حبر و ورق

نشر في 31-03-2018
آخر تحديث 31-03-2018 | 00:00
No Image Caption
قراصنة المعلوماتية... والقلوب

وقف أليكس على أطراف أصابع قدمَيه لبلوغ علبة الحبوب التي بقيت بعيدةً عن متناول يدَيه. مُهَمهِماً، ذهب لإحضار كرسيٍّ بهدف التقاط وجبته الخفيفة.

«ما الهدف من وضعها على هذا الارتفاع؟» تساءل.

بعد ذلك، فتح باب البرّاد وتناول الشيء الوحيد الموجود على الرفوف: قارورةُ نصفِ ليتر من الحليب نصفها فارغ سكب محتواها فوق حبوبه، وجلس على كرسي مرتفع، وتناول لُقمة تردّد صداها في المطبخ الكبير المليء ظلالاً.

سبق لأليكس أن أقام منذ أسبوع في منزل والدته التي لم تبدُ مغتبطة بالوضع. لم تَقل شيئاً، ولكنه ليس مغفَّلاً. فمادلين سيدة أعمال كرّست كثيراً من الوقت لمهنتها على حساب دورها كوالدة. في الصِّغر، كان يُقيم مع والده على الدوام ولا يرى والدته إلا في مناسبات نادرة، ولا سيما في أعياد المولد. منذ زمن بعيد، قَبِل أليكس فكرة أن هذه المرأة البارعة، المَزهوّة بنفسها، غير المبالية، لن تكون أبداً كأمهات أصدقائه. نادراً ما كانت تستعلم عن صحّتهما ولا تبدو مرتاحة تماماً في وجوده. لم تكن تملك الإحساس الأمومي المُرهَف، مفضِّلةً التركيز على عملها. لم يُزعج هذا الأمر أليكس بسبب علاقته المميَّزة مع والده. أما وقد بات مُرغَماً على العيش معها، فقد وجد أن علاقتهما لن تخلو من المَشقّة.

ورنّ هاتفه الخلوي، مُضيئاً طاولة المطبخ. إنها رسالة نصّيّة من كاميل:

«أنا هنا».

بعد أقل من ثانية، قُرِع الباب الخَلفي وذهب أليكس ليفتحه.

«الطقس بارد هذا المساء»، تأفّفت صديقته أثناء دخولها، «ومن الجنون أن تُقيم والدتك بعيداً! عمّا قريب، لن يعود بإمكاني القدوم مع سيارتي ‘فيسبا’ لأن الثلج سيبدأ بالتساقط».

وخلعت مِعطفها، وقفّازاتها، وجزمتها، وجلست إلى المنضدة مباشَرةً.

«هل أنت عصبيّ المزاج؟» سألته من دون تمهيد، وارتسمت على زاوية شفتَيها بسمة.

«لماذا؟ لأنني سأنتقل إلى مدرسة جديدة غداً، في منتصف العام الدراسي؟» أجابها بتهكُّم. «لا على الإطلاق».

وعاد إلى تناول حبوبه.

«لا أعرف كيف تتمالك أعصابك،» تابعت كاميل، واضعةً ركبتَيها تحت ذَقنها. «لو كنت مكانكَ لَتوتّرت أعصابي. ارتياد مدرسة خاصة مع الطلاب الأكثر حظّاً في المدينة!»

«أهلهم هم الأثرياء»، أوضح أليكس. «بالنسبة إليّ، لا رغبة لي البتة في ارتيادها».

«هل حاولتَ التحدث إلى والدتك؟»

«ماذا؟ لا تكون موجودة أبداً، تعمل طوال الوقت. بأي حال، طالما رغبتْ في ارتيادي مدرسة خاصة. المدرسة الرسمية لا توحي بالمَقام الرفيع. لقد عارضها والدي، لكنها..».

وجفّ فم أليكس، وحدّق بكعب طاسته من دون إضافة أي شيء.

إنحنت كاميل نحوه ولمست يده.

«هل من جديد عنه؟»

«ليس منذ إرسال هذه الرسالة النصّيّة لي. ولكن أعتقد أن باستطاعتي اقتفاء أثره».

«لا أعتقد أنها فكرة جيدة..».

