عبدالله البري يصطادُ عبدالله البحري في زمن الغلاء (3 - 30)

نشر في 19-05-2018
آخر تحديث 19-05-2018 | 00:04
نبدأ الحلقة الثالثة من «ألف ليلة وليلة» بحكاية جديدة من الليالي العربية، بعدما انتهينا في الحلقة السابقة من حكاية «أبو قير الصباغ وأبو صير المزين»، وها نحن نصل إلى الليلة الثالثة والثلاثين بعد الأربعمئة، ونبدأ حكاية «عبد الله البري وعبد الله البحري».
تقول الحكاية التي ترويها شهرزاد، إنه كان في قديم الزمان رجل صياد فقير يدعى عبد الله البري، أنجبت زوجته طفله العاشر، وطلبت منه أن يعود من الصيد في البحر مبكراً ليشتري طلبات البيت لها ولأولادها ولمولودهما الجديد. فذهب يبحث عن رزقه وألقى شباكه في البحر، وكان من عادته أن يذهب إلى البحر بشبكته كل يوم، ثم يلقيها في الماء سبع مرات، ويأخذ ما يخرج فيها من السمك إلى السوق، يبيعه ويشتري بثمنه ما يلزم لأولاده وزوجته من طعام وغيره.
لما كانت الليلة الثالثة والثلاثون بعد الأربعمئة، قال الملك شهريار لزوجته شهرزاد: حكاية أبي قير وأبي صير، فيها موعظة وعبرة لكل كبير وصغير، وأنها لجديرة لذلك بأن تُكتب وتُحفظ وتُروى. فقالت له: ماذا تقول إذاً يا مولاي لو أنك سمعت حكاية عبد الله البري وعبد الله البحري؟ فقال لها: وما حكايتهما؟ فقالت: يُحكى أيها الملك السعيد، أن صياداً فقيراً كثير العيال اسمه عبد الله، كان من عادته أن يذهب إلى البحر بشبكته كل يوم، ثم يلقيها في الماء سبع مرات، ويأخذ ما يخرج فيها من السمك إلى السوق، حيث يبيعه ويشتري بثمنه ما يلزم لأولاده التسعة وزوجته من طعام وغيره.

ذات يوم، استيقظ الصياد عند الفجر، وصلاَّه حاضراً، وفيما هو يستعد للخروج بشبكته إلى البحر كعادته، جاءت إليه ابنته الكبرى فبشَّرته بأن أمها أنجبت له مولوداً جديداً ذكراً، وطلبت منه أن يعجِّل بالرجوع إلى البيت بالطعام وبما يلزم للمولود الجديد وأمه من ملابس وأغطية وغيرها، فقال لها: كل شيء بإذن الله، وعسى أن يكون رزق المولود الجديد واسعاً، ويكون قدومه فاتحة خير لنا جميعاً. ثم غادر البيت مسرعاً، ولما بلغ شاطئ البحر، ألقى شبكته في الماء وهو يقول: على بركة الله تعالى وبخت المولود الجديد. ثم صبر عليها مدة كافية وسحبها من الماء، فلم يجد فيها سمكة واحدة، بل وجدها امتلأت حجارة وأعشاباً، فتكدر من ذلك الأمر كثيراً وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم خلص الشبكة من تلك الحجارة والأعشاب، وألقاها في البحر ثانيةً وهو يقول: على بركة الله وبخت المولود الجديد. وصبر عليها مدة أطول، ثم أخذ في سحبها وقلبه يخفق بالآمال لأنه وجدها ثقيلة، لكنه بعدما أتم إخراجها من الماء لم يجد فيها غير حجارة وقوارير مكسورة، فاشتد كدرهُ وغضبُه.

انتقل إلى مكان آخر وألقى الشبكة فيه وهو يدعو الله أن يعوِّضه خيراً عما فاته في المرتين السابقتين، لكنه سرعان ما تبين بعد سحب الشبكة من الماء أن حظه في هذه المرة أدعى إلى الأسى والأسف، وهكذا كان شأنه في المرات الأربع الباقية، وانقضى أكثر النهار وهو لم يحصل على شيء من السمك، فلم يجد بداً من الركون إلى اليأس، وحمل شبكته على كتفه، وأخذ طريقه راجعاً إلى بيته مهموماً مشغول البال، لا يدري كيف يحصل على ما يسد به رمق زوجته وعيالهما، الذين بلغ عددهم عشرة بالمولود الجديد.

