حبر و ورق

نشر في 24-03-2018
آخر تحديث 24-03-2018 | 00:00
No Image Caption
من حكايا الجدة

شرهبان

عندما كنتُ طفلاً لا أعرف شيئاً اسمه أرق، أو قلق كما يعيشه أطفالي في عصرنا الحالي، لأنها كانت تسكن معنا... تنير البيت، وتعطر مساءات أرقي بالحكايات، وكلما شعرت بتهديد صادق من أبي وأمي بالعقاب، أسرعت إليها أحتمي منهما خلفها لتسمعني قصة (شرهبان)، كانت تكررها لي في كل مرة بأسلوب غير ممل لدرجة أنني حفظت منها عن ظهر قلب: إن (حُمدان) شاب نشأ يتيم الأبوين، عمل حطاباً لينفق على أخته الوحيدة (شرهبان) التي كبرت فائقة الجمال وزاده الشعر الطويل حسناً.

سمع عنها شرير، فقرر تملكها بأي طريقة كانت. خاف (حُمدان) على أخته من الشرير أثناء غيابه عن البيت، فبنى لها كوخاً فوق شجرةً مرتفعةً يصعب الوصول إليه بعيداً عن القرية، واتفق معها على أن يدخلها إليه فجراً قبل توجهه للاحتطاب ليرجع يأخذها منه بعد بيعه للحطب، على أن تكون كلمة السر بينهما أنشودة يأتي ينشدها لتمد له حبلاً منسوجاً من خصلات شعرها يتسلق عليه الشجرة.

مضت أيام و(حُمدان) يأتي ينشد تحت الشجرة لأخته:

(شرهبان يا شرهبان

مدي دلالك شاركبان

أنا خويك حُمدان

ورا ورا ورا).

فتمد له (شرهبان) حبل شعرها الطويل ليصعد وينزلها من الكوخ.

ذات يوم اكتشف الشرير سرهما فأنتظر حتى ذهب (حُمدان) لعمله، وجاء ينشد لها بصوته الأجش كلمة السر من تحت الشجرة.

حين سمعت (شرهبان) صوت الشرير، ردت عليه من مكان لا يراها منه منشدة:

(صوت خويه صوت قمري

أما صوتك صوت جعري).

ولم تمد له حبل شعرها الطويل ليصعد عليه إليها.

لكن الشرير كرر إنشاده للمرة الثانية بدون يأس لكلمة السر، واستمرت هي ترد عليه بنفس ردها الآلي. وبعد المرة الرابعة مدت (شرهبان) حبل شعرها للمنشد تحت الشجرة، فقام يتسلق عليه للصعود إليها. وحين شعرت إن المتسلق ثقيل الوزن، نظرت إليه فرأت الشرير صاعداً إليها، قامت مسرعة وقطعت حبل شعرها.

فاطمة الناقة

في ليلة أرق أخذت أطفالي بالقوة من أمام الشيء الذي يتابعونه بشغف مقلق، ويقوم أغلب الأطفال بمتابعته في عصرنا الحديث، قمت وجمعتهم حولي متقمصاً لدورها المفقود بوقتنا الحالي من الحياة، قائلاً: كان يا ما كان، في قديم الزمان، ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام.

فوجدتهم يردون عليّ بتركيز: عليه الصلاة والسلام.

شجعني ردهم عليّ بمواصلة حديثي مُكملاً:

كان في غابر الزمان والمكان، رجلاً أنعم الله عليه بالمال والصحة، توفيت زوجته بعد ما أنجبت له بنتاً وحيدةً أسماها (فاطمة). بقي الرجل وفيّاً لذكرى زوجته، يربي ابنته حتى كبرت وصارت ذات عقل وفطنةٍ وجمالٍ.

فقام أبناء الأعيان والوجهاء والأمراء يتقدمون لخطبتها الواحد تلو الآخر، فيوافق الأب على الطلب ولكن بشرط، لا يحدد للخاطب موعداً رسمياً للزواج إلا بعد أسبوع يأخذ فيه الخاطب مجموعة غنم وناقة ومعها صبي لرعيها.