«توقّفي،» قال أليكس أثناء وقوفه، متنهِّداً. «أعلم أنه طلب مني عدم البحث عنه، ولكنني مَن وضعه في هذا الموقف، وسوف أساعده في الخروج منه».

وتوجّه نحو المِغسلة حيث ألقى بطاسته من يده وكادت تتحطم تحت وطأة الاصطدام.

«مجموعة ‘أيه دي أن كاوس’ خطِرة،» تذكّر. «في العام الماضي، أُمسك بثلاثة من قراصنتها يتجسسون لصالح الحكومة الروسية. بعد اعتقالهم، لم ينتظروا محاكمتهم لأن هؤلاء الثلاثة اغتيلوا بعد أيام في حُجرتهم. جمعتُ كثيراً من المعلومات حول ‘أيه دي أن كاوس’ مؤخَّراً. يشتهر أعضاؤها بمساعدة قراصنة على الخروج من مآزقهم، ومن ثم يُرغَم هؤلاء، في المقابل، على إنجاز مهامَّ محفوفة بالمخاطر، مهامَّ يفضّلون عدم إنجازها بأنفسهم. لا أَجرؤ على التفكير في ما سيفرضونه على والدي. تعرفين كم هو موهوب..».

في العادة، كانت مجموعات القراصنة غير منظَّمة وتفتقر إلى قائد حقيقي. تختلف ‘أيه دي أن كاوس’ عن سواها بسبب وجود موارد مالية غير محدودة تقريباً، تحت تصرّفها، إضافةً إلى المواد المعلوماتية الأكثر تطوُّراً.

«أعتقد بالأخص أنك تُقدِم على مجازفة كبيرة إذا حشرتَ أنفك في شؤونهم» حذّرته كاميل. «أعتقد أن علينا الاكتراث بمجموعة ‘فوريه 53’.

وارتسمت على وجه أليكس أَمارات الإرباك.

«ما علاقتها بذلك؟»

«هي من نصبت لك فخّاً بالتأكيد. أرادت أن تخدعك ويجب معرفة السبب».

«إختفت منذ هذه العملية المشؤومة. لن أُضيع وقتاً في محاولة إعادة تقفّي أثرها في حين يواجه والدي الخطر».

«يمكننا محاولة معرفة المزيد عنها».

فحدّق بها أليكس بجِدّيّة.

«إسمعي، إما تكونين معي وتساعدينني على إخراج والدي من مأزقه، وإما تدعينني أقوم بذلك».

قاومت كاميل نظرة صديقها العازمة قبل أن تستسلم:

«جيد جدّاً. كيف تريد أن تبدأ؟»

فابتسم لها أليكس وقبّلها على خدّها أثناء مروره بقربها في طريقه لإحضار حاسوبه المحمول. لدى عودته، كانت تقوم بفتح كل أبواب خزائن المطبخ.

«هل يمكنني مساعدتك؟»

«هل أحلُم أم أن لا شيء هنا البتة لأكله؟»

«أعرف. لا تأكل والدتي إلا في المطعم. قالت إنها ستشتري لي أطباقاً جاهزة، ولم يتسنَّ لها الوقت بالطبع... أم أنها نسيت أنني أُقيم عندها،» أضاف بمرارة.

عادت كاميل لتجلس إلى المِنضدة، ومن ثمّ تربّعت.

لم يسبق لها أن رأت والدة أليكس سوى مرة واحدة بمناسبة عيد مولده منذ عامَين، وتحتفظ بذِكرى امرأة أنيقة متعالية بالكاد وجّهت لها الحديث.

فتح أليكس حاسوبه وأدار الشاشة نحو صديقته، وعلى وجهه مسحة رِضى.

وتنهّدت كاميل. على الشاشة السوداء أرقامٌ خضراء فلّورية تمرّ على التوالي. هي تتمتع بموهبة كتابة الشيفرة، ومع ذلك لم يكن ما تراه يعني لها شيئاً، وتحب بالأخص التسلّل إلى أجهزة خلوية أو زرع برامج تَجسُّس في الحواسيب. يمتلك أهلها مؤسسةً أمنية، وكَبُرت على أحاديث تتناول المراقبة والتنصت الإلكتروني. لم يَعُد هذا العالَم سِرّاً بالنسبة إليها.

