسه شيكاً بمبلغ 178 ألف جنيه لصالح المقاول حسن صاحب الدعوى.

وجاء تقرير مصلحة الطب الشرعي، وأفاد أن توقيع الدكتور محمد سليم ولكن إفادة البنك على الشيك والأختام الموجودة به ليست صحيحة، إنما مزورة، وتنفّس الدكتور محمد الصعداء بعدما قضت محكمة الاستئناف ببراءته وإحالة المقاول إلى محكمة الجنايات بتهمة التزوير في محررات رسمية واستخدامها.

محكمة الجنايات

عاد الدكتور محمد إلى بيته والسعادة تملأ قلبه ولكن بقي سؤال آخر يشعل باله: لماذا أقدم المقاول حسن على هذه الجريمة، ومرة أخرى جاءت الإجابة من خلال محكمة جنايات شمال القاهرة التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار صلاح رشدي وعضوية المستشارين مصطفى الكومي ومحمد شيرين، إذ لم يجد المقاول المتهم مفراً سوى الاعتراف بجريمته مؤكداً أنه قبل ثلاث سنوات كان حاضراً لجلسة محاكمة عرفية وبعد صدور قرار المحكمة العرفية في غير صالح أحد أقاربه بتغريمه مبلغاً كبيراً من المال، في هذه اللحظة هداه تفكيره إلى ضرورة الانتقام لقريبه.

واستمع الدكتور محمد إلى تفاصيل أخرى أكثر إثارة وغرابة جاءت على لسان المقاول المتهم «حسن» من داخل قفص الاتهام بالمحكمة حيث أكد لهيئة المحكمة أن خطته في الانتقام من الدكتور محمد الذي أصدر قرار المحكمة العرفية ضد قريبه كانت أن يتقرب إليه بحجة التعارف ويتمكن من أن يجعله يوقع اسمه على ورقة بيضاء لاستغلالها لاحقاً، إذ قطع الجزء الذي دوّن فيه أستاذ الجامعة الدكتور محمد منصبه ورقم هاتفه واستغل المساحة البيضاء الموجودة في الورقة واسمه فقط ليضيف إليها ما يفيد بأن أستاذ الجامعة يعترف بتحرير شيك له بمبلغ 178 ألف جنيه... ثم استعان المقاول المتهم بأحد المزورين وزوّر إفادة أحد البنوك كي تدل على أن الشيك من دون رصيد وتقدم به إلى المحكمة وحصل على حكم بالسجن ضد أستاذ الجامعة لمدة ثلاث سنوات.

انتهت اعترافات المقاول المتهم وقررت هيئة المحكمة معاقبته بالسجن المشدد مدة سبع سنوات بتهمة التزوير في محررات رسمية ليخرج الدكتور محمد من قاعة المحكمة يضرب كفاً بكف غير مصدق ما حدث له ويقول بحسره لقريبه وبلدياته:

- توبة لو عملت خيراً تاني!

ويرد عليه قريبه بغضب:

* كده بقى نبدأ مهمتنا في البلد... لازم حسن يدفع الثمن غالياً.

ويحاول الدكتور محمد إثناء قريبه عن ارتكاب أية حماقة قد تشعل العداوة بين عائلتهما وعائلة المقاول المتهم «حسن» قائلاً:

- يعني أنا اللي بافض منازعات الثأر هاخد بالثأر... المنتقم هو ربنا.

المحضر أخبر الدكتور بأنه صدر ضده حكم قضائي بالسجن ثلاث سنوات

نيران الغضب اشتعلت في صدر أستاذ الجامعة المهدد بدخول السجن في جريمة لا يعلم عنها شيئاً

في الاستئناف ظهرت الحقيقة

7 سنوات سجناً للمزور وبراءة أستاذ الجامعة
back to top