الذاكرة

نشر في 24-02-2018
آخر تحديث 24-02-2018 | 00:00
No Image Caption
أسمع طنين الأجهزة، أفتح عيني برفق ثم أقفلهما، التفت إلى جهة اليمين فاليسار، لا أجد أحداً، أرفع رأسي أحاول النهوض ثم أعود كما كنت، أسمع خطوات أحدهم، لا أعلم إلى أين تتجه، لا تنظر إليّ، فقط تجدد المحلول ثم تدنو مني وتقول بصوت مرتفع لقد استيقظ، سآتي حالاً، فقط سأخبر الطبيب. بعد دقائق الغرفة ممتلئة بأشخاص أراهم للمرة الأولى، أشاهد كل شيء متداخلاً، أغمض عيني وأفتحهما، أكرر ذلك أكثر من مرة لاتضاح الرؤية.

مرحباً، أنا الدكتور سامي هل تسمعني؟ لا أستجيب له ثم يقول لا داعي لتتحدث فقط حرك رأسك إن كنت تسمعني، أهز رأسي والرؤية ما زالت مشوشة. وضع النور بعيني ثم قال حاول أن تتبعه، الرؤية تتضح رويداً، اتبعت النور لليمين ثم اليسار، قال: هل تعلم أين أنت..

بصوت لا يكاد يسمع قلت: نعم أعلم أين أنا..

جيد، فقط أردت التأكد والآن ما هو اسمك؟

مهلاً ما الذي حدث..

يجب أن تخبرني اسمك ثم سأطلعك على وضعك..

اسمي عدن

جيد، بأي منطقة تعيش يا عدن؟

تبوك.

وهل تعلم كم عمرك؟

نعم إنني في السابعة عشرة ولا أعلم كم شهر..

ما هو آخر شيء تتذكره يا عدن؟

آخر ما أذكره هو انتقالي إلى مدرسة جديدة.

همهم الطبيب بحيرة ثم كأنه يحاول أن يخبرني بشيء ما..

عدن، هل تعلم أنه وقع حادث لك وكنت بغيبوبة لمدة خمسة أشهر؟

كما أن عمرك 23 سنة وليس 17 أجهل تماماً سبب إجابتك، جميع الفحوصات كانت سليمة، عدن هل تسمعني.. حسناً هذا يكفي للآن، أخبريهم أن يعملوا له أشعة مقطعية الآن. أسمع الممرضة تقول: ولكننا أجريناها من قبل.

أعلم ذلك ولكن هذا المريض لا يتذكر عمره، أجروا له الأشعة مجدداً.

نظر إليّ وقال: حمداً لله على سلامتك يا عدن بالنسبة إلى عائلتك كانوا يأتون طيلة هذه الفترة، لم يتخلفوا ولا يوم، سنبلغهم الآن باستيقاظك..

2

فتحت عيني، ووجدت أمي بجانبـي تقرأ القرآن بتأنٍّ وصوت مرتفع، وعلى الكرسي قرب النافذة كان أبـي راقداً مسنداً رأسه على يده اليسرى.

بصوت متحشرج قلت: أمي، أريد ماءً...

آه لقد استيقظت أخيراً، حضنتني بقوة وأجهشت بالبكاء، نهض أبـي على صوتها، اقترب وقال: أفسحي لي يا أم عدن لأنظر إليه، الحمدلله الذي أعادك الله لنا بعد هذا الغياب.

أمسك يدي بقوة ثم قبل رأسي، أخواتك بالخارج سأبلغهم باستيقاظك.

دخلت أخواتي الخمس، أرى وجوهاً مبتسمة، متخوفة، فرحة، كل ذلك في آن واحد..

عدن بالطبع تتذكرنا أليس كذلك لن أعبر عن نفسي وكأنني بإذاعة مدرسية..

قالت ذلك أصغر أخواتي ثم تبع ذلك ضحك خفيف..