كان البعض يرفض هذا الشرط مباشرةً، والبعض الآخر يرضى بأخذ الغنم صباحاً للمرعى، ويعود بها لحضيرة البيت بعد المغرب، وبعد أسبوع من قيامه بالمهمة المطلوبة منه شرطاً للموافقة يجد أن طلبه للزواج مرفوض.

وفي أحد الأيام قدم شاب فقير من قرية بعيدة يطلب العمل عند أبي (فاطمة) من أجل لقمة العيش، فقام وكلفه بما كان يطلبه شرطاً من الخاطب لقبول الزواج بابنته، وبعد عشرة أيام من قيام الشاب الغريب دون علم منه بالشرط المطلوب، تزوج بـ (فاطمة الناقة).

حبحب الهمّ

قالت لهم الجدة:

(أجنّكم ذيك الواحدة).

فقام الجميع يرد بصوت موحد:

الواحد الله.

فتواصل مبتسمة:

(صغير العقل يتفل؟).

فيقوم بعض المنتظرين بانسجام من البداية للحكاية بالبصق على الأرض، باستجابة لاإرادية للطلب، وسط متابعة الجدة المبتسمة لتكمل:

كان يا ما كان، في قديم الزمان، أسرة سعيدة متماسكة، مكونة من جد وجدة، وأب وأم، يربيان ابنتهم الوحيدة بدلال.

عاشت ابنتهم الوحيدة المدللة معهم، وتسمع من الزائرات لبيتهم، وفي التجمعات النسائية التي تحضرها: أن هناك بائعاً متجولاً يأتي للبلدة في أوقات غير معروفة يبيع للناس ثماراً خاصة أسمها (حبحب الهمّ)، فقامت تحلم باليوم الذي تسمع فيه البائع منادياً في أزقة الحيّ لتشتري منه واحدة من تلك الثمار.

راح الزمان، وجاء اليوم الذي سمعت فيه البنت البائع المتجول ماراً من قرب بيتهم ينادي:

يا (حبحب الهمّ) من يشتريك؟

من يشتريك يا (حبحب الهمّ)؟!

ولأنها الوحيدة التي سمعت نداءه، خرجت له مسرعة، واشترت منه ثمرة أخفتها في مكان بعيد عن أعين الأسرة.

في المساء أخذت البنت سكيناً وفتحت به قطعة مستطيلة من ثمرة الحبحب التي اشترتها في الظهيرة، فخرج منها (مارد) سد المكان، قائلاً لها بصوته المرعب:

– لقد أقسمت على قتل أي أحد حينما أخرج من هذا السجن، فاختاري من تريدين من أسرتك لأقتله كي أبر بقسمي؟

فردت عليه مرتعبة:

– لا، لا أحداً منهم.

فقال لها وقد اشتاط غضباً:

– إنني مصر على الوفاء بقسمي ولن أتراجع عنه.

فردت بذهول:

– إذا كنت مصراً؟ فاقتلني أنا؟!

وأغمي عليها من هول الموقف لتجد نفسها نائمة على سريرها، والجميع يبكي من حولها على موت جدها.

بعد عام من وفاة الجد تذكرت البنت الوحيدة المدللة (ثمرة الحبحب) التي أشترتها من البائع المتجول، فتوجهت للمكان الذي أخفتها فيه عن الجميع، فوجدت الثمرة كما وضعتها مكتملة لم يطرأ عليها أي تغيير، فأخذت سكيناً وشقت منها قطعة مستطيلة، فحدث معها مثل الذي صار في المرة الأولى قبل عام، ولكن الذي بكت على فراقه الأسرة هذه المرة كانت الجدة.

بعدها طردت البنت الوحيدة المدللة مجرد التفكير في ثمرة (حبحب الهم) التي كانت بالنسبة لها حلماً تحقق يوم أشترتها، ومضت السنون، وتزوجت وأنجبت ثلاثة توائم ذكوراً، فقامت منشغلة ترعاهم بمشاركة زوجها المحب، وأمها وأبيها الحنونين في أسرة متماسكة سعيدة.

