حبر و ورق

نشر في 10-03-2018
آخر تحديث 10-03-2018 | 00:02
No Image Caption
زوجة واحدة لا تكفي...

لماذا يبدو المنزل خاوياً بالرغم من عدد الأفراد الذين يسكنونه؟ كلٌ في عالمه الخاص... ابني الكبير عدنان يتحدث على الهاتف مع خطيبته، ريم لم تعد من جامعتها بعد، ندى في منزل صديقتها لكي تساعدها في التحضير لحفل عيد ميلاد مفاجئ لصديقة مشتركة، عادل في النادي الرياضي يحمل الأثقال حتى يصبح مفتول العضلات من أجل جذب الفتيات؛ على ما أعتقد، وأيمن مثل الكثيرين من أقرانه ممّن هم في هذه السن المبكرة من سنوات المراهقة مشغول بمحاربة الأعداء على الپلاي ستيشن... أمّا زوجتي هديل، فهي على الأرجح لا تزال في المطبخ تمارس هوايتها المفضّلة: الطبخ. أظنّها أخبرتني البارحة بأننا اليوم سنأكل أكلاً جاويّاً... أصعب أصناف الطعام؛ حيث يتطلب إعداده وتحضيره أكثر من يوم كامل. تعلمتْ هديل تلك الفنون المطبخية الباهرة من أمها الّتي بدورها ورثتْ أسرارها من أمّها، وهكذا الحال في أسرتها جيلاً من بعد جيل... حمداً لله أنّني أمارس شيئاً من الرياضة، وإلّا أصبحت مثل فرس النهر من شدّة السمنة!

– «العشاء بعد ساعة».

تخبرني هديل وهي تمر من أمامي متجهة إلى الطابق العلوي... تريد الاستحمام، حتى تزيح عن جسدها روائح البصل والثوم والبهارات النافذة التي وصلت آثارها إلى حديقة الجيران. بعض هذه البهارات الجاويّة تُشبه رائحتها رائحة السماد الطبيعي! لا أعلم كيف قبلتُ أن أذوقها أول مرّة؟ ولكن الحق يقال؛ فهي لذيذة جداً، إن تمّ التغاضي عن رائحتها...

دائماً ما يُرَدَّد بأن أسرع طريقة إلى قلب الرجل هي عبر معدته. لا أدري لماذا لم ينطبق عليّ هذا المثل قط؟ فبالرغم من مهارة هديل الفائقة في الطبخ، إلّا أنها لم تصل يوماً إلى قلبي عبر ما تحضره لي من طعام. حتماً الطريق إلى قلبي يمرّ عبر مسار آخر لا أعلمه. كأن هذا المسار انقطع منذ ستة وعشرين عاماً... منذ منال، ورباب من قبلها...

لعلّي أذهب إلى البيانو من أجل تمضية الساعة المتبقية على العشاء. أشعر برغبة في التمرن على معزوفة جديدة. لعلّها تكون لشوپان هذه المرّة... ولِمَ لا؟

مقهى نيس، في شارع التحلية، أجتمع فيه مساءً مع الأصدقاء مرة أو مرتين في الأسبوع. المقهى ليس بالكبير، ولكنّ زبائنه دائمون؛ يأتونه منذ سنين، ويجلسون إلى الطاولة ذاتها، كل مجموعة في ركنها الخاص بها، حتى بات هناك شيء من المودة والألفة بين تلك المجموعات. وجوهنا باتت مألوفة، وإن لم نسعَ إلى التعارف، باستثناء صديقي نايف الّذي أصبح يُلَقَّب بمندوب العلاقات العامة لدى المقهى؛ لمعرفته جميع زبائنه، حتى الوافدين الجدد منهم...

– «أخشى أن يُنفّذ دونالد ترمپ وعده إن حصلت المعجزة وفاز بالانتخابات الرئاسية، فيمنع دخول جميع المسلمين إلى أمريكا!»

نايف كثير الذهاب إلى نيويورك. وأمر كهذا بالنسبة له يشكل صدمة كبيرة.