قلت: ما المناسبة لتقولي ذلك؟

قالت آمال: لماذا العجلة قد يكون جوابك أنكَ بعمر السابعة عشرة هو من الصدمة وليس شيئاً آخر.

التفت إلى أبـي وسألته هل قال الطبيب لك شيئاً؟ لقد أخبرني أن ننتظر نتائج الأشعة وأراحني بقوله إن هذا النسيان يحدث كثيراً بعد الغيبوبة. حل صمت في الغرفة، ثم سألت عن مها لماذا لم تأتِ، كلٌّ ينظر إلى الآخر كأنهم يدفعون أحدهم للتحدث.

قالت أمي: مها منذ أربع سنين وهي مع زوجها خارج البلاد، وبالمناسبة أرسلت سلامها إليك كما أنها ستحاول المجيء بأول فرصة، لقد كانت هنا عند حصول الحادث، وكانت تأتي كل يوم إلى أن حان موعد سفرها.

أتظاهر أنني أسمع جيداً ثم قلت: أبـي سأسألك شيئاً هل توفي أحد بالحادث؟

هل كان برفقتي صديق عزيز أو جدتي، أرجوك أخبرني الحقيقة.

الحقيقة يا بني أنك لم تكن بالسيارة، كنت تقطع الطريق وحدك وحدث ما حدث، الذي دهسك هو مراهق ولا أعلم هل أطلق لفظ مستهتر عليه أم على والده، ولكن بالتأكيد لن نتنازل عنهم، قلت لنرَ ما سيحصل معك ثم نفكر بهم..

كان الصمت سيد ساعات الزيارة، أمي بجانبـي وتردد بين وقت وآخر هل أسكب لك بعضاً من شوربة العدس؟

هل هناك طعام محدَّد أحضره معي غداً؟ وأخواتي ملتزمات الصمت، قد يتحاشين التحدث معي لأني بعمر السابعة عشرة، وليس كما يفترض أن أكون..

كنت قلقاً أخشى الغد ونتائجه، كلمة واحدة تدور بخاطري هي ماذا لو..! ماذا لو كان هناك خلل بعقلي والذي يؤثر بدوره على ذاكرتي؟ ماذا لو لم أتذكر؟ كنت خائفاً من النوم، ماذا لو نمت وعادت الغيبوبة؟

طرق الطبيب الباب، لقد كان طويلاً وممتلئ الجسم أسمر اللون وعيناه غائرتان، حاجباه كثيفان وأصلع الرأس. ابتسم وقال: يجب أن تتركوا عدن ليرتاح، تعلمون إنه اليوم الأول ولا نريد إجهاده، كما أن الزيارة على وشك الانتهاء. خرجوا جميعاً ثم قالت أمي: ألن أستطيع البقاء معه؟ والله لم أصدق أنه استيقظ..

قال الطبيب: يا أم عدن أعلم ما هو شعورك كما أنها بضعة أيام ويذهب معكم.

ردت عليه وهي تقفل حقيبتها: آه، إنك لن تشعر بشعوري أبداً.

ثم قبلتني وخرجت.

كنت بدون رفيق بالحجرة، لم تكن سيئة عندما التفت إلى جهة اليمين هناك نافذة كبيرة أمامها طاولة دائرية وعدة كراسٍ من قماش لونه أزرق، وأمامي خزانة صغيرة بيضاء وعلى يساري دورة المياه. الإضاءة خافتة والحجرة مطلية باللون الأبيض. بقيت مستيقظاً طوال الليل أحدق إلى الفراغ، ثم أحسست بألم شديد في رأسي متأملاً إنه ألم عودة الذاكرة.

3

فتحت الستارة بشدة وأضاءت الغرفة بنور الشمس، صباح الخير هيا استيقظ إنه وقت الفطور.

لقد كان النور ساطعاً، بنصف عين مفتوحة وبحاجبين معقودين قلت لها: هلا أغلقتِ الستارة.