وفي أحد الأيام أثناء ترتيبها لبيتها المتماسك بالسعادة وجدت ثمرة (حبحب الهمّ) كما تركتها مكتملة من سنين لم تتغير، فقامت تفتحها لتثبت لنفسها أن الثمرة مجرد كابوس كانت تتوهم في تسببه لما حصل معها، فخرج لها (المارد) السجين من الثمرة بصوته المرعب قائلاً:

– لقد أقسمت على قتل أي أحد حينما أخرج من سجني، فاختاري من ترينه مناسباً من أسرتك أبر به قسمي: أمك أم أبيك أم زوجك أم توائمك الثلاثة؟!

فأخذت قطعة ثمرة الحبحب، ورمت بها من يدها إلى جهة غير معلومة بالمكان، وهربت تجري مذعورة من أمام (المارد)، ولم تتوقف لتستريح إلا في غرفة النوم، متوسطة زوجها وأبناءها الثلاثة.

وفي نهار اليوم التالي كانت حزينة مع باقي الأسرة على فراق أمها، ثم بعد مدة كررت المحاولة غير مقتنعة لما يحدث معها من سجين ثمرة (حبحب الهمّ)، فلحق أبوها بأمها في اليوم التالي لتكرارها محاولة فتح الثمرة... فعاشت مضطربة. ومارد (حبحب الهمّ) طليق في بيتها حتى جاءت تلك الليلة التي قام فيها المارد بإخفاء أبنائها الثلاثة، ولطخ فمها وكفيها بالدم. وحين فاق زوجها في الصباح لم يجد أبناءه الثلاثة، وشاهدها نائمة والدماء ظاهرة عليها، ظن فيها ظناً جعله يحبسها في المكان الذي أخفت فيه ثمرة (حبحب الهمّ) عن الجميع.

استمر زوجها يرعاها ولا يسمح لها بالخروج، حتى بعد ما قرر وسعى للزواج بأخرى، ولم يخبرها وهي في المحبس برغبته الملحة في الاستقرار بالزواج. وقبل ليلة من زواجه بالأخرى، جاءها مارد (حبحب الهمّ) في صورة أحد أبنائها المفقودين، قائلاً لها:

– الليلة سيأتي إليك أبي في زيارته المسائية المعتادة، فاطلبي منه أن يعطيك ثلاثة مفاتيح غداً في زيارته الصباحية لك، ولا تنسي هذا الطلب؟ لأنه سيكون مشغولاً بأمر عن زيارتك المعتادة في المساء، وإذا سألك لماذا؟ فلا تخبريه بأني جئت لك وطلبت منك ذلك! لأنه لن يصدقك، ولن يحضرها لك، وإنما قولي له: بأنك تريدين المفاتيح لجعلها مفتاحاً للصبر، ومفتاحاً للجبر، ومفتاحاً للفرج، إذا كنت تريدين مني وأخويّ الرجوع لك في الغد لإخراجك من هذا المحبس، وفجأة اختفى المارد مسرعاً قبل حضور زوجها لرعايتها المسائية المعتادة.

وفي الزيارة الصباحية باليوم التالي أعطاها زوجها المفاتيح الثلاثة التي طلبتها منه وانصرف، وفي المغرب أعاد لها (المارد) أبناءها الثلاثة كما وعدها... فعاد لها وقارها واعتنت بهم وعلقت في رقبة كل واحد منهم مفتاحاً، وطلبت منهم الخروج للبحث عن أبيهم. وحين وجدوه عرفهم متأكداً من المفاتيح المعلقة على صدورهم تخلى عن الزواج في تلك الليلة، ورجع معهم للعيش في أسرة متماسكة سعيدة.