– «مجرد وعود انتخابية يا أبا إبراهيم. أنت تعلم كيف يكون الأمر أثناء فترة الحملة الانتخابية، ولكن سرعان ما تُنسى تلك الوعود بعد فوز المرشح بالرئاسة... ترمپ على وجه الخصوص لديه أعمال كثيرة في المنطقة، فكيف يمنع دخولنا؟!»

سلطان العميم يرد على نايف. كلاهما يعشقان الحديث في السياسة.

– «ولكنّ الأمر مختلف هذه المرّة؛ فالّذين سوف يأتون به إلى البيت الأبيض– إن حدث وفاز– هم أقصى اليمين، وهؤلاء لهم مطالبهم».

– «السياسة الأمريكية ستبقى ثابتة مهما تغيّر الرئيس. كلها لعبة، ونحن لهم مجرد قطعة شطرنج يحركونها كما يشاؤون، على حسب أهوائهم ومصالحهم. أوباما يظنّ أن إيران هي الأنسب لمصالح أمريكا. أمّا بوش الابن، من قبله، كان في صف الحلفاء القدامى التقليديين لأمريكا؛ وهكذا تسير الأحداث من رئيس لآخر، يتناوبون اللعب بنا كما قلت، على حسب الأهواء والمصالح».

لا أدري لماذا يعشق البعض الحديث في السياسة، بل التنظير فيها؛ وكأنّهم خبراء استراتيجيون من الذين هلكونا في الفضائيات العربية؟! لا أعتقد أنّ هناك شعباً فيه هذا القدر الكبير من المنظرين كما هو الحال مع العرب... جنرالات مقاهٍ... كلنا أصبحنا جنرالات مقاهٍ. لماذا لا نتحدث في الجمال، والفن، أو حتى في الأدب؟ ربّما لأنّنا لم نعد نشعر بقِيَم الجمال. الحروب المستمرة الّتي من حولنا– سواء أكانت في سوريا، أم في العراق، أم في اليمن– لعلّها جعلت أحاسيسنا متبلّدة؛ وإن كنت أظن أنّ المشكلة تعود إلى أبعد من ذلك بكثير، لأنّ أحاسيسنا لم تتبلّد مؤخراً، بل كانت دائماً متبلّدة...

– «هلا، هلا سعود، كيف الحال؟»

سلطان يصافح رجلاً ممتلئاً، طويل القامة، لا أظنّني التقيته من قبل... وجهه العابس لا يجعلني حريصاً على معرفته.

– «مساء الخير سلطان... مساء الخير نايف».

– «يا هلا بسعود... من زمان عنك... لا أظنك تعرف الدكتور طارق أيوب جرّاح القلب».

نايف يقوم بواجب التعريف بيني، وبين هذا الرجل...

– «سعود الحسن، صاحب مؤسسة الحسن للمقاولات، وهو أيضاً صاحب هذا المقهى».

نتصافح، ثم سرعان ما يبدي اهتماماً بالحديث مع سلطان.

– «تحدثت مع أم عبد الله. اتفقنا على أن تمرّني غداً في المكتب».

– «على بركة الله، ولكن لا تدعها تمرّر عليك بضاعتها البائرة. اطلب منها الفئة ألف».

– «هذا ما فعلته».

– «ممتاز. ما ينْخاف عليك يا أبا صالح».

– «عمَّ تتحدثان؟ لا يكون قصدكما أم عبد الله الخطّابة؟!».

نايف يُبدي استغرابه عاقداً حاجبيه، وكأنّه غير راضٍ عمّا سمع.

– «ومن غيرها؟ أعطيت رقمها للشيخ سعود بعد أن أقنعته... والله أرْيَح شيء هو زيجة المسيار، خاصة للمقتدرين من أمثالنا. لا دوشة أولاد، ولا وجع رأس. ادفع لها ما تريد، ودعها في منزلها، تأتيها وقتما تشاء، وعلى حسب مزاجك».

