خيمة مروى

نشر في 14-04-2018
آخر تحديث 14-04-2018 | 00:00
No Image Caption
روتها مروى عشرات المرّات، وقائع تلك الليلة المشؤومة، ليلتها لكلّ من حضر من أهل الحيّ, رجالاً ونساءً مستطلعاً ومستفسراً ثمّ في الأيام التالية عندما تبيّن أنّ المشكلة كبيرة وغامضة. سلفها وبنات حميها، الجيران، الأقارب، الأصحاب والحشريّون من خارج الحيّ، زاروها على التوالي، فرادى وجماعات، ومع كل مجموعة كان عليها أن تكرّر ما حدث، وفي كلّ مرّة تتذكّر ما فاتها ذكره في الروايات السابقة، تزيد بعض التفاصيل أو الإيضاحات، وتلحق بروايتها ما توصّلت إليه التحقيقات والاستقصاءات غير الرسميّة. لم تر وجهاً للدرك أو لأيّ سلطة أمنية ولا حتى لمسؤول الميليشيا المحلّية. ظلّ البيت يعجّ بالناس لساعة متأخّرة، والمهتمّون لا يهدأون، يدخل واحد ويخرج آخر، يتذكّر أحدهم أين يمكن أن يتواجد زوجها في مثل هذا الوقت، في مطعمٍ أو مقهى أو محلّ للعب الميسر، أو عند صديق يشاركه العشاء. فيغادر على وجه السرعة أو يوفد أحدهم مستطلعاً. ينتظرون عودته فيما هم يستعيدون بعض التفاصيل علّها تهديهم إلى شيء ما . يعود ويصمت الجميع وينظرون إلى وجهه وهو يرفع حاجبيه سلباً أو يبلغهم بعبارة موجزة: «ما في شي، ما شافوه!»، تنهال عليه الأسئلة، يستمرّ في رفع حاجبيه وهزّ رأسه يميناً ويساراً. أحدهم يقصد المخفر ويعود منه شاتماً الدولة والميليشيات والفوضى: «بلد سايب، عسكريّ واحد، ونايم غافي» قال إنه لا يستطيع أن يغادر المركز، وكلّ ما أمكنه فعله هو إرسال برقيّة يبلغ فيها النيابة العامة بما حدث. لكنّهم لم يروا من الدولة وجهاً، لا يومها ولا بعدها. وظلّ السؤال:

«من هو صاحب الصوت الذي ناداه؟»، يكرّرون السؤال على مروى: «أما ذكّرك بأحد!»، ومروى لم تعرف قطّ من هو صاحب الصوت. أحد شباب الحيّ من أصحاب الصداقات مع بعض عناصر الميليشيا اتصل بهم واستفسر منهم إن كانوا يعرفون شيئاً، فجاءه الردّ أيضاً بالنفي مع وعد بأن يعملوا جهدهم في متابعة الموضوع. انقضت الليلة من دون نتيجة، وانسحب الزوّار واحداً تلو الآخر، على أمل أنّ «الصباح رباح»، مكرّرين بعض الافتراضات من باب طمأنتها، فربّما يكون رافق بعض الأصحاب إلى طرابلس أو إلى بيروت ليسهروا هناك، ولم يستطع الاتصال لإبلاغها بذلك. ابنها البكر جهاد، ابن العشر سنوات، نام أخيراً، بعد أن سهر معهم، ملتصقاً بها صامتاً منصتاً منقّلاً نظره من شخص إلى آخر. بقيت وحدها مع حماتها، تبادلتا بعض الكلام، استوضحت الواحدة منهما الأخرى عن مختلف الاحتمالات، وحتّى الآن لم تذرف إحداهنّ دمعة. رغم القلق، لم ينتابهما الخوف، ولم تشعرا بعد بنزول المصيبة، كرّرتا أنّ «الصباح رباح»، فقد يعود زوجها من سهرته في مكانٍ ما مع وجه الصبح، وتنجلي الأمور. لم تنهض أي منهما إلى النوم. بقيتا في غرفة الجلوس، غلبهما النعاس قبل الصبح بقليل. لم تحسّا كم دامت غفوتهما في مكانهما، لكن عندما استيقظتا الواحدة بعد الأخرى، أسرعتا إلى غرفة النوم. لم تجداه. حضّرت مروى ركوة قهوة، وشربتا إلى أن حان موعد ذهاب الأولاد إلى المدرسة. ارتأتا إرسالهم، أقله لإبعادهم مؤقّتاً عن هذا الجوّ. الساعة السابعة، وقاربت الثامنة. لا بدّ أن يعود، عنده ورشة عمل، وشغّيلته حضروا لمرافقته، وجلسوا معهما منتظرين. وعاد الناس يتوافدون مستفسرين، معظمهم قبل ذهابهم إلى أعمالهم ووظائفهم، ويبدون قلقهم الفعليّ إذ يعلمون أنه لم يعد بعد. وقرابة الحادية عشرة من قبل الظهر، وإذ لم يتبلّغوا شيئاً لا من المخفر، ولا من أزلام الميليشيا، وإذ حضر كلّ أصدقاء زوجها للاطمئنان، بكت مروى. إنهارت ومعها حماتها. ومجدّداً اكتظّ البيت بالناس، نسوة الحيّ ومن لا شغل عنده من الرجال. جولات جديدة على الأصحاب والمطاعم والمقاهي، من دون نتيجة. وبعد الظهر عاد الرجال من أعمالهم وحضروا للاستفسار، واندفع بعضهم للتفتيش