الخروج من العتمة

أضاء سراجاً وراح يمشي به في يده مضاءً بالليل والنهار، ومضت عليه خمسة أعوام لم يستطع أن يلفت بسراجه المضاء بصائر من كان يقصدهم ليخرجوه من العتمة. ذات يوم أشار عليه صديقٌ مقربٌ أن يتوجه بسراجه إلى حكيم له القدرة على مساعدته، وأقنعه بالتوجه إليه في مقر إقامته بالمدينة الكبيرة البعيدة جداً عن مدينتهم، على أن تكون هذه المحاولة آخر الحلول للخروج مما هو فيه من عتمة.

رجع للبيت مقتنعاً بفكرة صديقه المقرب، وأخذ ما تبقى من مصروف المحسنين على أطفاله، واقترض عليه مبلغاً زهيداً حتى وصل للمدينة الكبيرة البعيدة للقاء الحكيم.

حين وصل للمكان الذي جعله الحكيم مقراً لاستقبال الوافدين عليه، وجد عليه حراسة مشددة تقوم بمنع كل إنسان بسيط من مجرد الاقتراب من المكان. لكنه لم ييأس، وحاول الدخول مع الوفود الرسمية على الحكيم فمنع من الدخول معهم، فحاول الدخول مع الوفود الشعبية فمنع، وفكر في كثير من الحيل للدخول على الحكيم، ولكن الحراس وقفوا سداً منيعاً في وجه كل محاولاته للدخول على الحكيم.

وفي لحظة يأس قرر الرجوع لأطفاله لكنه لم يجد ما يكفيه للرجعة إليهم، فبقي يقتات من فائض فضلات طعام الحراس، ويفترش الكراتين للنوم على مقربة من مقر الاستقبال لدرجة أنه نسي كل شيء ما عدا سراجه المتقد بالليل والنهار.

بعد مدة جاء إليه كبير حرس مقر الاستقبال، وطلب منه بصيغة الأمر الذهاب معه ليجعله أول الداخلين على الحكيم صباح الغد في مقر الاستقبال، ولم يصطحبه معه إلا بعد ما أخذ منه عهداً غليظاً بعدم ذكرهم بسوء للحكيم الذي أمرهم بإحضاره لمجلسه.

في صباح موعد دخوله على الحكيم رضي للحرس وكبيرهم، أن يغير هندامه وهيئته، وكل ما كان يقف حائلاً من دخوله لمقر الاستقبال، ولكنه أصر على دخول سراجه معه، فدخل بسراجه مضاءً كما جاء يحمله في يده من مدينته البعيدة، وأطفأه بعد ما جلس على الكرسي المقابل وجهاً لوجه الحكيم.

حيوات ناقصة

«أما أنا، فتزوّجت لأنني عثرت أخيراً على رجل يمكنني أن أستخدم فرشاة اسنانه».

خيّم صمت على الحاضرين وتحوّلت الأنظار إلى الدكتور نزار الذي احمرّت وجنتاه وهو يسمع تصريح زوجته، مستغرباً، كما الجميع، فرح صوتها ونبرته المتراقصة وهي تعلن ذلك.

لم تدم لحظات الصمت طويلا، فسرعان ما تلتها الضحكات والملاحظات الساخرة التي تلقفتها مروة بمرح، مستجيبة لها بنكات إضافية زادت من خجل نزار.

كان نزار قد سبق زوجته بالإجابة عن السؤال المقترح من صديقهم نجوان، رجل الأعمال وصاحب الدعوة، حين أراد أن يسلّي ضيوفه بلعبة طريفة، متواطئاً مع زوجته التي أعلنت بغتة أمام الجميع، وبصراحة صادمة، أنها اختارت الزواج بنجوان لأنه ثريّ فقط. ضحك نجوان عندئذ بتفاخر، وجذب زوجته إليه محتضناً إياها، وقبّلها وسط دهشة ضيوفه الذين ظنوا أن اعتراف الزوجة سيفتح عليها أبواب جهنم. ومن ثم فاجأ الجميع باللعبة، طالباً ان يعترف كل فرد منهم، صراحة، بالسبب الذي دفعه لاختيار شريك حياته. توالت الأحداث متشابهة لا تحمل ما هو غريب، حتى أن إجابة نزار لم تختلف عما سبقه الآخرون إليه، إذ أعلن أنه تزوّج مروة لأنه، أخيراً، وجد المرأة التي يبحث عنها طويلا، ولأنه أدرك أن حياته ستكون تعسة من دونها. وحدها عبارة مروة استطاعت أن تثير الدهشة وتحرف اللعبة عن مسارها، فالفكاهة التي انطوت عليها إجابتها جعلتها قابلة التأويل، وبذلك نسي الجميع تصريح زوجة نجوان، وانشغلوا باستنباط نكات مختلفة من طيات عبارتها، فيما كان نزار يجهد نفسه حفاظاً على ابتسامة تخفي حنقه من مرح زوجته، واستجابتها لكل النكات المطروحة، مؤكدة أن ما قالته هو سبب غاية في الأهميّة.