ما أستغربه حقّاً هو كون سلطان متزوجاً من الدكتورة دينا السعيد التي تترأس لجنة حقوق الموظفات بالمستشفى، كما أنّها– على حسب ما يُشاع عنها– من أشد الرافضات لمبدأ الزواج الثاني بأشكاله كافة. لا أدري إن كانت سخرية القدر أن يكون زوجها على هذا النحو في معاملة النساء؛ وكأنهن أداة لمتعته الرخيصة، أم أنّها هي الّتي دفعته بتصرفاتها إلى هذا الطريق. أنا شخصياً لا أعرف دينا معرفة جيدة، رأيتها فقط من بعيد؛ هذا بالرغم من معرفتي بزوجها، وإن كانت معرفتي به هي في الأساس عن طريق صديقنا المشترك نايف... أذكر أن دينا منذ زمن ليس ببعيد كانت تتمتع بقدرٍ من الجمال، ولكن حتماً قبل أن تلجأ إلى جرّاح التجميل الّذي نفخ شفتيها فجعلهما تبدوان أشبه بمنقار البطة! لعلّ هذا ما دفع سلطان للبحث عن زواج المسيار، لا أدري؛ وإن كنت في قرارة نفسي أعتقد أنّه لو كانت دينا على ثقة من حب زوجها لها، لما لجأت إلى جرّاح التجميل. فالرجل الّذي يحب امرأة يتقبلها كما هي؛ بميزاتها، وعيوبها. فإن كان سلطان لا يحب دينا– وعلى الأرجح هذا هو الحال– فلن تُغَيِّر شيئاً نفخة شفتيها.

من سخرية القدر أنّه عن طريق نايف، تعرفت على المرأتين الوحيدتين اللّتين عشقتهما في حياتي: رباب، ومنال، تباعاً... كيف يمكن لشخص يفكر بهذا الشكل المهين نحو المرأة، أن يكون هو ذاته من عرَّفني على أجمل، وأرق، وأطهر امرأتين صادفتهما؟!

– «ماذا عنك يا دكتور طاهر؟».

– «طارق».

يبدو أن «سعود» لديه بوادر مرض الزهايمر! يخطئ في اسمي بعد أن عرَّفه نايف بي قبل قليل... فشتّان ما بين طارق، وطاهر!

سلطان يقاطع، مطْلقاً ضحكة من ضحكاته السمجة... لا أعرف كيف وصل الحال بنايف حتى يصاحب مثل هذين؟! لم يكن هكذا شأنه في السابق. كان مثلي عاشقاً للمرأة، وليس محتقراً لها. تغيّر كثيراً في السنوات العشر التي غبتها عنه، عندما ذهبت للتخصص في أمريكا. عندما عدت، وجدته أصبح شخصاً آخر... لعلّ هذا ما جعل صداقتنا تبهت بعض الشيء؛ بل لولا أن معرفتي به تمتد إلى الطفولة المبكرة، وتربطني بعائلته صلة قوية، لربما انتهت تلك الصداقة نهائياً.

–– «يبدو وكأنني أصبحت مادة لسخرية اللّيلة! الله يكون في عونك يا طارق... مثلك لا ينبغي أن يترك وحده وسط هذين، ولكنّني مضطر للانسحاب، فلديّ موعد مهم».

والله خير ما فعل هذا الرجل الغثيث... لقد مللت من تفاهته، هو وصديقه سلطان! ليت زوج دينا يقتدي به هو الآخر، وينسحب من المقهى؛ تكون حينها ليلتي أجمل بكثير! ولكن مع الأسف، ليس كلّ ما يشتهيه المرء يدركه.

غفوةٌ ذاتَ ظهيرة

في مدينة تحبها كثيراً، تعيش، تستيقظ باكراً، تحاول أن تبتسم. الشمس مشرقة جداً. نادراً ما تتوارى خلف سحابة. تمارس عاداتك الصباحية أحياناً، ربما لا تتناول فنجان قهوة، ولا تتصفح جريدتك المفضلة، ولا تستمع إلى فيروز، ولا تثقل سمعك ببرنامج صباحي إذاعي يبث غالباً أخباراً غير مبهجة. فقط، تقف لثوان أمام المرآة لتعدل غترتك أو شماغك، تلمح وجهك غير مبتسم، لا بأس! تغادر غرفتك، بيتك، الحي، تستقل سيارتك التي تحرص على أن تكون مشبعة بالبرودة قبل أن تمسك بمقودها لتتجه إلى عملك.