في كلّ مكان، في الحقول المجاورة، وعلى طول كتف النهر. لعلّه تعرّض لحادث انزلاق وغرق، لنوبة قلبيّة أو ربّما انتحر. وإذ لم يلقوا نتيجة، بدأت تسري همهمات عن إمكان تعرّضه للخطف. الأستاذ يوسف مدير المدرسة ونسيبه ورفيق عمره فكّر في احتمال أن تكون المسألة شخصيّة. قصد بيت «القاضي»، يعرف أنّ «حسنا» وحدها في البيت، وشقيقيها في شغلهما، اختلى بها وسألها «هل عاد يزوركم؟»، نفت ذلك، وعاد يسألها إن كان من الممكن أن يكون شقيقاها أرادا الانتقام منه. أنكرت ذلك، وذكّرته بأن لم تقم بينهما أساساً علاقة، ولم يبلغ أخويها أيّ خبر ممّا أشيع حولهما، وأكدت أنه ما زال صديقهما، حتى وإن انقطعت زياراته، وهما يكنّان له كلّ محبّة واحترام. عاد مطمئنّاً أطلع مروى على ما راوده من شكوك، وأخبرها بأمر زيارته. أخيراً أطلعته مروى مع حلقة ضيّقة من الأصحاب على ما أسرّ به زوجها إليها بعد الانفجار الذي وقع في ساحة البلدة طالباً منها أن تتكتّم عليه، فباتوا شبه متيقّنين من احتمال الخطف، وربّما التصفية الجسديّة. لكنّهم لم يعربوا أمامها، ولا أمام الجمع، عن خشيتهم. ولم تكن هي بحاجة إلى من ينبّهها إلى هذا الاحتمال بعد ما سمعته من زوجها يوم وقوع الانفجار.

عاودوا الاتصال بالمخفر وبقيادات الميليشا المحلّية وبزعيم نافذ هم مقرّبون منه وعدهم بملاحقة القضية. صار البيت محفلاً يتردّد عليه المتابعون والمستطلعون والمواسون، في انتظار أخبار جديدة. زارت حماتها كنيسة السيّدة المجاورة لبيتهم، نذرت النذور، وجرّت معها الأولاد وكنّتها أحياناً. تقصدها حافية على الإسفلت الحامي. شاركها الجيران الزيارات والصلوات على مدى أيّام وأسابيع، ثمّ بدأ عددهم يقلّ، كما قلّ زوّار البيت يوماً بعد آخر، خصوصاً بعد أن قتل الشكّ بشبه اليقين بأنّ منير الغريب قد خطف، ليعتقل لدى جهاز مخابرات الدولة المجاورة، دولة الوصاية على لبنان، وربّما يكون قد نقل إليها، ولم يبق أمام مروى وعائلتها سوى انتظار ما ستؤول إليه الاتصالات التي تكفّل الزعيم بإجرائها بالتعاون مع قيادة الميليشيا المحليّة المقرّبة من دولة الوصاية. وانتظرت مروى، ومعها العائلة، كثيراً، على مدى أسابيع وأشهر، توقّفت في خلالها أيّامها وحياتها العادية، وبعد أن فقد الأقارب والمتابعون الأمل شيئاً فشيئاً وبردت همّتهم صارت تبادر هي بنفسها، تقصد الزعيم، أو قائد الميليشيا وأزلامـه النافذين أو أحد المسؤولين الأمنيّين ممّن كانوا يتولّون التنسيق مع سلطة الوصاية في الشؤون الأمنيّة. وتباعدت زياراتها لهم بعد أن صارت الأجوبة تتأخّر، وما يأتي منها لا يحمل جديداً، حتّى بات عليها أن تتأقلم مع الوضع، فسلّمت أمرها لله من دون أن تستسلم في داخلها، لكن في نهاية المطاف كان عليها أن تتدبّر شؤون عيلتها بنفسها، فما يقدّمه إليها سلفها وحماتها لا يكفيها، كما لم ترد تحميلهما عبئاً إضافياً، ما اضطرّها إلى العودة إلى التعليم في مدرسة الراهبات الابتدائيّة.

back to top