جدل في «الصلب والترائب» (2-2)

نشر في 03-05-2018
آخر تحديث 03-05-2018 | 00:10
 خليل علي حيدر ما الصلب وما الترائب في الفهم الحديث للآيات القرآنية؟ وكيف يفسرها سيد قطب في "الظلال"؟

سنقتبس أولاً من "قاموس القرآن الكريم"، الصادر عن مؤسسة الكويت للتقديم العلمي تحت إشراف د. عبدالله يوسف الغنيم، حيث تم إعداد "معجم الطب" في هذه الموسوعة من قبل د. حسان حتحوت (1924-2009) أحد قادة ومفكري الإخوان المسلمين، ومن شخصيات الحركة البارزين، والدكتور عبدالحافظ حلمي محمد، وقد صدر الكتاب في الكويت عام 1997، فكيف يشرح هذا المرجع العصري الصلب والترائب، وعملية الحمل وتكوين الجنين؟

لا يخرج تعريف "معجم الطب" للصلب والترائب، ومفردها "تريبة"، عما جاء في المراجع السابقة، ولكن هذا المرجع الحديث لا يوضح للقارئ علاقة عظام الظهر وأضلاع القفص الصدري بتكون الجنين في رحم المرأة، ولا يتحدث في هذا الموضوع عن البويضة والحيوان المنوي والأعضاء التي تتكون فيها من جسم المرأة والرجل، أي الخصية والمبيض، ويحاول الطبيبان د. حسان حتحوت ود. عبدالحافظ محمد الاجتهاد في شرح علاقة "الصلب والترائب" بعملية تكون الجنين بالقول:

"ويكون المقصود أقرب إدراكاً على ضوء ما استبان لعلم تخلُّق الجنين، فإن الشروع في تكوين العمود الفقري بوحداته الفقارية، يبدأ منذ الأسابيع الباكرة بعد الإخصاب، وتمتد من كل وحدة زائدتان عن يمين وشمال سرعان ما تقفان إلا في منطقة الصدر، إذ يستمر امتدادهما لتكوين الضلوع الاثني عشر على كل جانب، وعلى الجزء الظهري من تجويف جسم الجنين وفي منطقة الصدر وأمام الزاوية بين الفقار والأضلاع تتكون الكثافة الخلوية التي ستؤول إلى الغدة الجنسية على كل جانب، وهي الخصية في الذكر والمبيض في الأنثى، ثم ترحل الغدتان الجنسيتان رحلة تقف في الأنثى داخل الحوض، وتستمر في الذكر خارج البطن إلى كيس الصفن، فإذا كان المقصود بالماء الدافق في الآية الكريمة منيّ الرجل المحتوي على منوياته فمن الواضح أن الغدة التي تفرزها نشأت أول ما نشأت في منطقة الصدر بين الصلب والترائب".

وهو كما يرى القارئ، تفسير معقد ملتو وغير منطقي، وكان باستطاعة الطبيبين أن يقولا "والله أعلم".

والحقيقة أنهما لم يكتفيا بهذا التفسير المعقد، بل أضافا أن "هذه الإيماءات العلمية القرآنية التي لم تنكشف إلا بعد نزول القرآن بقرابة الأربعة عشر قرناً، مفسرة ما تواضعت عليه العرب من الصلة بين الصلب والنسب"، وما يقوله الطبيبان هنا غير صحيح وغير علمي، بدليل أنهما يقولان شيئاً آخر في صفحة 67 من الموسوعة نفسها، إذ يصفان عملية الحمل بأسلوب علمي معروف ويقولان:

"ويبدأ الحمل بالتحام منوي من الذكر ببويضة من الأنثى، ويتم ذلك في جوف الأنثى في قناة فالوب، فتكون منهما خلية واحدة هي البويضة الملقحة أو اللقيحة، وهي أول مراحل الإنسان، وبها العناصر الوراثية التي تميزه إنساناً على العموم وفرداً بذاته على الخصوص، نصفها من الأم ونصفها من الأب، وتشرع في الانقسام وتستمر رحلتها إلى الرحم، فإذا بلغته علقت في بطانته وانغرست بها، وانقسامها يفضي إلى تكوين المشيمة وتكوين الجسم بأعضائه وأجهزته خلال ثلاثة أشهر تعقبها فترة نمو بقية مدة الحمل". (ص67).

ويتحدثان بالأسلوب العلمي المتوقع نفسه عن الحيوان المنوي، فيقولان إن كلمة "منيّ" وردت في القرآن مرة واحدة في سورة القيامة، (الآية 37) "ألم يك نطفة من منيّ يُمنى"، ويضيفان: "والمنيّ نظفة الذكر، وتتكون المنويات إثر سلسلة من الانشطارات، منشؤها طبقة ثابتة من خلايا الأنابيب المنوية الدقاق Semeniferous tubules التي تشكل جل الخصية، أماالسائل الذي يحتوي على المنويات فمزيج من إفراز الحويصلتين المنويتين وغدة البروستاتا، وبعض غدد مجرى البول". (ص166).

