عبد الله البري يجلس على مقعد «وزير الميمنة» (4 - 30)

نشر في 20-05-2018
آخر تحديث 20-05-2018 | 00:04
نستكمل في حلقة اليوم إحدى أهم قصص الليالي العربية، وهي قصة «عبد الله البري وعبد الله البحري»، ونحن لا نزال في الليلة الرابعة والثلاثين بعد الأربعمئة. استطاع عبد الله البري الصياد الفقير أن يتفق مع عبد الله البحري، الإنسان الذي يقيم في البحر، وهو من أمة مسلمة موحدة بالله، على أن يمنحه عبد الله البري فواكه الأرض، في مقابل أن يحصل من عبد الله البحري على الجواهر الثمينة من ياقوت ومرجان وخلافه، الأمر الذي جعله واحداً من الأغنياء، بما أصبح لديه من ثروة طائلة. فسار في طريقه، ورجع إلى بيته حاملاً شيئاً كثيراً من اللحم والفاكهة والملابس والهدايا لزوجته وأولاده، وأمضوا جميعاً أسعد ليلة في حياتهم، ولما سألته زوجته من أين جاء بالمال الذي اشترى به كل هذه الأشياء، اكتفى بأن قال لها: هذا من فضل الله، والله يرزق من يشاء بغير حساب!
لما كانت الليلة الرابعة والثلاثون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد، أنه في فجر اليوم التالي، خرج عبد الله البري من بيته قاصداً إلى المكان الذي تواعد على اللقاء فيه مع صديقه عبد الله البحري، وحمل معه إليه قفة كبيرة ملأها بأنواع الفاكهة المختلفة، وما كاد يصل إلى ذلك المكان، حتى خرج إليه عبد الله البحري من الماء. وبعدما تبادلا التحيات وأحاديث المودة، أخذ عبد الله البحري تلك القفة بما فيها من الفاكهة، ثم نزل بها إلى الماء فغاب قليلاً، ورجع وهو يحملها ووضعها بين يدي صديقه عبد الله البري، بعدما أفرغها من الفاكهة، وملأها حتى آخرها بأنواع الجواهر والمعادن النفيسة، وقال له: عندنا من هذا شيء كثير جداً، وفي كل يوم تأخذ مثله إن شاء الله، كي تنفق منه عن سعة في ما يرضي الله، وأنا أكرر وصيتي لك بأن تبقى هذا الأمر سراً بيني وبينك.

ثم ودعه ورجع إلى البحر فاختفى تحت الماء كما كان. حمل الصياد القفة بما فيها، وسار قاصداً بيته، فلما وصل في طريقه إلى محل صديقه الخباز، وكانت الشمس أوشكت أن تشرق، وجده واقفاً مع أولاده وعماله يستعدون لبيع الخبز، فسلم عليه، وأعطاه مقداراً كبيراً من الجواهر التي معه في القفة قائلاً له: خذ هذا من أصل ما في ذمتي لك من الدين، فقال له الخباز: لا آخذ منك أي شيء يا سيدي، لأن ما أخذته منك أمس يعادل ما أخذته مني ألف مرة وأكثر.

فقال له عبد الله البري: لا تقل هذا يا سيدي، لأن معروفك عندي لا يقدر بمال، ثم ترك له تلك الجواهر، وأخذ كفايته من الخبز وانصرف راجعاً إلى بيته بعدما اشترى من السوق في طريقه ما شاء من لحوم وفاكهة وحلوى وغيرها، وأمضى وعائلته ليلتهم جميعاً في عيد سعيد.

اقرأ أيضا

في اليوم التالي، ذهب عبد الله البري إلى البحر بقفته ممتلئة بالفاكهة، ثم رجع بها ممتلئة بالجواهر، ومرّ بصديقه الخباز فأعطاه قبضة منها. بقي على هذه الحال 40 يوماً، إلى أن ملأت الجواهر حجرة كبيرة في بيته من الأرض إلى السقف، وكان يبيع بعض الفصوص الصغيرة كل يوم ويشتري بثمنها ما يريد من أنواع الأطعمة والملابس لنفسه وأهل بيته، ويتصدق سراً على الفقراء والمساكين.

ثم اتفق أنه في أحد الأيام أخذ جوهرة كبيرة وتوجه بها إلى شيخ تجار الجواهر في سوق الصاغة، وعرضها عليه ليشتريها بالثمن الذي يقدره لها. لما وقعت عينا الرجل على تلك الجوهرة الكبيرة النادرة، وكان يهودياً مشهوراً بالمكر والغدر والبخل، أكل الحقد قلبه، وقال لنفسه: كيف أكون شيخ تجار الجواهر في المدينة وليس عندي مثل هذه الجوهرة التي مع هذا الصياد الفقير.