«لا أفهم شيئاً من هذه اللغة غير المفهومة» أقرّت.

«أمر طبيعي، إنها أرقام بطاقات ائتمان» أبلغها أليكس. «شنّت ‘أيه دي أن كاوس’ هجوماً إلكترونيّاً يوم أمس ضد إحدى كبريات شركات الائتمان في البلد. لقد نشروا على الإنترنت كل المعطيات الشخصية لزبائنها.

«آه أجل، سمعتُ عنها في نشرة الأخبار. إعتقدتُ أن أحداً لا يعرف مصدر هذه العملية».

شرعت كاميل بإدارة خُصلة من شعرها الأشقر حول إصبعها كما تفعل عادةً عندما تفكّر.

«حدّدت السلطات هويّة المسؤول: إنه المُسمّى ‘براينأدامس 678’. قُمت بأبحاثي».

وعرض أليكس على شاشته مقالاً يعود لبضع سنوات.

«منذ خمس سنوات، تسلّل شخص يُدعى ‘ديفيدبووي122’ إلى موقع الحكومة. عندما أُلقي القبض عليه، أقرّ بانتسابه إلى مجموعة ‘أيه دي أن كاوس’. لقد طُمِست القضية بسرعة، ولكن انظري إلى ما اكتشفتُ بعد ذلك».

وعرض لها قائمة بإساءاتٍ معلوماتية ارتُكبت في السنوات الخمس الماضية، علاوةً على أسماء مستعارة للمرتكبين. فتنحنحت صديقته في قبضة يدها، متلهِّفةً لقيامه بتوضيح الرابط بين كل هذه القضايا.

من جهته، حدّق أليكس بكاميل بعينَين كبيرتَين، منتظراً رد فعلها.

«لا أعرف نصف هذه الأسماء، ويشبه النصف الآخر أسماء فنّانين من الثمانينيات».

«أجل، كلهم مُطربون لَقيوا نجاحاً كبيراً في ذلك الوقت. لقد تحققت من الأمر».

فرفعت كاميل حاجبها، مسرورة.

«لا تضحكي، لقد اضطُررت لسماعهم على يو تيوب، وصدّقيني كان الأمر عسيراً. لم يكن عدم تمتُّعهم بأجمعهم بشعبية كبيرة مَحض صُدفة!»

وأطلقت كاميل ضحكاتها الرنّانة، قاذفةً رأسها إلى الوراء. كان أليكس يحب رؤيتها تضحك على هذا النحو.

«ماذا يُثبت ذلك؟» تابعت. «أن ‘أيه دي أن كاوس’ تتمتّع بأذواق موسيقية رديئة؟»

«يحب القراصنة إقامة هذا النوع من الربط، وفي هذه الحالة اختاروا تبنّي أسماء فنّانين من الثمانينيات. إذاً، هم المسؤولون، على الأرجح، عن التسلّل إلى موقع شركة الائتمان».

«تريد الإبلاغ عنهم؟ لن تحقّق أبداً أي انتصار عليهم».

«يمكنني تحديد مكانهم فحسب».

إلتمعت نظرة كاميل، وتمكن أليكس من رؤية سيناريوهات شتّى تمرّ في رأسها بسرعة كبيرة. ونزلت عن المِنضدة وشرعت بذَرع المكان ذهاباً وإيّاباً.

«من يريد قرصنة إحدى شركات الائتمان الأكثر أهمية ونشر كل المعلومات السّرّية يتخذ أكبر الاحتياطات،» فكّرت بصوت مرتفع، مواصلةً ذَرع المكان ذهاباً وإيّاباً. «يشتري حاسوبه نَقداً. بعد ذلك، ربما يقصد مقهى للإنترنت بعيداً جدّاً عن مكان إقامته. يستخدم عنوان بروتوكولٍ للإنترنت يمرّ ببلدان مختلفة كي يُفقَد أثره. من ثَمَّ، يدمّر حاسوبه. ما لم يرتكب خطأ، يستحيل العثور عليه».

«تعرفين ‘مايكسميث’؟» سأل أليكس.

«بالتأكيد. إنها جزء من ‘بيكونإيمباكت’، مثلنا».