حين ألحسّ نزار بدنوّ لحظة نفاد صبره، لم يجد أمامه غير الحمّام مهرباَ. توجّه إليه بسرعة، متجاوزاً، دون اكتراث، امرأة تجلس جوار باب الصّالة، تبكي بصمت، ولم تشعر بارتطام ساقه بساقها أثناء خروجه، بعدما لمح دموعاً تسيل فوق خديها.

أمام المرآة لم يلتفت نزار لاحمرار وجنتيه وأذنيه، بل سارع، مباشرة بعدما أغلق الباب جيداً وتلاشى صوت الضحكات في الخارج، إلى فتح فمه وتأمل أسنانه، وكأنه يراها للمرة الأولى. انتبه إلى اعوجاج في أحد اضراسه الخلفية لم يسبق أن رآه. كما تمكّن من إحصاء عدد من النقاط السوداء تلطخ بعض أسنانه، فتذكّر أنه أهمل زيارة طبيب الأسنان منذ ثلاث سنوات. راح يدنو من المرآة فاغراً فاه عن آخره وهو يفكّر بفرشاة اسنانه. هل يعقل أن تكون السبب الوحيد الذي جعل مروة تقبل الزواج به؟!

بعدما صعد الدرجات الخشبية الخمس المفضية إلى الغرفة، المسبقة الصّنع، التي ستكون مقرّ إقامته لثلاثة اشهر قادمة، استدار عبد الرحمن ناحية البحيرة متأملا الامتداد المائي الهادئ، وقد تلألأت على سطحه أشعّة الشمس صفراء تميل إلى الحمرة. أحاط بناظريه التلال الخضراء المحيطة بالبحيرة، فشعر بانقباض في معدته، وارتاب من السكون المخيّم في المكان، ففتح باب الغرفة وولج إلى الداخل مطبقاً الباب خلفه.

في الغرفة الصغيرة، وقف مستنداً إلى الباب المعدني المطبق يجول بناظريه متفحصاً المكان بتوجّس راح يخفت تدريجيّاً وهو يلحظ التزام الإدارة معايير النظافة والترتيب التي جعلها شرطه الوحيد لقبول المهمّة الموكلة إليه. لم يرتّب لوجود سريرين في الغرفة، فعاملة الاستقبال أكّدت له، وهي تسلّمه المفاتيح، أن الغرفة ستكون له وحده، كما طلب. أعجبه موضع النافذة الصغيرة بين السريرين وإطلالتها على تلّة خضراء تتمدّد تحتها أطراف البحيرة باسترخاء وكسل.

بخطوات بطيئة، ابتعد عن الباب المعدني، بعدما تأكد أن كل شيء في الغرفة على ما يرام. توجّه نحو الحمّام الصغير، وحين تثبت من نظافته تنهّد بارتياح وعاد ليجلس على أحد السريرين، متخلياً للمرة الأولى عن حقيبته، واضعاً إياها فوق طاولة صغيرة بين السريرين. أخرج هاتفه النقال بغية مكالمة زوجته، لكنه، حين انتبه إلى انعدام ترددات شبكة الإرسال، تذكّر عاملة الاستقبال وهي تشرح له، أثناء تسجيلها بياناته في سجلّ ضخم، أنه سيتعذّر عليه استخدام الهاتف النقال أو شبكة الإنترنت من داخل الغرفة، إذ إن انخفاض مستوى الأرض في المكان وارتفاع التلال المحيطة به يجعلان وصول التردّدات إلى الغرفة متعذّراً، مشيرة له إلى تلّ قريب عليه صعوده إذا ما رغب بإجراء مكالمة هاتفية، مطمئنة إياه، وهي تسلّمه المفاتيح، أن الإدارة تعمل على إيصال هاتف أرضي إلى غرفته، وأن الأمر سيستغرق بضعة أيام فقط.