اقرأ أيضا

ولم يزل سائراً حائراً، يحدِّث نفسه قائلاً: هل هذا المولود خلقه الله من غير رزق؟ كلا! إن هذا لا يكون أبداً، لأن الذي شق الأشداق، تكفل لها بالأرزاق، ولما وصل في طريقه إلى الفرن الذي تعود شراء الخبز منه كل يوم، وجد الناس حوله في زحام شديد، لأن الغلاء كان فاشياً في ذلك الحين، والمال قليل في أيدي الناس، وكلهم يشكون قلة المؤونة.

كان الخباز وعماله يظهرون الضيق بالمزدحمين ويزجرونهم زجراً شديداً طالبين منهم السكوت، بينما يأخذون ثمن الخبز المطلوب من كل منهم مقدماً، فقال الصياد لنفسه: إذا كان هذا حال من يشترون الخبز بالنقد، فكيف يكون حالي إن طلبت خبزاً على أن أدفع ثمنه في ما بعد؟ وترامت إلى أنفه رائحة الخبز الساخن، فشعر بالجوع وتذكر حال زوجته الوالدة الضعيفة وأولاده الذين ينتظرون عودته إليهم بالطعام، فانهمرت الدموع من عينيه، ووقف في آخر الصفوف مطرقاً حائراً لا يدري ما يفعل.

وحانت من الخباز التفاتة إلى الجهة التي وقف فيها الصياد المسكين، فعرفه بالشبكة التي على كتفه، وأدرك أنه في حاجة إلى خبز وليس معه فلوس، فأشفق عليه، وتوجه إليه حاملاً عدداً كبيراً من الأرغفة، ثم أعطاه إياها وقال له: لا تيأس من رحمة الله يا صياد، خذ هذا الخبز لعيالك، وهذه عشرة دراهم أيضاً كي تشتري ما يحتاج إليه البيت من اللحم والخضراوات وغيرها!

جثة حمار

لما كانت الليلة الثالثة والثلاثون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن الصياد لم يستطع أن يمسك دموعه لشدة تأثره من عطف الخباز عليه ورثائه لحالته، ثم شكره على ذلك، وعرض عليه أن يأخذ الشبكة رهناً عنده حتى يسدد الدين الذي عليه. فرفض الخباز ذلك بإباء وشمم، وقال له: كيف آخذ شبكتك وهي أداة رزقك؟ لا تقل هذا الكلام يا رجل، وامض إلى أهلك بما يحتاجون إليه من طعام، وإذا احتجت إلى خبز أو دراهم في أي يوم فأنا على استعداد لإعطائك كل ما تريد. فكرر الصياد شكره وانصرف.

ولما دخل بالخبز والطعام على زوجته وأولاده، وجدهم يبكون من شدة الجوع. لكن بكاءهم انقطع عند رؤيته، وبعدما أكلوا وشبعوا جميعاً، حمدوا الله على ما أعطاهم، وأمضوا ليلتهم على ما يرام. في صباح اليوم التالي، خرج الصياد بشبكته إلى البحر، وهو يدعو الله قائلاً: اللهم ارزقني بما يبيض وجهي أمام الخباز، ولا تحكم على عيالي بالبكاء من الجوع والحرمان، فإنك أنت الكريم الحنان المنان، ولكن حظه في هذا اليوم لم يكن أحسن من حظه في اليوم السابق، وخجل من أن يراه الخباز عند مروره عليه وهو في طريقه إلى البيت. فلما اقترب من محله، تعمد الإسراع في سيره محاولاً الاختفاء بين جماهير المزدحمين هناك. ولكن الخباز لمحه خلال ذلك فناداه، ورحب به قائلاً: هل نسيت ما قلته لك أمس؟ إياك أن تتأخر عن الحضور إلى هنا كل يوم، ثم أعطاه شيئاً كثيراً من الخبز، وعشرة دراهم لشراء اللحم والخضراوات والفاكهة، ولما أراد الصياد أن يشكره، أسكته قائلاً: لا شكر على واجب.

ولم يزل الصياد والخباز على هذه الحال 40 يوماً، وفي اليوم الحادي والأربعين قال الصياد لزوجته: يظهر أن رزقي انقطع من البحر، ولهذا لا أرى فائـــــــدة في خروجي إلى البحر اليـــوم، ما دمت سأرجع من غير صيد كما حدث في الأربعين يوماً السابقة، وقد طال صبر الخباز عليَّ كل هذه المدة، ولم أعد أستطيع أن أظهر أمامه.

