خطورة الأفكار (1)

نشر في 21-04-2018
آخر تحديث 21-04-2018 | 00:06
 جري سالم الجري بالفكرة يمكن أن تخترع مصل دواء أو قنبلة أكسجينية، ويمكن أن تطلق زوجتك ثم تتزوج أربعا، وقد تصمم بالأفكار قصيدة وطنية أو تجهز متفرقعات لفتنة طائفية، إذن الأفكار هي مورد الخير والشر لأفعال الإنسان، ولكن هل تقف خطورة الأفكار عند حدود سوء مصير الإنسان فحسب؟ أم قد تردي المجتمعات؟

أوضح مثال هو الفيلسوف النمساوي الذي قضى حياته في المصحات العقلية بعد انجرافه في دهاليز وساوسه الفلسفية، وأصفى مثال لصفاء البال هو الخيّر النيّر عبدالرحمن السميط ذو القول البسيط والذهن السديد.

وأنا كعادتي كلما أردت توضيح أي مفهوم اتخذت له في المقدمة مدخلا علميا، فلنسأل كيف تتشكل الأفكار في المخ؟ وهل يمكن أن نأخذ ملقطاً ونستخرج فكرة ونسحقها أو ننسخها ونلصقها من رأس إلى رأس ونريح كل المعلمين؟ للأسف، لم يصل العلم إلى مرحلة "هكر" المخ حاليا، لكنه وصل إلى معرفة كيف تتشكل الفكرة، فكل مخ فيه مئة مليار خلية دماغية تقريبا، تسمى العصبونة، هذه العصبونة لها شكل أقرب للشكل الدائري ولها أذرع، وداخل كل واحدة منها مزيج كهرو-كيميائي، عبارة عن خليط هرموني وميكرو-فولت، هذا الخليط هو شفرة لكل فكرة.

أذرع العصبونات فيها قنوات تربط الأفكار المشفرة داخل كل عصبونة، فعندما تفهم موضوعا معينا فإنك تغزل خيوط العصبونات ببعضها لتكون شبكة عصبونية، فالبروفيسور الذي يشرح المجال نفسه لعشرات السنين تجد دماغه عبارة عن شبكات عصبونية، وكل مرة يفكر فيها في الموضوع نفسه هو يفكك هذه الشبكات التي تعيش في دماغه ويحبكها بخياطة جديدة، وهنا تكمن تسلية التفكير، لأن النشاط الذهني من إعادة حبك العصبونات يفرز لنا هرمونات السعادة، ولكن هل لهذه التسلية العقلية خطورة؟

أيها القارئ العزيز خطورة الأفكار ليست محصورة في الفرد بل تمتد إلى المجتمع أيضا، فلنذهب للشرق الأقصى ولنلج جزر اليابان الموصوفة ببلد الشمس العالية، فإن من أكبر الأفكار التي طورت اليابان، مفهوم "كايزن" و"مودا"، كايزن هي أن تسعى إلى التطوير المتواصل في أي منتج تصنعه، و"مودا" هي الإعفاء من أي مجهود غير نافع في عمليات الإنتاج.

فمن يؤمن بطريقة الكايزن لا يصبر نفسه ليصل إلى ذروة الكمال بمنتجاته لكي يصدرها، بل يصدر ما لديه ويحسن ما عنده في الورشة بعدما باع القديم واستفاد، فهي فكرة واقعية، تعترف باستحالية الكمال، وهي ذات المفهوم الذي يستخدمونه بكل مجال تتخيله، وأما "المودا" فهي ما نحتاجه في كل وزارة وكل دولة باختصار شديد!

كانت اليابان قبل انقضاء الحرب العالمية الثانية تعاني خزعبلات أسطورية مثل ألوهية الإمبراطور، الذي اعترف بإنسانيته وتواضع للشعب ورضي أن تكون زعامته صورية لأول مرة في التاريخ بعد انهزام اليابان، لتكون اليابان وطنا مدنيا يؤمن بالديمقراطية، بعد أن كان أجداده يعدمون أبناء الشعب لأتفه الأسباب، وينفرونهم عن الاختلاط بالعالم الخارجي، فهل حان الوقت لمدارسنا أن تعترف بأن الأهمية والخطورة هي في الأفكار لا في كمية المعلومات؟ فالفكرة تدخلك جنتَي الدنيا والآخرة وبها تخلد في جحيمَي الدنيا والآخرة.

back to top