ترك عبد الرحمن هاتفه النقال، وتمدّد على السرير يمضّه شعور غريب بالوحشة. إنها المرة الأولى التي يكون فيها وحيداً بهذه الطريقة. أغمض عينيه بغية استرخاء يحتاجه، لكنه فتحهما بعد لحظات قليلة وهو يتلفّت حوله مذعوراً شاعراً فضاء الغرفة الصغيرة يتّسع ليغدو شاسعاً بشكل مخيف، فيما جسده يتضاءل حدّ التلاشي. عاود الجلوس محاولا تهدئة أنفاسه التي تسارعت. أطلق نظره عبر النافذة. لفته طائر غريب يحلّق بين البحيرة وقمة إحدى التلال القريبة. انشغل بمراقبة الطائر لدقائق نسي فيها وحدته. هدأت أنفاسه وراح يبحث عن تفسير لحركة الطائر الغريبة. هو لا يلامس ماء البحيرة بل يهبط فقط إلى حافتها، ولا يلبث أن يرتفع مجدداً نحو قمّة التلّ، ليعود فيهبط كأنما ينقضّ على شيء ما، قبل أن يعاود الارتفاع مجدداً. أخذته حركة الطائر لدقائق أوحت إليه فيها بخطوط هندسية دقيقة ذكّرته بالمخططات التي تسلّمها من الإدارة صباحاً، والتي عليه دراستها بعناية قبل بدء العمل.

أخرج الأوراق من حقيبته، فارتسمت على شفتيه ابتسامة خافتة وهو ينظر إلى الحقيبة، متذكراً عاملة الاستقبال وهي تعيد إليه بطاقته بعد أن انتهت من تدوين المعلومات التي تحتاجها وتقول بصوت طفولي:

«تفضّل دكتور»

تناول عبد الرحمن البطاقة، شاكراً الفتاة بلياقة، دون أن يستغرب ما قالته، فقد تعوّد طيلة حياته أن يخاطبه كل من لا يعرفه بلقب دكتور. فاللقب الذي لازمه منذ ولادته بات لصيقاً به، يسمعه بالحياد ذاته الذي يسمع فيه حروف اسمه. فمنذ تعلّم النطق كانت كلمة دكتور، التي اعتاد والداه مخاطبته بها، هي أوّل ما استطاع لفظه بطلاقة. وكان يجيب إذا ما سئل عن اسمه بأنه الدكتور، وحين يطلب إليه الاسم كاملا يكون جوابه: «الدكتور عبد الرحمن».

كانت رغبة والديه، منذ تزوجا، أن ينجبا ولداً يغدو طبيباً. فالأب الذي أمضى حياته مدرّساً لمادة الرياضيات، لم ينسَ لحظة حلمه القديم في أن يكون طبيباً، وتمكّن من نقل حلمه إلى زوجته، الجاهلة بالقراءة والكتابة، التي تماهت معه حتى أصبح عبد الرحمن نافذتهما على الحلم.

***

في طفولته، لم يعرف عبد الرحمن ألعاباً غير ادوات الطبيب. في الثانية من عمره، حصل من أبويه على حقيبة مليئة بأدوات طبيّة بلاستيكيّة الصنع، وصار يمضي وقته فاحصاً والديه، مشخصاً أمراضهما، يصف لهما الأدوية اللازمة، ويحقنهما بالإبرة البلاستيكية إذا لزم الأمر، سعيداً بفرح يراه متراقصاً في عيونهما.

back to top