نذير

نشر في 07-04-2018
آخر تحديث 07-04-2018 | 00:00
No Image Caption
تعالت صيحات الفزع، وتطايرت شرارات الغضب، مختلطة بهدير الرصاص الهائج الذي لم يصمت لبضع ثوانٍ عصيبة.

نداءات استغاثة مدوّية، أعقبتها أصوات مرعبة، تنطق بفراق الحياة بذعر لا يوصف!

لم تدر في خلد أولئك المنكوبين، تلك الأحـداث الملتهبة التي سيصطلون بنارها الليلة، وأزوف ويلات الأجل المضروب الذي سيلفظون فيه أنفاسهم الأخيرة.

كانوا سبعة - وثامنهم سائقهم نذير ـ حزموا حقائبهم قافلين للارتماء في أحضان الوطن مجدّداً.

رمق نذير ساعة معصمه.

الوقت قد تجاوز منتصف الليل، وهو لا يزال واقفاً في صالة القدوم يترقّب بضجر وصول المسافرين السبعة الذين سيقلّهم من المطار.

تأمّل بمقت الحشود الهائلة المتدافعة من أبناء وطنه، كأسراب من الطيور تهاجر فراراً إلى رزقها من ضراوة الحياة في بلد يحمل سلّة غذاء فارغة، في مقدورها إن غدت ممتلئة إطعام أفواه البشر قاطبة.

لكنّ الرّغبة لم تداعبه قطّ في تأبّط حقيبته هرباً من وطأة البحث عمّا يسدّ الرّمق.

يكره أن يرسم لنفسه لوحة يحيا فيها شريداً يجوس خارج دياره، يمتهن أعمالاً وضيعة تجلب عليه نقمة الأصدقاء وشماتة الغرباء، فتكتمل صورة قاسية من الأسىء، مبعثرة المعالم، في إطار مشتعل بنيران الغربة التي لا تطفئها دموع الحنين.

هبط القوم، ثمّ ساروا صفاً خلف نذير، يقودهم نحو السيّارة الجيب المركونة في موقف المطار.

الطقس قارس البرودة، يلفح الصقيع وجوههم، في ليلة طويلة من ليالي العاصمة الخرطوم، بيد أن السماء لا تزال صافية، يطلّ منها وجه القمر مشرقاً كالعهد به.

تسلّلت أشعّته الفضّية إلى داخل العربة الكبيرة فأضاءت جانباً من وجوههم المنهكة من طول الرّحلة وفرط النّعاس.

ألحّوا على التوجّه من فورهم صوب مدينتهم رغم محاولات أحدهم ثنيهم عن عزم المضيّ، وإقناعهم بالمبيت الليلة في منزل أقاربه، الكائن في مدينة الخرطوم بحري..

في نهاية المطاف، كانت الغلبة لأصوات من اختاروا متابعة السير، يحدوهم شوق عارم لملاقاة ذويهم بعد طول غياب.

رضخ السّائق لأمرهم بالتوجّه نحو المدينة المنشودة، وساد الهدوء بعد دقائق مضت في اللغط والجدال.

جابت السيارة عدّة طرق حتى ارتمت في أحضان جسر المكْ نمر الفاتن، تتهادى فوقه بدلال، بينما يسري تحته نهر النيل الأزرق بهدوء وعظمة. تتلألأ فيه أشعة القمر ممتزجة بانعكاسات إضاءات الطرق وإنارات الفنادق والمباني الأخرى التي ألقت بظلالها على شاطئه.

ألقى أحدهم نظرة استطلاع عبر زجاج نافذته فابتسم طرباً لرؤية المشهد البانورامي المهيب بالقرب من منطقة يتلاقى فيها النيلان الأبيض والأزرق فيرسمان لوحة تشكيليّة وهميّة لخرطوم فيل، اكتسبت منه العاصمة اسمها، هي التي تبدو في ضخامتها وهدوئها الليليّ كفيلٍ بريء ووديع.

ثمّة قارب فارغ، يعلو ويهبط في النهر متأرجحاً، وبضعة متنزّهين يسيرون على مهل على الأرصفة المقامة بمحاذاة النيل، مثنى مثنى، كعشّاق يهمسون بأسرارهم في جنح الليل.

عبرت السيّارة الجسر منطلقة بسرعة، تنهب الأرض من تحتها، مندفعة نحو الطريق السّريع المؤدي إلى ولاية نهر النيل.

بات الطريق سابحاً في ظلمة كئيبة، بعد أن خلّفوا العاصمة وراء ظهورهم بأبراجها الحديثة الشاهقة ومبانيها الضّخمة العتيقة، مازجةً في بقعةٍ واحدة بين حداثة عصرٍ حاضر، ومستقبل مبهم، وعبق تاريخ عريق مضى.

ظلّ نذير صامتاً يقود بسرعة متوسّطة نزولاً عند رغبة زبائنه بعدما أصمّوا أذنيه بطلب التريّث ولزوم التقيّد بإرشادات التأني.

