الحرملك

نشر في 28-04-2018
آخر تحديث 28-04-2018 | 00:11
No Image Caption
الصيحة الأولى..

– منى –

الضباب يتكاثف، ترتفع حلقات الدخان، تندمج ثم تعلو لتتجمع في السقف. تتابع المشهد من هناك وتضحك بصوتٍ أسمعه جيداً.. أسمعه وحدي.. فأقرر أنني لم أمت بعد، أراقب أنفاسي.. فأتيقن من ذلك.

الغناء يختلط بأصوات الراقصين، يضربون كؤوسهم بالهواء. يحاولون الوقوف.. يتهادون.. يتعكّزون على الكراسي الخاوية أو على كتف أحد الجالسين، ثم يعودون للتمايل أو الدوران.

أراقبهم، تماماً كما تفعل حلقات الدخان المكدسة في السقف، الفرق بيننا أنها تضحك..

يجتمعون في وسط القاعة حيناً يرقصون «الدبكة» بطريقة عشوائية، غوغاؤهم تزداد بينما يتفرقون في أرجاء الصالة من جديد. يقف أحدهم فوق الطاولة ملوّحاً بمسدسه في الهواء بينما تقف زوجته على الكرسي، تتشابك أيديهما ويسقط المسدس أرضاً!

تقف «كونة» – أمي – بالقرب من العروسين تطلق زغرودةً طويلةً تهزّ كتفيها في نهايتها، ثم تميل نحوهما والكأس لا تفارق يدها. تخفض رأسها إلى الخلف تدريجياً حتى تصير بمستوى رأسيهما، يلثمانها كلٌّ من خد ثم ترتفع شيئاً فشيئاً. تكاد تهوي لكنهما معاً يسندانها بينما ثلاثتهم يقهقهون.

تجلس سلام إلى جانبـي، بيننا كرسيان شاغران كانت أمي تشغل أحدهما قبل أن تأخذها الثمالة وتغرق في الرقص.

تضم سلام طفلها إلى صدرها الذي اختفى بياضه تحت شال أسود. أخمّن أنها ألقمته ثديها بينما ألقمت قلبها للأسى يمصُّ شبابها بغير شبع.

أراقب رموشها التي تفضحها دائماً. ملامحها المتأهبة للنحيب في أيّ وقت. الكحل يرسم خطاً من العتم طويلاً على وجنتيها تحاول أن تقطعه برؤوس أناملها بين حين وآخر. تنتبه لي وأنا غارقة بإحصاء خيباتها، تبتسم مثل جثة، لا أستطيع أن أبادلها البسمة بمثلها، فأشيح بوجهي عنها.

تقع نظراتي على وجه أبـي المختبئ خلف موجة سُكرٍ عاتية. يرفع الكأس في وجهي عندما نلتقي نظراتنا، ويضحك. أراقب الشيب الذي التهم رأسه؛ أتمنى لو أطّلع على قلبه لأتيقّن إن كان قد بقي فيه رمقٌ من حياة. يرخي مرفقيه على الطاولة يوزّع ابتساماته في أرجاء القاعة ولا أحد يكترث لها.

بينما تبوح عيناه بعجزٍ حجّم حتى جسدَه، فنال منه الهزال حتى كاد ينهيه. وكأنما جسده انعكاس روحه!

يعلو صوت تشجيع في وسط القاعة، أُرسل نظراتي بصعوبةٍ نحو مصدره فألمح وجه سلمى. تتكاثر الرؤوس المتمايلة في مرمى بصري فتحجب الرؤية، ثم لا تلبث أن تنكشف مجدداً. ألمح مرهف وقد طوّق بذراعيه خصر سلمى، والجميع من حولهما يصفقون ويصفرون. أربّتُ على كتف الدهشة ثم أشيح بنظري نحو الفراغ.

أراه هناك.. ثم يختفي، يلتهم الدّخان وجهه. أراقب ساعة يدي، أسأل نفسي هل عبر الحدود؟

وأسهو عن كل ما حولي لأغرق في ذكره.. لا أكاد أجمع ملامح وجهه، حتى يوقظني صخب المجتمعين بالقرب مني.

