إعمار العراق... ليس بسهولة الفرضيات المعلنة

• المطلوب منظمة كـ «التعاون الأوروبي» تشرف على الإنفاق وتحدد آلياته ليصيب أهدافه
• نموذج «مارشال» لإعمار أوروبا ومشروع تأهيل ألمانيا الشرقية وضعا تحت إدارة ناجحة

نشر في 15-02-2018
آخر تحديث 15-02-2018 | 00:05
محمد البغلي
محمد البغلي
أطلقت الكويت هذا الأسبوع ورشة عالمية ضخمة، تحت مسمى "مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق"، بهدف تمويل مشاريع وخطط استثمارية، وأخرى إنشائية، في بلد دمرته الحروب الداخلية والخارجية، على مدى سنوات.

وينعقد المؤتمر بناء على فرضيات عديدة للدولة المضيفة؛ أولها ان استقرار العراق سينعكس إيجابا على امن الكويت، فضلا عن أن مشاريع اعادة الإعمار ستكون بوابة للنمو الاقتصادي غير النفطي، والتجاري، انطلاقا من ميناء مبارك الكبير ومدينة الحرير إلى اسواق وسط آسيا وأوروبا الشرقية. وهذه فرضيات من المرجح أن تصطدم بواقع حال ما يمكن وصفه بالمؤسسات وطبيعة الاقتصاد في بلد كالعراق.

الدول الفاشلة

غير أن مسألة إعمار العراق والاستفادة منه ليست بالسهولة الواردة في الفرضيات أعلاه، لأن إعمار الدول الفاشلة يستوجب ما هو أعمق من ضخ الاموال على مشاريع الاستثمار والبنى التحتية، ولنا في مشروع إعادة إعمار اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية (خطة مارشال)، أو بصورةٍ أصغر مشروع إعادة تأهيل مقاطعات ألمانيا الشرقية، بعد توحد الألمانيتين؛ ففي حالة مارشال كان الهدف الأساسي قبل البناء والإعمار هو الخروج من آثار الهزيمة على اكبر دول القارة، خصوصا ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، الى جانب إيقاف مد اليمين المتطرف الذي دمر اوروبا قبل الحرب وكل آثارها الاجتماعية والاقتصادية السلبية، فتم إنفاق ما يوازي 13 مليار دولار في ذلك الوقت، تحت إشراف "منظمة التعاون الاقتصادي الاوروبي"، باعتبارها جهة مكلفة بالإنفاق وتحديد اتجاهاته، فنجحت في إعمار وتشغيل آلاف المشاغل والمصانع في أوروبا... فكان التحدي يرتكز على أن الدول الفاشلة ستكون نتائجها على محيطها أسوأ بكثير من نتائج الحرب العالمية، وبالتالي فإن اعادة الإعمار يجب أن ترتبط بإعادة تأهيل المجتمع الصناعي وتطوير التعليم وربط الاعمال بالاقتصاد وتطوير النظم السياسية في الاتجاه الديموقراطي، بما لا يتيح للأحزاب المتطرفة مجددا تولي السلطة في القارة التي نفضت غبار حربها المدمرة.

الوحدة الألمانية

أما النموذج الأصغر الذي يرتبط بالتأهيل أكثر من إعادة الإعمار فهو نموذج ألمانيا الشرقية بعد الوحدة الألمانية التي أطلقت "برنامج للتنمية الوطنية"، بهدف إذابة الفوارق بين سكان الشرقية والغربية، في مجالات الاقتصاد والسكان والمعيشة والبنى التحتية، وفق ادارة عالية الحصافة، فتصدرت ألمانيا الموحدة اقتصاد اوروبا، واحتلت مؤخراً المركز الأول كأكثر دولة في العالم تمتلك فائضاً في حسابها الجاري عند 289 مليار دولار، وباتت تسجل المستوى الأقل في منطقة اليورو، من حيث معدلات البطالة عند 5.6 في المئة، فضلا عن بلوغها المرتبة الثالثة عالميا كأكبر حصة صادرات بعد الصين والولايات المتحدة... وهذه مستويات لم يكن بالإمكان تسجيلها لو أن ألمانيا الموحدة تجاهلت تأهيل مقاطعاتها الشرقية.

ثروات وفساد

وفي الحقيقة، فإن وضع العراق ليس بتعقيد حالة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ولا ببساطة نموذج ألمانيا الشرقية بعد الوحدة، إلا أن ثمة عوامل يجب ألا تكون غائبة عن ملف إعادة الإعمار، أولها ان تفشي الفساد وتمكنه من مؤسسات الدولة وأحزابها لا يستقيم مع ضخ المليارات والاستثمارات والمشاريع، في بلد من اكثر دول العالم فسادا، رغم أنه بلد غني ومتنوع بالثروات النفطية، التي تضعه كرابع أكبر مصدر للنفط في العالم، بعد السعودية وروسيا والولايات المتحدة، وصاحب أعلى قفزة انتاجية في استخراج النفط خلال آخر 5 سنوات، فضلا عن الثروة الضخمة من الأراضي الصالحة للزراعة، بما يوازي 60 في المئة من أراضيه، الى جانب الامكانيات السياحية وتوافر الأيدي العاملة لمختلف الصناعات الصغيرة والمتوسطة.