فقالت له زوجته: هل وجدتَ منه ما يدل على غضبه أو عزمه على عدم إقراضك؟ فقال لها: كلا. بل هو في كل يوم يزداد ترحيباً بي، ويفضلني على المزدحمين أمامه من طلاب شراء الخبز بالنقد، وهذا ما يجعلني أذوب خجلاً منه. فقالت له: لولا أنه رجل طيب ما فعل هذا معك، والرأي عندي أن تذهب بشبكتك إلى البحر اليوم لترميها على بخته في الماء، وكل ما يخرج فيها من السمك إن شاء الله تعالى، لا تذهب به إلى السوق لبيعه، بل اذهب به إلى ذلك الخباز وقدمه هدية له. فقال لها: سأفعل ما تشيرين به، ويفعل الله ما يشاء.

لما هم الصياد بإخراج شبكته من الماء بعدما ألقاها فيه أول مرة في هذا اليوم، وجدها ثقيلة جداً، فخفق قلبه فرحاً، وقال لنفسه: يظهر أن رزق الخباز كثير. غير أن ثقلها لم يكن لامتلائها بالسمك كما ظن لأول وهلة، بل كان بسبب وجود جثة حمار فيها!

لحظة رعب

أمضى الصياد أكثر من ساعة حتى استطاع تخليص خيوط شبكته من جثة الحمار الكريهة الرائحة، وبعدما أصلح الخيوط التالفة، وغسل الشبكة مراراً لإزالة ما علق بها من آثار تلك الرائحة، انتقل إلى مكان بعيد، وألقى الشبكة في الماء وهو يدعو الله قائلاً: يا رب أسألك أن ترزقني من فضلك وإحسانك ولو بسمكة واحدة كبيرة أقدمها هدية للخباز. ولما أراد جذب الشبكة بعد ذلك وجدها ثقيلة أيضاً، فدعا الله قائلاً: اللهم لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه. وأخذ قلبه يخفق بشدة خشية أن يجد في الشبكة جثة حمار آخر!

ولما أتمّ إخراج الشبكة من الماء، فوجئ بوجود آدمي فيها، ورأه يحرك رأسه وينظر إليه، ثم يضحك مسروراً وهو يقول له: شكراً لك أيها الصياد. فلم يسعه إلا أن ترك الشبكة بما فيها على البر، وولى هارباً، إذ حسب أن ذلك الشخص ليس سوى عفريت مارد من الجن، وأنه كان محبوساً في قمقم مسحور من النحاس بأمر نبي الله سليمان عليه السلام، ثم انكسر القمقم أو انفتح غطاؤه لأمر ما في تلك الساعة فانطلق منه العفريت ودخل في الشبكة!

ولم يزل الصياد يجري حتى أدركه التعب فوقع على الأرض وهو يرتجف من شدة الرعب والفزع، ثم أغمي عليه، فلما أفاق وفتح عينيه، أخذته الدهشة، إذ وجـــد شبكتـــــــه ملقاة بين يديـــه، ومــــا زال فيها ذلك الشخص الذي اصطاده من البحر، ولما هم بالنهوض محاولاً الهرب مجدداً. قال له ذلك الشخص: لا تخف أيها الصياد، فأنا لست عفريتاً، بل أنا آدمي مثلك، أومن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. أما سبب وجودي في البحر وخروجي منه في شبكتك، فسأحدثك به بعد أن تخلصني من خيوط شبكتك التي كادت تخنقني!

فلما سمع الصياد هذا الكلام، اطمأن قلبه، وزال عنه الخوف، وأخذ في تخليص ذلك الشخص من خيوط الشبكة حتى أخرجه منها.

لما كانت الليلة الرابعة والثلاثون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشخص الذي أخرجه الصياد من البحر بشبكته، شكره على ذلك كثيراً، ثم جلس بجانبه على الشاطئ وسأله: ما اسمك أيها الصياد؟ فأجابه: اسمي عبد الله. فقال له: أنا أيضاً اسمي عبد الله، ولكنك عبد الله البري، وأنا عبد الله البحري لأني من أبناء البحر، وأهلي كلهم يعيشون فيه، وهم من خيرة أهله وحكامهم، وكلنا على دين الإسلام، ولا يمكن أن نؤذي أحداً من المسلمين، ولذلك لم أحاول تخليص نفسي من شبكتك حين وقعت فيها أثناء سيري في البحر، لأني خشيت أن أؤذيك بقطعها، وما دمنا على دين واحد، وكل منا يحمل اسم الآخر، فلنتعاهد الآن على أن نكون صديقين.