فأليكس وكاميل عضوان في هذه المجموعة الحَصرية التي تضمّ في صفوفها أفضل قراصنة المعلوماتية في البلد. لكن معظمهم ليسوا من النوع الذي يمكن حملهم على محمل الجِدّ، ويحبون اعتماد أسماء مستعارة هزلية، من هنا اسم المجموعة، ‘بيكونإيمباكت’، الذي يقدّره أليكس بصفة خاصة. في هذا المكان الافتراضي، يتبادلون حِيَلاً وطرائق، ويتناقلون آخر أنباء القرصنة.

«والآن، هذا الشخص يعرف فرداً من ‘أيه دي أن كاوس’ يوافق على مساعدتي في اقتفاء آثار ‘براينأدامس 678’».

«مستحيل،» أجابت كاميل.

«لا شيء مستحيلاً» ردّ أليكس بثقة بالنفس.

«إذاً، لا يمكن أن يكون ذلك مجّانيّاً».

فقطّب أليكس وجهه، مُقِرّاً بأن كاميل مُحِقة.

«رائع!» صاحت، «وكيف يُفترض بنا الحصول على آلاف الدولارات؟»

«في الواقع، يتعلّق الأمر بعشرات آلاف الدولارات».

تكتّفت كاميل، ونظرت إلى أليكس مُثبَطة العزيمة.

«تعرف أنني أقوم بكل شيء من أجلك، لكنك تذهب بعيداً جدّاً الآن».

«يا كاميل..».

«إنتظِر، دَعني أُنهي كلامي،» قاطَعَتْه أثناء الاقتراب منه. «تريد إنقاذ والدك، غير أنه طلب منك عدم التدخل. أعتقد أنه يجب عليك ألا تخالفه الرأي. دافيد أحد أفضل قراصنة المعلوماتية في البلد؛ هو ذكيّ وماكر ويعرف ما يفعل. علاوةً على ذلك، خيارك الوحيد شراء معلومات – تكلّف ثروة – من شخص لا تعرفه، وكل ذلك بمال لا تملكه. أعضاء ‘أيه دي أن كاوس’ يأتون من كل مكان في العالم. إن اكتشاف مكان أحدهم لن يكون مفيداً لنا».

طأطأ أليكس رأسه وكزّ أسنانه، وأخذ نفَساً عميقاً. كاميل مُحِقة تماماً حتى ولو لم يكن مستعدّاً للاعتراف بذلك، سيّما وأنه لم يكشف لها عن كل شيء.

تساءلت كاميل حول ما إذا كانت ربما شديدة القسوة معه. فأليكس فقد والده للتوّ، وانتقل للعيش مع والدته رَغماً عنه، وعليه تغيير المدرسة أيضاً. كما أن الشعور بالذَّنب يتآكله منذ قيام رجال ‘أيه دي أن كاوس’ باصطحاب دافيد، ويُصِرّ على إصلاح أخطائه. هي تعرف مدى مَكره؛ ما كان لِيَطرح هذا الحل لو لم يَثِق بحظوظه في الحصول على نتيجة.

لم تكتمل المتاعب بعد، قالت في نفسها، عاقدةً حاجبَيها.

«هل هناك أمر آخر عليّ معرفته؟»

رفع أليكس رأسه وتمتم:

«‘براينأدامس678’..».

«نعم؟»

«إنه والدي».

شارع سالم

شعرت كأن يداً جبّارة تمسك بالسيارة وتشدّها إلى الوراء. كنت أحاول أن أزيد السرعة في تسلق الطريق الجبلي باتّجاه فندق أزمر، الرابض على القمّة، فتصل قدمي إلى آخر مدوس البنزين بدون أن تتأثر سرعة السيارة بشيء. وكان هذا يخيفني ويذكرني بما أراه في المنام أحياناً، حين أقود السيارة ويلحق بي أناس يريدون القبض عليّ فأحاول بكلّ جهدي أن أزيد السرعة ولكنّ السيارة لا تستجيب فيغوص قلبي في أعماقي ويتجمّد الدم في عروقي ثم أصحو مبللاً بالعرق والرعب.

عليّ أن أصل إلى الفندق قبل مغيب الشمس كي أشهد بدء الاحتفال الكبير الذي سيقام هناك على شرف ابن الزعيم.