أرفع رأسي قليلاً لأتمكن من رؤيتهما. ها هما يتعانقان، يرقصان بحالة أقرب للهذيان. سلمى تُقلِّد حركة أمي، تميل برأسها صوب مرهف الذي يلتقط شعرها بأصابعه ليرفعها بلؤم ويضحك.

لا تكف سلمى عن الرقص وتشاركه ضحكته المجنونة. يسحب مسدسه عن خصره بحركة راقصة يقلّبه بين كفيه ثم يعلقه بإصبع واحد ويبدأ بالرقص حولي بينما يلفّ المسدس حول إصبعه. الجميع يصفق، وحدي أنا أتابع المشهد بصمت وحياد، كأني لستُ معنيّةً بهذا العبث.

الجو يعبق بالمجون حلقات الدخان تضحك حتى يُغشى عليها. مرهف يرفع فوهة مسدسه في وجهي ثم لا يلبث أن يطلق رصاصته نحو السقف تتفرق سحب الدخان مذعورة. يتقلص الصخب لكنه يستمر.

يعاود مرهف الكرة ينهال بسيل من الرصاص في صدر الهواء الأعزل ونحو السقف.

يركض الجميع.. الضحك يستحيل صراخاً. رائحة البارود تطغى على رائحة الخمر.

صوت الرصاص يرن في أذني، ثم أُحسُّ بحرارته. الحرارة تتلاشى فجأة.. الصقيع يحلُّ بأطرافي.

وجه مُرهف يرتجُّ.. ثمّ يخبو.. لكن الصخب يعود.

رائحة البارود تخترق أنفي، لكنّ الصخب مستمرٌ..

أركض نحو الفراغ، أجمع ملامحَ ريّان على عجل..

ثمّ أحكيهِ لنفسي..

– ليلى –

– 1/آذار/1982

– الساعة السابعة و15 دقيقة مساءً

– المشفى الوطني في مدينة اللاذقية – قسم المخاض.

......

كان وصولنا إلى هذه المدينة بحدّ ذاته أشبه بمعجزة..

لهثنا نحو البحر هرباً من الموت الذي عاث في حماة جنوناً، بعد أيام طوال من التقوقع خلف جدران منزلنا، قضتها أمي وهي تصلي، فلا تكاد ترتفع من ركوع حتى تتبعه بسجود ولا تكاد تنهي صلاتها بتسليم حتى تفتتحها من جديد بتكبير. رغم بطنها المنتفخ كانت تقاوم ألم انحنائها وتصلي بدمعها قبل جسدها، بروحها قبل جوارحها.

صوت الرصاص يقاطع ابتهالاتها بينما يتناهى إليها صوت أبـي من المطبخ، مطالباً إياها أن تنضم إليه هو وليث مكرراً تنبيهاته لها مراراً بإخفاء سجادة صلاتها وأي غطاء رأس تملكه تحت صناديق الكراكيب المكدسة في «المنور».. كانت تستجيب متأخرة بعض الشيء فتصل إلى المطبخ بأنفاس متقطعة.

كان المطبخ ملجأهم حينما يعصف الجنون في المدينة فلا يصير من الممكن التمييز بين أصوات الرصاص وانفجارات القنابل تحت مطر من اللهب تقذفه الطائرات فوق أسطح المنازل.

المنازل المنكمشة على ذعرها؛ ينهار جدار من هنا ويتهاوى سقف من هناك قد يدفن تحته عائلة بأسرها؛ دون أن يظل منهم من يُنبئ بما حدث. وسنعلم فيما بعد أن إحدى تلك العوائل كانت عائلة جدي لأبـي.

في منزلنا كانوا ثلاثتهم؛ أبـي؛ أمي وليث يسكنهم الذعر تماماً حتى كأنه التهم أصواتهم على أرض المطبخ تحت عضد الحائط. المكان الأكثر أماناً في المنزل كله كما حدس أبـي.

تكوّر أمي يديها حولي بينما أنا أتابع حلماً هادئاً في رحمها بعيداً عن كل ذلك الصخب والرعب.