مكيف السيارة يمارس عمله برتابة، وأنت تؤثر الصمت، يرتفع صوته قليلاً، تستعين بمحطات في «إف إم» لتهبك شيئاً من... من ماذا؟ لا تدري أبداً. لا ترغب في أن تستمع إلى موسيقا هذا اليوم وبعض أصوات المذيعين عبر «إف إم» تدفعك إلى أن تكتم صوت المذياع مباشرة، وتستمتع بصوت المكيف وصخب أبواق السيارات من حولك!

الطرق غير سالكة دوماً، تخاف أن تتجاوز إشارة مرور وهي خضراء، ولكن هل ستثق أنها ستبقى كذلك عندما تقترب منها؟ قد تتحول إلى حمراء فجأة، وتحيط بك فلاشات لكاميرا تضيف عليك عبئاً مالياً. ها أنت تتجه إلى مكان تفاجأ فيه بأن كل الناس الذين يحيطون بك يتجهون إليه. كتل من الحديد، وكتل من البشر.

أنت تعيش صراعاً مع شمس محرقة، وأناس يريدون أن تبتعد عن طريقهم إلى أين؟ لا تدري أبداً، ولكن حتى لو أفسحت لهم الطريق كسيارة طوارئ، وتركتهم يتجاوزونك، لأمر قد يكون مهماً لهم، فإنك سرعان ما تجدهم خلفك يطلبون منك مرة أخرى أن تسمح لهم بتجاوزك. أنت تمشي كسلحفاة وهم كالأرانب. تتذكر قصة الأطفال تلك، وتحاول أن تبتسم، ولكن لا تقدر، تفكر في المذياع مرة أخرى ومحطات الـ»ف إم». ربما تستمع لصوت يريحك قليلاً، قد يكون الصوت الذي بدأت تستمع له مريحاً قليلاً، ولكن تصفعك الكلمات التي تستمع لها، تغلق المذياع بعنف، وتتساءل: لماذا يشوهون الكلمات؟

الطريق طويل رغم قصره، وأنت تتجه إلى مكان تتحوّل فيه، أو يفترض أن تتحول فيه، إلى رجل آخر...

تبحث عن مكان آمن لسيارتك، تحزن على بقائها مدة طويلة تحت شمس محرقة، تتذكر الهدية التي تلقيتها من الورق المقوى والتي تحمل إعلاناً لشركة لا تحب أبداً منتجاتها، أخذتها لتستخدمها غطاءً واقياً للمقود وواجهة السيارة الداخلية (الطبلون).

الظل في الداخل، لا بأس! تطمئن على سيارتك، وتتجه إلى عملك. يجب أن تبتسم وأنت تلقي تحية الصباح على من تقابله. لحسن حظك لا أحد يعرفك لتلقي عليه تحية الصباح وتتبعها بابتسامة. تستخدم المصعد، معك مجموعة من الرجال لا تعرفهم، وتحافظ على ابتسامتك مرة أخرى دون أن تمنحها لهم، يفتح باب المصعد لتغادر أنت ويبقوا هم. تتجه إلى مكتب صغير مستقل مطل على غرفة كبيرة، يقدم إليك عامل آسيوي كوب شاي، تشكره، وتفكر في أن تبتسم، تحاول لكنك تعجز.

يأتي بقية الموظفين، لا أحد ينتبه إليك، ولا لوجودك، أنت هنا؟ جئت قبلهم، لماذا يبخلون عليك بتحية وابتسامة؟

لا يهمّ! تمسك ورقة بيضاء وتبدأ بالكتابة، تستهل قائلاً: «سأطوي الصفحة القديمة، وأفتح صفحة جديدة في حياتي». ملامح وجهك بدأت تتغير، يا إلهيّ ها أنت تبتسم.

هل انتهت حكايتي؟ ها أنا أحمل حقيبتي وأغادر المكتب، لم يطلب مني أحد البقاء، ولم يلوح آخر بيده للوداع.

أغادر وأنا أشعر بألم؛ لا أقدر أن أبكي. سنوات طويلة وأنا هنا وحيداً في عالم صاخب، ألقي نظرة أخيرة على مكتبي: هل ستبكي الأوراق؟ هل ستفقد الأقلام الأصابع التي تحتضنها؟ هل سأسمع أنين المكتب؟

عذراً أصدقاء زمن طويل، مجبر أن أرحل؛ ليست رغبتي تماماً، ولكنه الزمن الذي لا يرحم. أنا إنسان طيب ومحبّ لعملي، وكل ما في هذه الغرفة الصغيرة يشهد على ذلك؛ علاقة خاصة تربطني بكل ملف بجهاز الحاسب الآلي القديم، والحاسبة الأقدم، علاقة صداقة تربط كتلاً جامدة برجل أكثر جموداً...