ثم سأل عبد الله البري: هل عندك جواهر أخرى غير هذه الجوهرة؟ فأجابه: نعم عندي كثير من أمثالها والحمد لله. لكني لا أحتاج إلى بيع غيرها الآن، فكم تدفع لي ثمناً لها؟ فقال له اليهودي لا أدفع فيها أكثر من ألف دينار، فقال له عبد الله البري: بعتها لك بهذا الثمن، وإذا أردت شراء مثلها فسأحضر لك جوهرة أكبر منها في ما بعد إن شاء الله.

الملك يعفو عن الصياد

لما سمع اليهودي كلامه، اشتد حقده عليه، وحسده له، ثم أخذ منه تلك الجوهرة وصاح بغلمانه قائلاً لهم: اقبضوا على هذا اللص وأشبعوه ضرباً، فلا شك في أنه هو الذي سرق عقد الملكة الذي ضاع منها، وما هذه الجوهرة إلا من ذلك العقد.

وتكاثر الغلمان على عبد الله البري فأوقعوه على الأرض، ثم أوثقوه بالحبال، وانهالوا عليه ضرباً حتى أغمي عليه، بينما أرسل اليهودي شيخ تجار الجواهر إلى الملك رسولاً خاصاً أبلغه أن اللص الذي سرق عقد الملكة الضائع قد قبض عليه ومعه جوهرة منه. فأمر الملك بإحضار اللص والجوهرة المضبوطة معه بين يديه، وسرعان ما حمل اليهودي وغلمانه عبد الله البري وهو ما زال في إغمائه، حتى وضعوه بين يدي الملك، ثم أخرج اليهودي الجوهرة التي أخذها منه وناولها للملك، فلما رآها تعجب من ضخامتها وجمالها، وأرسلها إلى الملكة كي تطلع عليها وترى هل هي من حبات عقدها المفقود أم لا... وأخذ الحراس والحجاب في إنعاش عبد الله البري حتى أفاق من إغمائه.

فسأله الملك: من أين لك هذه الجوهرة وأنت صياد فقير؟ فأجاب قائلاً: إنها من خيرات البحر وقد رزقني الله من فضله بألوف من أمثالها، كلها عندي في بيتي، وما كنت طوال عمري من اللصوص.

لما سمع اليهودي شيخ الصياغ كلام عبد الله البري الصياد، قال للملك: ها قد رأيت يا مولاي كيف أوقعه لسانه فاعترف بجريمته من حيث لا يشعر، ذاكراً أن بيته فيه ألوف من أمثال هذه الجوهرة الثمينة النادرة التي لا يقدر على اقتنائها غير الملوك، والرأي عندي أن يعجل مولاي الآن بإصدار الأمر إلى الوالي كي يداهم بيت هذا اللص الحقير، وضبط كل ما فيه من المسروقات.

التفت الملك إلى من حوله من الأمراء والوزراء والقواد، مستطلعاً آراءهم، فوافقوا جميعاً على ما قاله اليهودي، فلما سمع الصياد كلامهم، أيقن بالخراب والهلاك، وانهمرت الدموع من عينيه، ثم رفع رأسه وقال للملك: يا ملك الزمان، وصاحب العدل والإحسان... حاشا لمثلك أن يعاقب على غير ذنب، وليس يخفى على فطنتك يا مولاي أنني لو كنت لصاً كما يدعي ذلك اليهودي الحقود ما ذكرت أن بيتي فيه ألوف من أمثال تلك الجوهرة.

فقال له الملك: لو صح ما تقوله وكانت عندك ألوف من الجواهر، فهذا دليل على صحة اتهامك، إذ كيف تستطيع اقتناءها وأنت صياد فقير لا تملك قوت يومك؟

أجاب عبد الله البري: لا تنس يا مولاي أن الله يرزق من يشاء بغير حساب. ما أتم كلامه حتى دخل الرسول الذي كان الملك أرسله بالجوهرة إلى الملكة، فقبل الأرض بين يدي الملك، ثم نهض وسلم الجوهرة قائلاً: الملكة يا مولاي رأت هذه الجوهرة، وأعجبت بها كل الإعجاب، ولما سألتها: هل هي من العقد المفقود؟ قالت: لقد وجدته بعدما فقدته، وحرام أن نظلم أحداً ونتهمه بسرقته وهو موجود عندي. ولكن أبلغ الملك أني أعجبت بهذه الجوهرة النادرة وأرغب في شرائها، لأن الجواهر التي عندي لا يوجد بينها ما يضارعها في ضخامتها وجمالها.