وإذا قارنا جملة ما عرضنا من تفاسير واجتهادات الطبيبين د. حسان حتحوت ود. عبدالحافظ محمد في كتاب "قاموس القرآن الكريم"، لوجدناهما يطبقان منهجين مختلفين في مجال التفسير، وهما "المنهج الإيماني" و"المنهج العلمي"، ولا ضير في هذا، غير أنهما حاولا كذلك خلط المنهجين، وتحميلهما ما لا يتحملان، والقفز من منهج إلى آخر، وهذا ما قد لا يوافق عليه كل الأطباء والعلماء بمن فيهم المتدينون منهم، وهو تعارض نراه في تفسير العديد من "الآيات العلمية" كما سنرى، وكما جلب التسييس على الدين كل ما نرى اليوم من مشاكل وصراعات، فقد تتسبب مثل هذه "التفاسير العلمية" للقرآن والحديث بمشاكل مماثلة.

فالمنهج الإيماني يستتبع التصديق الكامل غير المشروط بالنص، مهما كا مضمونه، ومهما بدا مختلفا عما هو معروف وسائد ومعلوم في عصر ما.

والمنهج العلمي، من طرف ثان، تفكير واستقصاء، وموافقة ورفض، وتجميع معلومات وإجراء تجارب، وبحث احتمالات ومقارنة حقائق ونصوص وإحصاءات وتصارع شك ويقين، وتأمّل في النتائج بين قبول ورفض، ولن تجد بين المتدينين من يوافق على إخضاع النصوص الدينية لامتحان كهذا.

ويجدر بنا قبل أن نمضي بعيداً، أن نتساءل: أين يقف تفسير سيد قطب "في ظلال القرآن" من كل هذا؟

يقول د. فضل حسن عباس، أحد أبرز علماء أهل السنّة في الأردن، في الكتاب الذي سبقت الإشارة إليه "المفسرون: مدارسهم ومناهجهم"، دار النفائس- عمان، 2007، ما يلي: "كان سيد قطب- رحمه الله- أكثر المفسرين التزاماً بآراء جمهور العلماء، فلم يسمح لنفسه ولا لقلمه أن يسير وراء النظريات العلمية في تفسيره، بل كان يحكّم النص ويجعله الأساس الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، كما أنه، رحمه الله، لم يرخ العنان للعقل فيجعله قسيماً للوحي، ولكنه وقف موقف الناقد البصير من المدرسة العقلية والعلمية، فلقد كان للظلال مميزات لا تتصل بالآراء العلمية والعقلية، وإنما هي مميزات جوهرية تميزه عن جميع التفاسير، ذلك أن الطابع التربوي الوجداني والفقه الصحيح- أعني به الفقه الحركي للدعوة الإسلامية منذ نزول القرآن- من أهم ما قصده الرجل وهو يكتب".

ولننظر مباشرة في تفسير سيد قطب لهذه الآيات في الجزء الثلاثين من الكتاب ويقول: "فلينظر الإنسان من أي شيء خلق وإلى أي شيء صار، إنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل وهو عظام ظهره الفقارية، ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية".

ويضيف قطب معلقاً: "ولقد كان هذا سراً مكنوناً في علم الله لا يعلمه البشر، حتى كان نصف القرن الأخير، حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته، وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة، حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان".

(المجلد السادس من طبعة دار الشروق بالقاهرة 2007، ص3878).

ونتساءل بكل موضوعية: أين نشرت هذه المعلومة التي يشير إليها سيد قطب، والتي تتعلق بماء الرجل الذي يجتمع من صلبه ومن عظام صدر المرأة، أي الصلب والترائب؟ ومن العالم البيولوجي الذي اكتشفها؟ ولماذا لم يشر إلى المعلومة إن كانت منشورة، كل من د. حسان حتحوت ود. عبدالحافظ محمد في "قاموس القرآن الكريم"، حيث اضطراً إلى الإتيان بشرح غريب وتفسير معقد، في حين يؤكد سيد قطب أن أحد علماء القرن التاسع عشر قد بحث وأعلن مصدر "ماء الرجل" و"ماء المرأة" وقال إنهما من عظام الظهر في الرجل وعظام الصدر في المرأة.

وقد نعذر سيد قطب لحماسه المتقد ولظروف اعتقاله وسجنه لعدم ذكر المصدر وتوثيق المعلومة من الكتب العلمية، ولكن لماذا أخفق في هذا بقية "الإخوان" ومن يعيدون نشر تفسير "الظلال" إلى اليوم، ويجنون ملايين الدولارات؟

وإذا كان الكتاب مترجماً إلى الإنكليزية والألمانية مثلا، فهل تضمن كلام سيد قطب عن الصلب والترائب وطريقة الحمل؟

back to top