الزمن تغيّر، السنوات تعاقبت، وأنا، خاصة في السنوات الأخيرة، لم أتغيّر.

لم أكن أبداً الأول، ولن أكون، أفضل من أن أكون الثاني أو الثالث أو الأخير. أخاف من المقدمة، حتى عندما أجلس أفضل أن أجلس في المقاعد الخلفية، في الفصل الدراسي، وقاعات المحاضرات، والحافلة، حتى في صلاة الجمعة أتعمّد أن أتأخر قليلاً حتى لا أجد نفسي في الصفوف الأولى.

هل قررت أن أكون الأخير منذ طفولتي؟ لا أدري، أأنا المولود البكر لوالدي أم الأخير؟ ربما، لم ينتبه إلى وجودي أحد!

كنت... باهتاً...

صامتاً...

كنت كائناً وجد فجأة يحتلّ حيّزاً في الكون، ضئيلاً، كميكروب لا يرى بالعين المجردة.

لا مجال للتخلص منه، في الوقت نفسه ليس عبئاً؛ تساوى فيه الوجود والعدم.

لن تحزن أبداً هذه الغرفة، ولا تلك الأوراق، ولا اللوحة المعلقة للطفل اليتيم الباكي.

مثقل أنت بهمّ يحاصرك، تغادر مكتبك، تلقي نظرة سريعة على الأشياء التي كانت حولك سنوات طويلةً، تغادر مقر عملك السابق. سيارتك تعاني من جلد الشمس، يستنجد بك أحدهم أن تقله إلى بيته، يؤكد لك أنه في الطريق إلى بيتك، ويضيف قائلاً: «ستكسب أجري». ليس لديك رغبة في الكلام، وهو لا يعلم أنك مغادر هذا المكان إلى الأبد، يسترسل بالحديث عن الزحام، وحرارة أغسطس الحارقة، وتنبؤات الفلكيين بصيف يحرق الأجساد.

يسألك: «كم أمضيت في هذه الشركة؟»، تجيبه باقتضاب: «أكثر من ربع قرن». يقول بانفعال: «لا بد أنك من المؤسسين!». لا تجيبه، تتمنى أن يخف الازدحام لتصل إلى مكان سكنه.

صخب مكيف السيارة لم يسكته، لديه كلام كثير يريد أن يتخلّص منه ليبحث عن كلام آخر يلقيه إلى رجل آخر، أو إلى زوجته أو أبنائه؛ المهم أن يتحدث. ربما يقف في غرفته أمام المرآة في بيته، في غرفة نومه، ويتحدث مع نفسه، وأنت تمارس الصمت رغم أنك تعجّ بالكلام، مملوء بحكاياتك الخاصة التي أزعجتك كثيراً، وأزعجت كل من سمعك وأنت تقتطف منها مقاطع بسيطة حين تقرر أن تبوح قليلاً.

يمنحك مدة صمت قصيرة تجعلك تبادر إلى رفع صوت الراديو لتستمع إلى أغنية، بكل تأكيد لم تعجبك، ولكنها محاولة هرب من صوته وحديثه ولكنه يفاجئك بكتمه صوت الراديو، ليبادرك بقوله: «لدي عتب بسيط عليك!». يبدأ قلبك بالخفقان، لا أحد يعلم بأمر استقالتك ومغادرتك الشركة. وتتساءل داخلك: عتبه على ماذا؟ تريد أن تقول له: «على ماذا»، لكنه لا يترك لك مجالاً للسؤال، فيتابع بقوله: «أنت من أقدم الموظفين في الشركة، ولكنك غير اجتماعي!»، ويرفع صوته قليلاً رغبة في أن يكون كلامه مؤثراً متحدثاً عن أهمية تكوين العلاقات مع زملاء العمل، مكملاً نصحه بتقديم أمثلة من ممارسات بعض الموظفين.

back to top