ما زال الصيف يملك كامل رصيده. حرّ شديد وغبار وجفاف. والشمس التي تتهيأ للرحيل والاستراحة خلف جبل مكرون ترسل غلالة ساطعة أضطرّ معها إلى إنزال واقية الشمس في مقدمة السيّارة كي أتمكن من تفادي الوهج. أنزلت زجاج النافذتين، اليمنى واليسرى، حتى يتحرك الهواء الثقيل داخل السيّارة ولا أضطر إلى تشغيل جهاز التهوية الذي يصمّ صوته الهادر أذني.

نظرت إلى سفوح الجبل من جانبي الطريق. أشجار قليلة متناثرة فيما بقايا عشب يابس ترقد في الأسفل. كانت الأشجار كثيرة قبل ذلك اليوم الجهنمي حين اضطررت مع الآلاف من الناس إلى الهرب، عبر هذا الطريق نفسه، باتّجاه إيران. كانت الطائرات تلاحقنا فنهرع متقطعي الأنفاس محاولين الاختباء تحت الأشجار أو في الكهوف إن صادف وجودنا بالقرب من أحدها. كانت القافلة تمضي مذعورةً إلى الفراغ، وكانت أطرافنا تتجمّد من البرد والخوف. وكنت ألهث وأنا أحاول اللحاق، مع عائلتي، بالآخرين. كان الناس يلتمون بعضهم حول بعض كما لو أنّهم يحاولون تقاسم العذاب. المصائب توحد البشر، تجمعهم، وتزيل الحواجز التي تفرّق بينهم. مع ذلك، لم يكن في وسع أحد أن يقدّم شيئاً لغيره. كان كلّ شخص يسعى لخلاصه الشخصي. كثيرون كانوا يتخلفون عن الموكب، بعد أن يستهلك الإنهاك كل طاقتهم على الصمود. يستسلمون، ينهارون، تخور قواهم فيرقدون حيث هم. يختارون الحلّ الأسهل: الاستسلام للموت. رأيت أطفالاً يموتون في أحضان أمهاتهم وشاهدت رجالاً طاعنين في السن يتجمّدون فيتركهم أقاربهم حيث هم ويسرعون لمواصلة المسير.

ثمّ عاد الناس بعد مأساة الرحيل الكبير تلك، فلم يجدوا سوى الأشجار كي ينتقموا منها. شرعوا في قطعها واستعمالها حطباً بحثاً عن دفء بخيل.

الآن أقود السيّارة في الطريق ذاته الذي ملأ كياني بالرعب ذات يوم بارد حالك. الآن لا أعاني من البرد بل نختق الحرارة أنفاسي وتعجز عيناي عن مقاومة شعاع الشمس فيما أنا ماضٍ لا باتجاه المجهول والخوف بل نحو حفل ضخم. حفل كبير لمباركة زواج ابن الرئيس.

سوباد، الابن الأكبر للرئيس، هو من جيلي، لكنّه لم يكن ضمن القافلة التي هربت نحو الجبال. كان، هو وشقيقه شامل، يقيمان في شقة فخمة، دافئة وهانئة، وسط لندن.

في اللحظة التي كنت أتخبّط فيها مع أمي وإخوتي في الثلج وتتقطع أنفاسنا من الإنهاك، كان سوباد وشامل يلعبان المونوبولي وجدّتهما تعدّ لهما كوبين من الشوكولاتة الساخنة مع الحليب. وكان أبوهما وأمّهما يتناولان القهوة في الصالون. كان الوالد أشبه برجل أعمال يتنقل بين العواصم، سائحاً هانئ البال، يحمل حقيبته الملأى بالأوراق والنقود، مبتسماً على الدوام وهو يحرّض الناس على مقاومة صدام حسين، وحين ينهض هذا للردّ بقتل الناس، يكون هو هناك على فراشه الوثير، يشاهد حفلة الموت على شاشة التلفاز وهو يلتهم الفوشار.