يتسمّر ليث في حضن أبـي ويستمر الموت في لهوه حولنا!

أخيراً.. بعد أيام كان الرعب فيها كالفَراش المبثوث في سماء المدينة، وصارت المنازل بعدها كالعهن المنفوش. أخيراً هدأ الوضع نوعاً ما. صمتٌ خبيثٌ فرد أجنحته في حماه، استغله أبـي للفرار نحو سماء أقلّ صخباً ومدينة أزقتها لم تستحل بعد مقابر جماعية. كانت بطاقة هوية أمي هي تذكرتنا للهرب، عائلتها المنتمية للاذقية وكنيتها العالقة في نهاية الاسم كلمة سر فتحت أبواب مدينة البحر في وجهنا كذلك ذهبها الذي كان يتناقص قطعةً قطعةً كلما عبرنا حاجز تفتيش إلى أن تلاشى تماماً في لحظة الوصول.

ما إن وصلنا اللاذقية حتى استبدّ الألم بأمي، ذاك الألم الذي ظلت تقاومه وتبتلعه على طول المسافة بين حماه واللاذقية مروراً بحَردة فجَلمة حتى صلنفة التي بلغوها بشقّ الأنفس. كانت الطريق بين صلنفة والحفة هادئةً وفاتنة؛ كأنما الموت الذي تركوه خلفهم في حماه كان قيامة كوكبٍ آخر.

لم تكد تلك الحافلة أن تتجاوز مدخل اللاذقية حتى كان الأنين قد تجاوز حنجرة أمي.

– عماد.. لن أحتمل أكثر.

مالت بكتفها – منهارةً – نحو أبـي الذي ما زال مأخوذاً بحزنه على مدينته الخارج منها دون أن يتبين خبراً واحداً عن ذويه الذين قد يكون طوفان الموت قد جرفهم. لم يفق من شروده إلا على صوت أمي وقد استحال صراخاً ممزوجاً بألمٍ أكبر من أن يُحتَمل..

– عمااااد... رح ولِّد...

أمام غرفة المخاض يخطو أبـي مضطرباً متوتراً يحصي بلاط الممر الضيق الواصل إلى غرفة الممرضات؛ جيئةً وذهاباً.

يقف لحظةً قرب باب غرفة المخاض حيث أمي تعض أصابع الألم لتضعني في حجر الحياة، ينصت لصراخها الذي يكاد يهتك فؤاده.

خالتي تجلس على كرسي الانتظار المقابل للغرفة كانت قد جاءت لاهثةً بعد أن هاتفها أبـي فور وصولنا المشفى.

كانت تقف بصعوبة وتعود لتجلس محاولةً أن تجد وضعية جلوس مريحة لجسدها المنتفخ. جلسة تلائم فقرات ظهرها الذي يرزح تحت حمل جنين يماطل في قدومه إلى هذه الدنيا.

أخي ليث في الجهة الأخرى من الممر؛ طفل بعمر الخمس سنوات يختبر الهدوء الذي كاد ينسى معناه، يختبره في ممر طويل يلفّه هدوء مساء غريب.

عاين ملامح المكان الجديد من حوله ثم راح يلعب الطميمة مع ظلّه.

كان المكان غير ملائمٍ للقاء بين ناجين من الموت أو للحديث عن قيامة ما أحاقت بمدينة كانت تبدو في تلك اللحظة بعيدةً؛ بعيدةً جداً. ولأن الكلام بدا عسيراً جداً فكان الصمت أكثر يُسراً وبلاغةً.

إلى أن قطعت صرخة ولوجي الحياة صمتهما الموتور..

وُلدت «ليلى» التي حلم أبـي بمجيئها منذ زمن حتى أنه اختار اسمي قبل ميلادي بأعوام..

سبقت صرختي حضورك إلى مسرح الحياة..

سبقتك بيومين وساعة وبضعة أوجاع وأعمار من الحزن..

– منى –

كان اليوم كئيباً كأي يوم عطلةٍ يمضغ روحي ببطء. أتشبّث بضحكة مجد لأهرب من عفن البيت وجوّه الموبوء.