وفي كل يوم نتقابل هنا في هذا المكان لنتبادل التحيات والأحاديث والهدايا، وسآتيك الآن بما تيسر من الخيرات الكثيرة التي عندنا في البحر،  من لؤلؤ وياقوت وزبرجد ومرجان وغير ذلك من الجواهر الغالية، وفي غد إن شاء الله تحضر لي معك ما تيسر من الخيرات التي عندكم، من البطيخ والعنب والخوخ والرمان والتين والزيتون وما إليها على أن يكون ذلك سراً بيني وبينك لا يعلم به أحد غيرنا. فعاهده عبدالله البري الصياد على ذلك، ثم نهض وحمل شبكته وودعه محاولاً الانصراف لمعاودة رمي الشبكة في الماء، عسى أن يصطاد سمكة فيهديها إلى الخباز، كي لا يخجل منه. ولكن صديقه عبد الله البحري، طلب منه أن ينتظر لحظة ريثما ينزل إلى البحر ويعود إليه بهدية بسيطة، ثم تركه ونزل في البحر حيث اختفى تحت الماء ولم يظهر له أي أثر. فقال الصياد عبد الله البري لنفسه: الحمد لله الذي خلصني منه على كل حال، فما هو والله أعلم غير عفريت من الجن، ولولا ذلك ما كان في استطاعته أن يعيش تحت الماء!

بغير حساب

همَّ الصياد بالانصراف وهو يكرر الحمد لله على نجاته من شر ذلك الشيطان، ولكنه ما كاد يسير بضع خطوات حتى رأى عبد الله البحري يشق الماء ويخرج منه حاملاً صرة كبيرة، ثم أعطاه إياها وودعه مذكراً إياه بالحضور في اليوم التالي ومعه الهدية التي طلبها، كي يأخذ هدية تليق بمقامه، أكبر من الهدية البسيطة التي استطاع إحضارها له على عجل، ثم عاد إلى البحر واختفى ثانية تحت الماء.

وفتح عبد الله البري الصرة التي أخذها منه، فوجدها ممتلئة بأنواع من الجواهر النادرة الثمينة، وكاد يُجن من الدهشة والفرح، ثم وضع الصرة بما فيها تحت شبكته المطوية، وسار قاصداً إلى فرن الخباز. فلما رآه رحب به كعادته، وترك الناس المزدحمين أمامه وتوجه إليه حيث أعطاه الخبز والدراهم مثل كل يوم قائلاً له: لا تحمل هماً يا صياد، ولا تحرمنا من رؤيتك أبداً، فشكره عبد الله البري وقال له: كم بلغ ما في ذمتي لك حتى الآن؟ فقال له الخباز: لا داعي لهذا السؤال، وحينما يفتح الله عليك وتستطيع السداد نعمل الحساب!

فلما سمع الصياد كلام الخباز، فتح الصرة التي معه وملأ يده مما فيها من الجواهر، وأعطى ذلك للخباز، قائلاً له: إذن خذ هذا الآن وأعطني بضعة دنانير إلى أن نتحاسب. لما رأى الخباز تلك الجواهر، أخذه العجب ووقف يتأمل فيها ذاهلاً، فقال له عبد الله البري: هذا رزق ساقه الله إليّ، ولو أعطيتك أضعافه ما وفيت حقك، فابق لنفسك من هذه الجواهر ما تشاء، وبع منها ما تشاء، وأعطني الآن بضعة دنانير لأشتري منها ما يلزم للبيت. فأعطاه الخباز قبضة من الدنانير بغير عدد، ثم وضع الجواهر في جيبه ورجع إلى مكانه والدنيا لا تسعه من السرور.

أما عبد الله البري، فسار في طريقه، ورجع إلى بيته حاملاً شيئاً كثيراً من اللحم والفاكهة والملابس والهدايا لزوجته وأولاده، وأمضوا جميعاً أسعد ليلة في حياتهم، ولما سألته زوجته من أين جاء بالمال الذي اشترى به كل هذه الأشياء، اكتفى بأن قال لها: هذا من فضل الله، والله يرزق من يشاء بغير حساب!

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد

أصيب بالفزع وأغمي عليه بعد ظهور رأس بشري يتحرك ويتكلم في شبكة صياد فقير

ألقى الشبكة في البحر أربعين يوماً فلم يخرج بشيء لإطعام زوجته وأولاده العشرة
back to top