ضغطت على زرّ المسجّلة في السيارة فانطلق صوت سوسن الإيرانية العذب الحزين:

ميخوم بروم أز إين ديار

شكوه كنم ز روزكار

كه رقيب من رسيده به يار

جكنم بكار كردكار

آخ بدلم

آخ بدلم

يك كارد سلاخ بدلم

آخ بدلم

آخ بدلم

آخ. كان والدي مقاتلاً في صفوف البيشمركة التي كان والد سوباد قد جمعها وأخذ يحشدها لمقاتلة جنود صدّام. لكن والدي قتل فيما صار والد سوباد رئيساً . وسوباد الآن ينتقل بين قصور والده في باريس ولندن وواشنطن ودمشق وطهران في طائرات البوينغ، فيما أنا أقود سيّارة مازدا متهالكة أتصبّب عرقاً وقلقاً محاولاً الوصول إلى حفلة البذخ التي يقيمها رجالات حزب والده فرحاً بقدومه مع عروسه، الأميركية، للاستجمام في كردستان. كانا قد تزوجا وعقدا قرانهما في قصر كاستيلو دي بلاجا في إيطاليا، الذي يؤمّه رجال الأعمال الأكثر ثراءً، ثم انتقلا إلى شهر العسل في جزر العسل حول العالم. وها هما هنا الآن.

الشاطر هو الذي يربح في النهاية. هذه هي القاعدة. ولقد كان الرئيس شاطراً فربح. كسب الجولة الأخيرة لنفسه ولأبنائه وأحفاده وأقاربه كلهم. كانوا أناساً عاديين، مثل غيرهم، يحملون الزمن على ظهورهم ويشقون الدرب في الصخور إلى الأعلى. ثمّ هبط عليهم الحظ. وهبط معه الشغف بالهناء والنعيم، فتعاظم نهم أفراد العائلة في التهام كل شيء، وامتلأت أيديهم بالذهب والفضة، وصار البلد لهم.

نزل القائد من الجبل إلى المدينة، وصارت السليمانية مغارة علي بابا، مدينة علي بابا حقيقية وليست خيالية. تشكّلت فوراً من حول الرئيس حاشية من المريدين والأتباع والمرتزقة الفاغري الأفواه أبـداً. إلى جانب الشعب، تشكل شعب جديد هو شعب الرئيس، يتمتع بأحسن الخصال وأعلى الفضائل من معيشة مرفّهة وبيوت فخمة ووجود آمن ووظائف لا يقوم شاغلوها بأيّ عمل. وهكذا أفلحت العائلة في أن تبني فردوسها وتكدّس ثروتها على حساب المقاتلين الذين حرسوا وسهروا وجاعوا وعطشوا وتشرّدوا وذاقوا الويلات والحرمان ومات منهم من مات وجُرح منهم من جرح وتشوّهت أجسادهم وتهدمت بيوتهم واحترقت مزارعهم.

الآن ها هي العائلة تتقدّم وتجني الثمار وتشتري الدور والقصور في باريس ولندن ودمشق وقبرص وموناكو وتملأ البنوك برساميلها. لديهم مدارس خاصّة ومزارع خاصّة ومسابح خاصّة وطائرات خاصّة وأنواع خاصّة من الأكل والشرب. حتى المياه تأتيهم في زجاجات خاصة من سويسرا.

سقطت من أجل كردستان قوافل الشهداء فحوّلتهم العائلة الحاكمة إلى رأسمال في ماكينة إنتاج وصفقات تجارية تتدفق منها ملايين الدولارات والجنيهات الاسترلينية واليوروات والتومانات والليرات.

وتشكلت مؤسّسات ومنظمات تقارب الفن والاجتماع والثقافة والرياضة والاستجمام والتدليك والاسترخاء، مرتبطة كلها بالعائلة، تديرها السيدة الأولى وشقيقتها، فيما الأبناء والأحفاد يتلقون العلوم في مدارس وجامعات أوروبا وأميركا، ويتلقى الأعـوان دورات سرّية خاصّة في فنون الاستخبارات في إسرائيل.

يستعمل الجميع اسم الأب الكبير مظلة يحتمون بها. إنه المفتاح السرّي للحصول على أيّ شيء وكلّ شيء. صوره تملأ كل ركن، أضيفت إليها صور أخرى يوماً بعد يوم. في البدء صورة الابن الأكبر ثمّ صورة الأبن الآخر، سوباد الذي يقام حفل عرسه الآن.

back to top