كالعادة سلام ممدّدة في الصالة غارقة في اللاشيء وأمي تجلس قبالتها «تقرقع المتة» بينما تنفث من سيجارتها سحابة من الدخان تخفي ملامحها الجافة خلفها.

أجلس في غرفتنا؛ في الركن المخصّص لوحدتي وَسط حضورهم. أراقب المشهد في الصالة عبر الباب المفتوح.

قبالتي تماماً وجه أبـي الذي بدأ يغزوه الهَرم، أراقبه؛ أركّز عيني على تفاصيل وجهه الوديعة ثم أنقل بصري إلى أمي. يا الله ما أبعدهما؛ نقيضان.. نقيضان تماماً.

أنبش وجه أبـي بعينيّ مجدّداً؛ أبحث عن مسحة الجمال التي نجت من براثن الزمن في وجهه.

أعيد ترتيب التواريخ في ملامحه؛ أتخيله شاباً؛ فارع القامة، بعينين برّاقتين ورموش مترّاصة ومبسم بهيّ. يمشي في شوارع موسكو يخطف أنظار حسناواتها.

أتخيّله متأبطاً ذراع كرستينا بينما يذرعان الشوارع هناك دون تعب أو سأم.

كيف حال قلبك الآن يا أبـي؟!

أما زال ينبض بكرستينا؟!

كيف كبّلوك بكَونَة وأطفأوا ضحكتك؟! يا لِضعفكَ!!

أكزُّ على أسناني غيظاً.. لِمَ عساك خُلِقتَ بهذا الضعف؟!!

قبالتي يجلس؛ يضم شفتيه الداكنتين. يمصُّ رشفةً أخيرة من كأس المتة. يضعها على الصينية ويتابع صمتاً طويلاً يمارسه منذ عمر. ربما منذ نزعوا ذراع كرستينا من ذراعه ليزرعوا مكانها ذراع كونة.

أراقبه بدمعة حارقة تنبع فجأة بعينيّ.. كيف حال قلبكَ الآن يا أبـي؟!

أتذكر تفاصيل صغيرة خبّأتُها في ذاكرتي، أحاول أن أكمل القصة التي لم تكن يوماً سراً. لكني أعرف من تفاصيلها المخبّأة ما لا يعرفه سواي؛ عرفتُها صدفة ودفنتُها في صدري إلى الأبد.

يومها كنتُ أفتش في أغراض أبـي المكوّمة في كرتونة قديمة مدفونة وسط كراكيب كثيرة يعلوها غبار عمر. فوق السقيفة في منزل جدّي؛ وقعت يدي على ألبوم صور قديم لأبـي.

صورته في الثانوية يتوسّط شلة من أصدقائه، كان يافعاً بشارب نابت لتوه؛ يحمل حلماً في عينيه وعلى وجهه ابتسامة خلاّبة.

صورةٌ أخرى وسط الحقل وحيداً ثم صورٌ لوجوه أجهلها..

صورة لأبـي يقف حاملاً حقيبة سفر في يده اليمنى وجواز سفره بيده اليسرى. يرتدي بنطالاً يضيق عند خصره وفخذيه ثم يتسع فجأةً عند ساقيه. بقميصٍ منقّطٍ بياقة كبيرة ومرتفعة. شعره يبدو رغم انطفاء ألوان الصورة لامعاً؛ أنيقاً.

لفتتني الصورة، أخرجتُها يومها من الألبوم لأتحرّى إذا ما كُتِب تاريخٌ ما على ظهرها. لم أجد تاريخاً لكني قرأت «إلى روسيا...»

– كان الحزن مُشِعاً في عيني والدي.. «إلى روسيا...»

تابعتُ تقليب الأشياء بفضولٍ ينهشني..

قلادةٌ يأكلها الصدأ.. وحرفان ينبضان في وسطها «R–K» كنتُ أعرف أنهما اختزالٌ لحزنٍ طويلٍ «راغب وكرستينا... «كيف حال قلبكَ الآن يا أبـي؟!!

back to top