لا أحب الاستيقاظ بهذه الطريقة، وكأنها لم تسمعني، اقتربت ووضعت صينية الفطور إلى جانبـي ثم قالت: سيأتي الطبيب بعد ساعة.

لقد كان طولها تقريباً مئة وخمسة وستين أو أقل، كلون القهوة ينسدل شعرها إلى نصف ظهرها، ملامحها صغيرة ومتناسقة، كانت تتحدث بلهجة شامية لم أميزها جيداً، تناولت فطوري المكون من بيضتين مسلوقتين وزيتون وسلطة وحبة تفاحة مع عصير برتقال.

طرق الباب مرتين: ثم دخل مبتسماً وقال: كيف حالك اليوم؟

إن كنت تقصد بكيف حالك هل عادت الذاكرة أم لا؟ فالجواب أن حالي مثل الأمس..

ذهب بريق ابتسامته قليلاً ثم قال: عدن سأكون صريحاً معك تماماً، وأنت أيضاً يجب أن تكون كذلك، الأشعة سليمة، ولكنك لا تتذكر السنوات الست الأخيرة من عمرك، ولا نعلم هل ما تشعر به هو عارض أم دائم، واحتمالاتنا أنها آثار الصدمة. والآن سأسألك بضعة أسئلة أرجو أن تجيب عليها بصراحة.

هل أكملت دراستك الجامعية، وما هو تخصصك؟

بالطبع كنت بالجامعة، لم أتذكر ذلك ولكن أعلم وضع عائلتي جيداً، لن يدعوني وشأني إن لم أدخلها.

قاطعني الطبيب: أرجوك لا ترد بالبديهيات إن ما أحتاج إليه هو ما تتذكره.

حسناً لا أتذكر تخصصي الجامعي.

ماذا عن هواياتك؟

ألعب كرة قدم، وأتذكر اهتمامي في القراءة وبعض المحاولات الفاشلة لتعلم الرسم.

هل تتذكر الأماكن التي سافرت إليها؟

لم أخرج خارج حدود المملكة.

هل أنت متأكد؟

نعم.

حسناً يؤسفني إخبارك الآن أنك تتلقى العلاج في الأردن..

لقد كان جوابه مثل الصفعة، أجابني ثم نهض باتجاه النافذة، وكأنه يقول: إن أردت اغضب أو ابكِ لن أشاهدك، ولكن كنت صامتاً، منذ الأمس وأنا فارغ لم أبكِ على حالي، هل سأبكي الآن لأنني أجهل وجودي بالعاصمة عمان..!

عاد لمقعده ثم قال: إن أردت نكمل لاحقاً؟

لا، لا عليك، أكمل أسئلتك.

حسناً، ماذا عن الأصدقاء؟ وهل هناك فتاة بحياتك؟

ترددت كثيراً بالجواب، أشعر أنه باغتني بهذا السؤال، أن تجهل نفسك بأمر مثل هذا وقد يتطلب منك لاحقاً الاستعانة بأحدهم وسؤاله عن حال قلبك يؤلمني، ماذا لو كان هناك شخص لا أحد يعلم بشأنه..! بعد هذا الشرود قلت: بالطبع هناك أصدقائي رائد ونايف وعبدالله، أما عن الفتاة لا أعتقد لها وجود في حياتي.

أشار بقلمه إلى باقة الورد وقال: ألم تسأل عنها؟

نظرت إلى الباقة، لقد كانت جميع الورود بيضاء وبالمنتصف بعض أوراق الياسمين من أسفل ملفوفة بورق أخضر، وجمعت بحبل رقيق لونه بيج.

لقد كانت بسيطة ولكنها جميلة، قلت له: عائلتي أحضرتها أليس كذلك..!