لما سمع الملك كلام الرسول، تعجب غاية العجب، وقال لليهودي شيخ الصياغ: قبحك الله. كدت توقعنا في شر عظيم بظلم هذا الرجل البريء المسكين. ثم طرده من حضرته مذموماً مدحوراً، وأمر بفك قيود عبد الله البري الصياد، وأجلسه إلى جانبه وقال له: لا تؤاخذنا أيها الصياد، ولكن كيف تكون عندك جواهر مثل هذه الجوهرة وترضى بأن تعيش فقيراً تشقى طول النهار في طلب القوت لنفسك وعائلتك؟

قفة الجواهر

لما كانت الليلة الخامسة والثلاثون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله البري الصياد، لما ظهرت للملك براءته من اتهام اليهودي له بسرقة الجوهرة، فرح بذلك فرحاً عظيماً، وقال للملك: الفضل في براءتي يرجع إلى شهادة الملكة، ولولا هذه الشهادة الصادقة العادلة ما نجوتُ من خطر الخراب والهلاك، وعلى هذا أرجو أن تتقبل يا مولاي هذه الجوهرة هدية مني إلى الملكة، وإذا سمحت لي بالتوجه إلى بيتي الآن فإني أرجع بعد ساعة ومعي قفة كبيرة ممتلئة بالجواهر لأقدمها هدية إلى مولاي، يتصرف فيها كيف يشاء.

لما سمع الملك كلام الصياد، ضحك كثيراً، إذ فهم من كلام الصياد أنه يسمي السمك جواهر، وفهم على هذا الأساس أن ألوف الجواهر التي عنده في بيته ليست سوى أنواع من السمك، لذلك يضعها في قفة كما هي عادة الصيادين. ثم التفت إليه وقال له: يظهر يا صياد أنك رجل طيب ظريف، وقد أمرنا لك بألف دينار مكافأة لك على صدقك وسلامة نيتك، وتقديراً لهديتك الجميلة، كما أمرنا لك ببغلة تركبها، وحلة ثمينة تلبسها، وعندما تحضر القفة لا تعطها للطباخين مباشرة، بل أحضرها عندي هنا لأتفرج على ما فيها من جواهر اصطدتها بشبكتك اللطيفة.

شكره عبد الله البري، وانصرف من القصر راكباً البغلة، بعدما لبس الحلة الثمينة التي أمر الملك له بها، ولما وصل إلى بيته، أخبر زوجته وأولاده بما حدث، ثم ملأ قفة كبيرة بأنواع مختلفة من الجواهر النادرة، وغطاها بالحشائش كما يغطي السمك، ورجع بها على البغلة مسرعاً إلى قصر الملك. فلما دخل عليه وهو يحمل القفة فوق رأسه رحب به مسروراً برؤيته، وأمره بوضع القفة بين يديه ورفع الحشائش التي تغطيها، كي يتفرج على ما فيها، وقال له ملاطفاً: هيا أرنا جواهرك يا صياد الجواهر!

وما كاد عبد الله البري يكشف عما في القفة من جواهر حقيقية مكدسة بعضها فوق بعض، حتى ذُهل الملك، وكاد عقله يطير من رأسه، وأخذ يتأمل فيها ويقلبها بين يديه فاحصاً متحققاً، وكلما عجب من ضخامة جوهرة وجمالها، وجد غيرها أضخم وأجمل، فازداد عجباً وطرباً. ولما فرغ من فحصها كلها، التفت إلى الصياد قائلاً: ما شاء الله يا صياد، من أين لك هذا كله، إن خزائني بل خزائن ملوك الأرض ليس فيها عشر هذه الجواهر النادرة.

قال له عبد الله البري: ألم أقل لك يا مولاي إن في بيتي ألواناً من هذه الجواهر؟ وعلى كل حال ما دامت جواهري تعجبك، فسأحضر لك منها كل يوم نصف قفة، لأنني أحصل في كل يوم على ملء قفة منها، ولا يكلفني ذلك إلا شراء بعض الفاكهة بدراهم معدودة، ثم أتوجه بها في القفة إلى البحر، فأفرغها فيه، وأرجع بها ممتلئة بالجواهر بدلاً من الفاكهة.