ويبلغ الناتج القومي للاقتصاد العراقي نحو 170 مليار دولار، يقابله ثلثا هذا المبلغ على شكل ديون سيادية، نتيجة لفساد وسوء الإدارة، إذ يحتل العراق المرتبة الـ166 من أصل 176 دولة، بحسب تصنيف منظمة الشفافية الدولية، مع التنويه بأن الأحزاب السياسية في العراق هي المؤسسة الأكثر فساداً في البلاد، يليها البرلمان والقضاء والمؤسسة العسكرية!

بل إن رئيس لجنة النزاهة العراقية حسن الياسري يصف مهمته في محاربة الفساد بأنها كـ"إفراغ مياه البحر بملعقة", ولعل الحديث عن المؤشرات الدولية يعطي انطباعا حول مدى كفاءة الإدارة في بغداد وفسادها على مختلف المستويات، إذ إن العراق هو الدولة النفطية، مع ليبيا، التي رفض مؤشر التنافسية العالمية تصنيفها تعليمياً في إطار التقييم الذي شمل 140 دولة في عموم العالم، باعتبارهما دولتين لا تتوفر فيهما أبسط معايير الجودة في التعليم. أما على مستوى سهولة ممارسة الأعمال فإن التصنيف الذي حصل عليه العراق عند المرتبة 161 عالميا يترجم المستوى المتدني الذي وصل اليه الاقتصاد. وفي مؤشر السلام، الذي يرصد مستوى الأمان عالميا، فإن العراق جاء في ذيل القائمة (161 من أصل 163)، أفضل فقط من سورية وأفغانستان، وفي المرتبة رقم 142 عالميا من أصل 149 دولة في مؤشر الازدهار، في حين يحتل العراق بثرواته النفطية وغير النفطية المرتبة الثالثة عربيا، على قائمة الولايات المتحدة للدول المعتمدة على مساعداتها بعد الأردن ومصر.

ميليشيات ومؤسسات

أزمة الطائفية في العراق معروفة ومعلنة، لكنها بلغت من السوء أنها أفرزت مؤسسات أعلى من الدولة, فرغم وجود برلمان وأحزاب، وحتى حكومة منتخبة، فإن الواقع أمر آخر، فالميليشيات تدير الحكم، والحكومة تنشئ ميليشيات... في مفارقة لا تفهم إلا في سياق استخدام عوائد النفط والمساعدات الخارجية في تغذية النزاع الطائفي! ولعل أول أساسات إعادة الإعمار لأي بلد هو ما يعرف بـ" تسوية النزاع"، اي العمل على تجاوز الأزمات وبناء الثقة والعمل على خفض درجة التوتر ومساهمة كل الاطراف في العملية السياسية، باعتبارها الوعاء الوحيد للحكم، بلا واجهات عسكرية أو جماعات منفلتة عن سيطرة الدولة.

نماذج دولية ناجحة

لا ضير في تبني النماذج الدولية الناجحة، وتحديدا إنشاء جهات مشهود لها بالحصافة والنزاهة لتولي عمليات الإنفاق ومتابعة عملية اعادة إعمار العراق، تماما مثل نموذج منظمة التعاون الاقتصادي الاوروبي، بعد الحرب العالمية الثانية, فملف الإعمار لدولة مثل العراق يمثل، بلا شك، رهاناً على المدى الطويل، خصوصا في ظل غياب الحكم الرشيد في العراق وضعف المؤسسات وابتلاع الفساد لأي فرص تنموية، فمثل هذه الآلية الخاصة بالإنفاق والمتابعة من الجهات الدولية تجعل تحقيق مليارات الدولارات لأهدافها أكثر فاعلية، وأيضا بالنسبة للكويت التي تراهن في إعمار العراق على اقتصادها، فلن يتحقق مبتغاها في ظل فوضى الإدارة وفسادها وتعدد مراكز القرار وارتفاع احتمالات الأعمال العدائية.

ففوضى السلاح وحدها من شأنها أن تبدد الموارد التي تم تخصيصها لأي مشروع، وهذا تحدٍّ حقيقي، فإعادة الإعمار لا ترتبط فقط بالمال، ولكن بمشاريع وخطط وقياس للأداء ومدى النجاح فيه، لتحديد جدارة الإدارة في إنفاق المبالغ المخصصة لها.

إن الحكمة في التعامل مع ملف العراق تكمن في مساعدته على إصلاح إدارته وحكمه واقتصاده ومجتمعه ونظمه، وإلا فإن الأموال الداعمة لكل ما سبق ستكون سلاحا لتعزيز أمراض العراق السياسية والاقتصادية والأمنية.

الأحزاب السياسية في العراق هي الأكثر فساداً يليها البرلمان والقضاء والمؤسسة العسكرية! «الشفافية الدولية»

رئيس لجنة النزاهة العراقية يصف مهمته في محاربة الفساد بأنها كـ«إفراغ مياه البحر بملعقة»!

العراق خارج تصنيف التعليم و161 عالمياً في سهولة ممارسة الأعمال وفي ذيل «الازدهار» والثالث عربياً على قائمة المساعدات الأميركية
back to top