أشعل الراكب الامامي سيجارة، مسترخياً على مقعده الجلديّ، وأخذ يفكّر بهدوء وهو يرمق السّماء بعينين حالمتين عبر زجاج فتحة السّقف من فوقه.

غطّ الراكب القابع خلفه في النوم، وظلّ آخر خلف نذير يتابع بشغف ما أمكنه رؤيته من مشاهد الطريق المبعثرة من وراء نافذته، ولم ينفكّ الراكبان في الوسط يحملقان من بداية الطريق في شاشتي هاتفيهما الخلويّين للدردشة عبر برامج التواصل الاجتماعي، فيما اضطجع اثنان في مؤخرة السيارة غارقين في نوم عميق.

صمت مخيّم يلفّ الرجال الثمانية، كصمت المقابر.

لا يزال نذير متنبهاً لما يدور داخل المركبة، ويراقب الطريق في ذات الوقت بصمت مطبق، غير أن ثمّة ما يحوك في صدره على نحو مبهم وغريب!

يساوره قلق من دون مبرّر واضح، بحدس أعرابيٍّ أمضى قسطاً كبيراً من حياته متنقلاً يجوب الصحراء ويستشعر الخطر وهو يقترب منه كلّ لحظة.

أمسى أكثر تيقّظاً، وعيناه الصغيرتان المتسائلتان تضيقان أكثر في مرآة السيّارة الأماميّة، وهو ينقّل عبرها بصره بين الرجال.

بات الظلام دامساً مع تواري القمر خلف أسراب السّحاب.

ما من أضواء يبصرها القوم سوى تلك الصّادرة من المصابيح الأمامية لمركبتهم، والوميض المنبعث من مصابيح مركبات تبرز من خلفهم، ثمّ تتجاوزهم منطلقة بأقصى سرعتها، والأنوار السّاطعة من شاشات هواتفهم المتنقّلة.

بيد أن أضواء السيارات ما لبثت أن خبت ثمّ تلاشت نهائياً مع اتّخاذ نذير درباً آخر، حين ألقى نظرة نحو ساعته، وألفى الوقت متأخراً جداً فاستطال الطريق المعبّد، وقرّر أن يسلك درباً ترابياً مختصراً.

انعطف بالسيارة إلى جانب الطريق الأيمن.

انتبه أحدهم ووجهه يحمل علامة استفهام، متسائلاً: “نذير، هل ضللت الطريق؟!”.

تململ الأخير في مقعده، متمتماً بعبارات حانقة.

قطّب حاجبيه، وأحدّ النظر عبر المرآة إلى محدثّه الذي اعتاد مخاطبته باستعلاء، لكنّ سورة غضبه تبدّدت حين ردّ أحدهم: “دعه وشأنه، نذير يحفظ الطرق عن ظهر قلب... هو قادر حتّى على سلوك دروب خاصّة به عبر تتبّع النّجوم”.

حثّ ذلك نذيراً على التحدّث قائلاً بصوت عميق تخالطه بحّة جرّاء شراهته في تدخين السّجائر: “أَنشِدُ طريقاً مختصراً يوصلنا إلى الهدف في وقت قياسيّ. لا داعي للقلق أيّها السّادة”.

لكن التوتّر كان يدبّ بالفعل في نفس نذير، والشعور الغامض بخطر محدق يتصاعد في قلبه وهو يتوغّل أكثر وسط براري موحشة وشاسعة.

أمسك المقود بكلتا يديه حين أخذت السيارة تميد ذات اليمين وذات الشّمال بفعل الرياح الهائجة، وغدت الرؤية أكثر صعوبة مع تعكّر صفاء الجوّ بالهواء المحمّل بالأتربة.

ثمّ، على نحوٍ مفاجئ، توقّف نذير في منطقة تبدو قاحلة، وغير مطروقة.

أوقف محرّك السيّارة، وأطفأ مصابيحها كيلا يجلب ضوؤها العقارب فاشتدّت ظلمة المكان على نحو مخيف.

أنزل زجاج نافذته قليلاً، فلفحت وجهه الشّاحب موجة عاتية من الهواء البارد.

كانت الريح تصدر صفيراً خافتاً، وثمّة نباح كلابٍ يتناهى من بعيد.

انتصب الرجل القابع بجوار نذير في مقعده، واستيقظ آخرون من نومهم منزعجين، مستفهمين على نحوٍ كئيب عن سرّ التوقّف الفجائي في مكانٍ كهذا، في بقعة غريبة يغلّفها سواد شديد، تحيط بهم بريّة مقفرة، مترامية الأطراف، ورياح ترابيّة عاصفة.

أجابهم على استحياء بأنه ظلّ يغالب ضرورة قضاء حاجته، حتى بلوغه حدّاً لم يعد يطيق احتماله.

وبرغم ما يشعر به من خطر وشيك لا يدرك كنهه، قرّر المجازفة بالهبوط والسّير دون توغّل في الخلاء لقضاء حاجته على عجل ووجل.‎ ‏

back to top