على المقهى

نشر في 15-03-2018
آخر تحديث 15-03-2018 | 00:00
 د. أيمن بكر ماذا تشرب يا أفندي؟

فنجان قهوة سادة.

تعالت ضحكات الحضور: وكمان سادة.

هي المرة الأولى التي يجلس فيها ابن السادسة على المقهى. حين اصطحبه خاله واثنان من أصدقائه بعد إلحاح شديد من الصغير، لم يكن الخال يعلم أنه يحقق للطفل الذي كنته حلما عزيزا، فالمقهى (القهوة) كلمة طالما ترددت أمامي مصحوبة بغير قليل من البهجة الخفية:

ـ موعدنا الليلة على القهوة... سآخذ بثأري منك.

كل يوم تقول هذا الكلام وتخرج مهزوما.

أنت محظوظ يا مراد.

إن كنت محظوظا في الطاولة، فماذا عن الشطرنج؟... أنت مدمن هزيمة يا أبوعلي.

ارتبط عالم المقهى المبهر بخالي مراد ذي الشخصية الساحرة حين يتحدث أو يلقي النكات التي كثيرا ما كان يبتدعها، وصاحب القدرات الفنية في الرسم وتحليل الموسيقى، كما تشكل فضاء المقهى في مخيلتي من عوالم المسلسلات الإذاعية، ومشاهدات متقطعة في بعض أفلام التلفاز القليلة في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين. هكذا ارتبط المقهى بالبهجة التي تتفجر بلا ترتيب وسط صحبة متآلفة، وبالحديث الممتع، وباللعب.

حين تعرفت إلى روايات نجيب محفوظ في المرحلة الإعدادية اكتسب المقهى بُعدا مختلفا، صار إضافة لما سبق مكانا للكتاب والمثقفين الذين يتحدثون بصرامة عن أمور تبدو مصيرية، كما أنه مجمع الفتوات، ومنه تنطلق غزواتهم، وفيه يتواجد المنشدون والمطربون والحكواتية الذين لم يتصادف أن التقيتهم في مقهى بعيدا عن روايات محفوظ وأفلام الأبيض وأسود مثل فيلم سيد درويش.

تشكلت العلاقة العميقة بالمقهى في الجامعة، حين بدأت الصداقات الكبيرة وقصص الغرام الفاشلة غالبا. في مدينة الفيوم الصغيرة تحول المقهى إلى نقطة تجمع في الصباح والمساء على اختلاف الأنشطة التي نمارسها. تلتقي في الصباح شلة الطلبة من الأولاد والبنات في مقهى بجوار الجامعة، تدور السجائر وساندوتشات الديناميت (الفول مع الفلافل مع الباذنجان) ودفاتر المحاضرات والأخبار والنكات. كل شاب يحمل بين جوانحه قصة حب خفية يخجل من إعلانها لواحدة من الشلة، وهي غالبا تحب آخر ولا تصارحه، وبين الأغاني الشبابية والتعليقات والتلميحات المفهومة من الجميع تمضي سحابة النهار، وكثيرا ما تفوتنا المحاضرات.

أما ليلاً، فالمقهى مكان تجمع من نوع مختلف، أصدقاء الكتابة من الشعراء، والمسرحيين، وكُتاب القصة، والمبتدئين من النقاد، والأدعياء في كل مجال أيضا. تدور الشيشة، والقصائد، والقصص القصيرة والآراء الحادة غير النضيجة غالبا. كثيرا ما ينتهي الأمر بشجار لا يخلو من بهجة خفية بين شاعرين يتهم أحدهما الآخر باقتناص سطر من قصيدته، أو بين قاص، وناقد شاب مارس قسوة غير مبررة في إبداء آرائه، ثم يمارس الجميع دورا ممتعا في إنهاء الخلاف واستعادة الضحكات الصافية.

ينتهي الليل على مقهى آخر مع صديق وحيد هو الأقرب، هنا يخفت الصوت وتتبدد أصوات الشجار النابتة في حدائق الشباب المتوهج، يسر أحدهما للآخر لوعات حبه لفتاة لا تبدو مهتمة، ثم ينتهي الحوار بالأسئلة الوجودية التي تؤرق هذه الفترة من العمر: من نحن حقا؟ وما غايتنا؟ وكيف نغير العالم؟

الآن وأنا على عتبات الخمسين يجمعني المقهى بأصدقاء هم حصيلة العمر، لنشاهد مباراة، أو ليسر بعضنا للآخر بكلمات قليلة هادئة بمشكلة تؤرقه، أو لنناقش مشروع كتابة لدى أحدنا، نتكلم ونضحك ونصمت أيضا... على المقهى.

back to top