زمّ شفتيه وقال: عائلتك لن ترسل الباقة إلى مكتبـي لأوصلها إليك، لقد كان معها بطاقة واحتفظت بها من أجلك، سلمني البطاقة، ثم نهض بالقرب من النافذة. كل ما أشعر به هو خوف، أخاف من الشخص الذي سأكتشف ماضيه أو مستقبله، إنني لا أعلم ما هي الكلمة الصائبة لهذا الموقف، فتحت البطاقة، هناك رائحة فاتنة تفوح منها، أحدثت شيئاً بداخلي أشعر إنها مألوفة مثل بودرة الأطفال الممزوجة بالياسمين ولكنها ليست هي، ثم قرأت محتواها:

(حمداً لله على سلامتك، لم تكن خمسة أشهر بل كانت خمسة قرون، فور سماعي للخبر علمت جيداً أن هذا الوجود هو أنت، وأن كل هذا الفراق الذي حدث بيننا لأننا لم نعِ ما هي الحياة أو بالأحرى ما هو الحب) كانت البطاقة لا تحمل اسماً فقط توقيع بالأسفل بحرف الراء. نظرت إلى الطبيب نظرة خاطفة لم يتحرك، ولكنه كان يشاهدني بانعكاس زجاج النافذة.

قرأت الرسالة مراراً، لا أصدق إنني المقصود بهذه الحروف، التفت إلى الطبيب وقلت: هل أنت متأكد إن هذه الباقة كانت لغرفة عدن..

اقترب مني وقال: نعم بكل تأكيد ثم سحب من يدي البطاقة، كما تعلم لا مكان للخصوصية بين المريض وطبيبه.

قرأها سريعاً ثم نظر إلى عيني وقال: لتعلم إن الحياة العاطفية تشكل جزءاً كبيراً من حالات فقدان الذاكرة وعودتها، كما أن حوارنا لم ينتهِ ولكن يجب أن أذهب الآن.

ظللت أقرأ الرسالة إلى أن حفظتها، تأملت الخط، وفكرت في جميع الأسماء التي تبدأ بحرف الراء ثم تساءلت كيف علمت إنني نقلت؟ وكيف أوصلت باقتها؟ كنت أفكر كثيراً إلى أن غفوت والرسالة بيدي.

استيقظت على قدوم عائلتي، لقد أحضروا العصائر الطبيعية والفطائر والكنافة والبقلاوة الأردنية، وبعض المكسرات، يا إلهي ما الذي لم تحضروه، قالت أمي: قد تجوع ليلاً كما سنوزع بعضها على سلامتك، قلت: حسناً بما إن الجميع هنا، أود منكم التكتم على خبر فقدان ذاكرتي المؤقت لن يخرج الخبر حتى لزوجيكما، وأشرت بإصبعي إلى آمال وأحلام المتزوجتين من أخواتي.

قال أبـي: ولمَ هذا القرار يا عدن تعلم أن هذا لا ينقص شيئاً منك، أيدته أمي وقالت: بالطبع لا ينقصه شيء. قلت: أرجوكم ما حدث حدث لي وحدي والجميع سيقول ما أريده ولن أسامح من يفشي الخبر، كما أن الفقدان مؤقت لماذا نخبر الجميع بكل التفاصيل.

أثناء انشغال البعض في احتساء الشاي وأمي في استقبال المكالمات، جلست ماجدة على السرير بجانبـي ثم قالت:

لا أعلم هل تذكر ذلك أم لا، ولكننا تعاهدنا أنا وأنت أن من يموت أولاً يكسر هاتف الآخر، ويحرق جميع مذكراته، حمداً لله لم تمت، ولكنني أتممت العهد، وضعت الحقيبة عند باقة الورد التي لم يلاحظها أحد، ثم غمزت وقالت: بداخل الحقيبة مذكراتك التي وجدتها على مكتبك وهاتفك النقال..

ضحكت وقلت: لا أتذكر ذلك، ثم أمسكت يدها وقلت: آه لو تعلمين حجم الضياع والتشتت الذي أشعر به، ذاكرتي فارغة، وهنا هذا الكم من وقت الفراغ الذي يقتلني، على الأقل سأتسلى بهما، إلى أن تعود ذاكرتي.

back to top