حصاد عام في حياة بيكاسو

نشر في 22-04-2018
آخر تحديث 22-04-2018 | 00:00
 فوزي كريم للوهلة الأولى تبدو لوحات بيكاسو مثيرة للدهشة، لا للمشاعر. يعزز ذلك قدرته على الإيجاز في تشكيل اللوحة، وغزارة الرغائب فيه، وغزارة إنتاجه. هذا انطباعي الأول حين غادرت المعرض الاستعادي الواسع الذي يقدمه Tate Modern، تحت عنوان "بيكاسو 1932: الحب، الشهرة والمأساة". لكني ما إن بلغت البيت، ورحت أقلب اللوحات على الورق، حتى صرت أستعيد إثارة المشاعر أيضاً. ثمة علاقة مشيمية بين حياة بيكاسو ولوحاته. وما المعرض، الذي يضم 100 عمل فني عبر عشر قاعات، سوى يوميات تشكيلية لما حدث له عبر أشهر عام واحد لا غير، هو عام 1932.

أمر مثير للدهشة بالتأكيد، لأن ما حدث له، وأثار همة الفنان فيه بهذه الغزارة، هو الحب المتستر، ثم المُعلن، لامرأة واحدة، تصغره بقرابة ثلاثين عاماً. وهذا الحب الجسدي والروحي جعله حريصاً على اعتماد "التشخيص"، أو "البورتريت" بالأحرى. وكان بذلك يباهي منافسه ماتيس، الذي شغله اللون والتجريد آنذاك.

كان بيكاسو في الخمسين، متزوجاً من راقصة الباليه الروسية أولغا خوخلوفا، وله منها ابن يُدعى ﭘاولو. ورغم أنها كانت مصدر إلهامه الفني طوال سنوات 10 - 1920، فإن علاقته بها انحدرت إلى الجفاف والجفاء. كان عادة ما يعزل نفسه في علّية من شقته الفخمة في باريس. بقاعة المعرض الأولى نقع على لوحة صغيرة ذات ميل سوريالي، تصور "امرأة مع خنجر"، تقتل منافستها، وضعها بيكاسو في عيد رأس السنة من عام 1931. هل أملت العلاقة مع زوجته عليه هذه الرؤية؟ في اليوم ذاته وضع لوحة كبيرة لامرأة غضة، تستريح على كرسي، بوجه على هيئة قلب، دون تفاصيل. لعله اضطر لإخفاء الملامح، خشية من زوجته. التفاصيل انصرفت إلى الجسد الأنثوي اليانع، المثير، لفتاة يافعة ارتبط بها سراً تُدعى ماري تيريز والتر (22 عاماً).

المعرض بأعماله المئة تنويع لا يكاد ينفد على ماري تيريز، العشيقة السرية، الشابة، المتعافية، من عين راصدة بالغة الحسية لفنان في الخمسين. الغريب، أن زوجته (أولغا) لم تكتشف هذه العلاقة طيلة سنوات، رغم صحبة ماري، حتى عام 1935، حين بدت الأخيرة حاملاً. كانت الزوجة، راقصة الباليه، صاحبة صالون اجتماعي كثير النشاط، إلى جانب انشغالها بتربية ولدها ﭘاولو.

في القاعة الثانية نواجه حصاد شهري يناير وفبراير، الذي يدور، في ضرب من النشوة، حول مجموعة من لوحات بورتريت لامرأة شابة تستريح على كرسي، مع كتاب حيناً، وحيناً نائمة، أو مصغية للموسيقى. وهي صور مُتخيّلة في مجملها، لأن بيكاسو لم يكن يرسم عن موديل حيّ. واللوحات، رغم موضوعها الواحد، تختلف فيما بينها من حيث أسلوب التناول ومزاج الفنان النفسي. فأنت تجد هارموني اللون قد يتحول إلى تشويه سوريالي، وتجد الفتاة التي تبدو بالغة الحسية وهي في العمل التالي تنحرف إلى شكل كاريكاتيري، أو إلى شكل نحتي يكاد يقرب من الشكل المجرد. ولعل هذا التحول يعكس مزاج بيكاسو المضطرب، المعقد في علاقته مع المرأة، كما نقرأ عنها في سيرته.

ثمة قاعة ننصرف فيها إلى أعمال نحتية لا تغادر الفتاة ماري تيريز، إذ لم تعد تُخطئها العين. فقد توافر لبيكاسو، بعد أن اشترى بيتاً ريفياً في "نورمندي"، متسع أرضي لنشاطه النحتي، ومتسع لخلواته السرية. والأعمال النحتية تكاد تكون نقلاً، بالنشوة ذاتها، لبورتريت الرسم. وثمة قاعة لأعمال أنجزها بالفحم على الورق.

على امتداد شهور الصيف تطلع علينا ماري تيريز عارية على شاطئ البحر، تحت الشمس، أو تحت ضوء القمر، وبهيئات تعكس تحولات في مزاج الرجل الشهواني. لكن بيكاسو لا يتركها متعافية دائماً، فقد وضع أعمالاً صغيرة نسبياً، وهي في حالة متهالكة بين يدي المغيثين. كانت ماري تيريز قد سبحت في مياه نهر ملوث، فانهارت صحياً. بهذا المعنى كانت خاتمة العنوان، وخاتمة المعرض.

back to top