قال له الملك: هل يمكن أن أرى ما في بيتك من الجواهر التي حصلت عليها بهذه الطريقة العجيبة؟ فقال له: نعم يا مولاي، وأنه ليسرني حقاً أن تشرف بيتي بزيارتك، ولكنه بيت حقير لا يليق بمقام الملوك. فقال له الملك: كلا، بل إن قصور الملوك هي التي لا تليق بمقام صياد الجواهر. ثم أمر بإعداد موكب للخروج، وركب ومعه عبد الله البري، والأمراء والوزراء والقواد من حولهما، والمماليك والحراس من خلفهما، إلى أن وصل الموكب إلى بيت الصياد، ودخل الملك معه حيث رأى الجواهر المكدسة في الغرفة وقد ملأتها حتى سقفها، فكاد يجن من فرط دهشته، ثم قال: سبحان الله العظيم، سبحان الكريم المنعم الوهاب الرزاق الفتاح العليم. والتفت إلى الصياد وقال له: اسمع أيها الرجل الطيب، إن أولاد الحرام كثيرون، وقد رأيت بنفسك كيف حسدك اليهودي شيخ الصياغ، وكاد يرميك في الهلاك لأنه وجد معك جوهرة واحدة، وأني لأخشى أن يطمع الناس في ما أعطاك الله من فضله، فيكون في ذلك خطر على حياتك وحياة أولادك، ولهذا أعرض عليك أن تنتقل بأسرتك وجواهرك إلى قصري، حيث أجعلك وزيراً لي، وأزوجك ابنتي، فيكون الملك لك من بعدي، فما قولك في هذا؟

وزير الميمنة

قال عبد الله البري الصياد للملك: أمهلني لحظة حتى أشاور في هذا الأمر زوجتي وأولادي. فأعجب الملك بوفائه لأهله، وقال له: شاورهم كما تشاء. فتركه عبدالله البري يواصل الفرجة على الجواهر التي في الغرفة وتوجه إلى زوجته وأولاده فأخبرهم بكل ما حدث، وبما عرضه الملك عليه، فوافقوا جميعاً، ورجع هو إلى الملك فأبلغه ذلك.

على هذا، أمر الملك بنقل تلك الجواهر إلى خزائن قصره، وأعلن في طول المملكة وعرضها أنه عيَّن عبدالله البري وزير ميمنة له، وزوَّجه من ابنته، وجعله خليفة له من بعده. وأقيمت لذلك الأفراح في كل مكان، وبات عبد الله البري ليلته هو وأسرته في قصر الملك ضيوفاً مكرمين معززين، وفي اليوم التالي: أُعد قصران كبيران مثل قصر الملك بل أفخم منه: أحدهما لزوجة عبد الله البري الأولى وأولاده، والآخر لزوجته الجديدة ابنة الملك، وصار هو يتردد على القصرين كلما شاء، ويمضي ليلته في أيهما أراد، وفي النهار يتولى أعمال وزارة الميمنة، فينصف المظلومين، ويقضي بالعدل بين المتخاصمين، ويغمر بعطفه وبره جميع الفقراء والمساكين.

وفي صباح كل يوم يخرج وحده إلى البحر ومعه هدية عظيمة من الفاكهة لصديقه عبد الله البحري، وبعد أن يمضي معه ساعة في تبادل الأحاديث، يرجع ومعه شيء كثير من جواهر البحر، فيضيفها إلى الجواهر التي في خزائن القصر، وينفق مما يبيعه منها في شؤونه الخاصة، وفي الشؤون العامة للمملكة، حتى صارت بفضله من أحسن الممالك وأسعدها.

ثم أرسل إلى صديقه الخباز، واتفق مع الملك على تعيينه وزير ميسرة، وكان الخباز اسمه عبد الله أيضاً، كما أن الملك أيضاً اسمه عبد الله، كذلك كان اسم من تسبب في سعادتهم جميعاً، وهو عبد الله البحري. وقد سر الملك كثيراً بهذا التوافق العجيب في أسمائهم، فأصدر أمره إلى جميع أفراد رعيته بأن يسمى كل منهم أول ولد يرزق به باسم عبد الله، وبأن يصرف له راتب شهري مدى الحياة.

وهنا أدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد

شيخ تجار الجواهر في المدينة كان يهودياً بخيلاً يحقد على صياد فقير بسبب جوهرة

أنصف المظلومين وقضى بالعدل بين المتخاصمين وغمر بعطفه جميع المساكين
back to top