جدار أزرق

نشر في 19-03-2018
آخر تحديث 19-03-2018 | 00:00
 فوزية شويش السالم "جدار أزرق"، هو الديوان التاسع للشاعر جمال القصاص، صائغ الجملة الشعرية المبهرة، التي تعيد إلى اللغة العربية ألق شبابها وسطوتها، لأنه بكل بساطة شاعر الدهشة، اللاعب بأوتار الكلمات، ليعيد تدويرها بتركيبات لا تخطر على بال أحد، لتخرج المعاني من جراب الساحر جديدة مصقولة لامعة، تسرق روح قارئها غصبا عنه، لا حياد مشاعر عنده. معنى أن تقرأ أن تنفعل وتشعر بكل تفجر الأحاسيس المخبأة بالكلمات، كل سطر شعري يصفعني بالدهشة، يرفع حاجبي إلى فوق، ويخرج من صدري شهقة مكتومة بيني وبيني لا يسمعها غيري.

جمال لا يسمح للقارئ أن يعبر ديوانه بقراءة سريعة، فما إن تفتح الصفحة الأولى حتى تقع في فخ الغواية، وتجد روحك مسروقة منك، ونفسك مأسورة بسحر المعنى وبتفكيك دهشة رموزه "لا تسألني هل تطلع الشمس/ من رقة الحامض النووي للعصفور/ من منفضة سجائر/ من بحة/ أعياها سعال الشرفة".

تغيير الصياغات الطبيعية لمعاني الكلمات وإعادة توظيفها بمعانٍ مختلفة هو ما يمنح اللغة أثوابا مبهرجة جديدة غير متوقعة "لا جبل فوق كتفي/ ولا سحابة/ فقط... حزمة من حطب الوقت/ أنظف بها أسناني".

"أيها الحجر المسن/ أنت طفلي/ مللت غواية السر/ قل لي: من أين أشتري للقميص يدا؟".

"تطوحين المغرفة في صدري/ وتصرخين: أيها المنزلي المغفل/ لم تعلمني كيف أقود الدراجة فوق حافة النص!".

جمال القصاص مخلوق كشاعر فقط، لا مجال لأي مهنة أخرى أن تشطره إلى نصفين، ولا مجال لأي مخلوق، مهما كان، أن يستولي عليه خارج القصيدة، لا المسرح ولا الرواية ولا المرأة ولا الأسرة، ولا الكون كله قادر على أن يحتله مثلما يحتله الشعر وتسكنه القصيدة، لذا هو لا وجود له خارج شعره المعجون به "يكفي أنني ملوث بها/ أفعل أشياء أكثر غرابة/ لأظل ملتصقا/ إلى حد الجنون".

لكي تكون شاعرا فيجب أن تكون مخلصا للشعر، وأن يكون مستوليا بالكامل عليك، حتى يرضى أن يمنحك لبه وجوهره، وأن تتعايش مع عزلته ووحدته كشرط أساسي للوصول إليه، فهو أناني لا يحب الضجيج ولا الرفقة ولا الصحبة إلا معه وبحضرته، وهو ما حصل مع جمال القصاص المحاصر بالوحدة وانسراب الزمن من ثقوب وحشتها "أيتها الوحدة يا حيواني الدافئ الغبي/ استمتعي بوقتك/ بأشلائك/ وهي تسقط كحزمة نفايات ضالة/ في بالوعة الزمن".

"ليس لديَّ اعترافات/ ولا سلطة مطلقة/ لكنني حين أجهش في الليل/ أحس أنني أمشي بجانبي/ أن هذا الخراب/ مجرد شيء ما/ سقط مني".

"مؤلم أن يفقد الحنين دفقته الأولى/ أن تتحرك العين فوق سطح بارد أملس/ أن يهرب من ذاكرة الرصيف دبيب الأقدام/ أجتهد من أجل نظرة/ من أجل مساحة فارغة/ مساحة ربما في حجم الكف/ أعانق فيها نفسي بحنان".

"أكتب لأرعى عزلتي/ لأعلمها كيف تكرهني".

يتعدد المعنى في قصائد جمال القصاص، وبالإمكان قراءتها بأكثر من معنى، قد توحي بأنها لامرأة، أو لحالة ما، لكنها دوما ما تنتهي إلى أصلها وهو القصيدة، الملكة المسيطرة والمتوجة على حياة وكيان جمال القصاص، مثال على ذلك هذه الأبيات التي قد توحي بأنها موجهة لامرأة، وقد يكون أصلها للقصيدة "سأوسع لك حفرة تحت جلدي/ حتى إذا ما عوى الليل/ يمكنك أن تلمسي عتمة روحي/ تشع ببقع لا لون لها في جسدك".

"نحن العاشقان/ الصديقان/ الشاعران/ أيتها اللغة/ يا أمي/ امنحيني شيطانة عاقلة/ تخفي آثارها في ثرثرة الماء".

"كفي عن مطاردتي/ لا أشبه الزهرة/ ولا عتمة السرير/ منذ خمسين عاما... أجتهد/ أحاول أن أقنع سمكة بحكمة الطعم".

"جدار أزرق" ديوان مليء بالشجن الذي يمس الروح بشفافية، ليوقظ إنسانيتها ودهشة براءتها في هذا الزمن الخاوي من صدق ودفء ورقة المشاعر الحقيقية، ليعلمها ويعينها على اختراق هذا الجدار الأزرق العازل عن التواصل الحميم الصادق بين الناس، وحجزهم خلف شاشات زجاجية لعالم افتراضي بارد خالٍ من المشاعر والعاطفة.

"خذي هذه الزجاجة/ رجيها فوق صدرك/ سوف تتفتح كوردة/: هذا ما تبقى مني/ حزمة أنفاس كتبتها الريح".

"الهواء القليل/ المتبقي من قضمة عينيك/ منذ رحلت وهو يرتعش/ كفاكهة نيئة/ في فم الليل".

كنت أتمنى لو عندي مساحة أكبر لأكتب عن بهجة الشجن.

back to top