«أعود مع المطر»

نشر في 12-02-2018
آخر تحديث 12-02-2018 | 00:00
 فوزية شويش السالم هناك روايات هدفها إسعاد روح القارئ، بمعنى أنه ليس من أهدافها ابتكار تقنيات جديدة، أو خلق إضافات فنية وجمالية للعمل الأدبي، أو نحت شخصيات غير عادية، أو ابتكار أسلوب لم يكتبه أي أحد للوصول لسحرية واقعية فانتازية وسريالية، أو إضافة لم يأت بها أحد، ومن هذا الصنف رواية "أعود مع المطر"، فهدفها بسيط وعميق في الوقت ذاته، وساحر، ترشح من أدواته السحرية عذوبة تتسرب بصمت وسرية بمسارب الانتباه والسمع لدى القارئ، لتغرقه بفيض من مشاعر غاطسة بحنان يلف روحه في حضن سكينة ومحبة هي كل ما يحتاج إليه، وكأنها تعرف ما ينقصه، لذا أتت إليه لتعوضه عما ينقصه.

مثل هذه الراويات المكتوبة والمخلوقة كأنها فقط لإسعاد قارئها، تحتاج إلى كتابة آتية من تجربة روحية إنسانية عميقة، شعرت بمعاناة الآخر ورضيت بمساندته ومؤازرته بدعمه بالحب، من هذه الروايات قرأت رواية "اذهب حيث يقودك قلبك" لسوزانا تامارو، التي تحكي فيها جدة لحفيدتها قصتها وعلاقتها مع ابنتها عن طريق رسائل ترسلها لها... خطاباتها في منتهي العذوبة والرقة والحنان التي تذيب القلب من فرط إنسانيتها، ونفس المشاعر اجتاحتني حين قرأت رواية "أعود مع المطر" للكاتب الياباني "تاكوجي إيشيكاوا" الرائعة في بساطتها وعمقها الإنساني الرهيف، وبالرغم من اتباعه لتقنية كتابة عادية جدا، عبارة عن أسئلة وأجوبة لحوارات تدور بين أب في نهاية عشرينياته وطفله في السادسة من عمره، أو مع زوجته قبل وفاتها، أو مع شبح زوجته العائد إلى الحياة، أو مع الجار العجوز، الرواية كلها قائمة على هذه الحوارات، لكن المبهر فيها هو تضفيرها بين ما يحدث بالحاضر بين الزوج والزوجة، وما حدث لهما وهما في عمر الثامنة عشرة، بين لقائهما الثاني ولقائهما الأول، حيث يختلط الزمنان في حوار واحد، وكذلك حين يخبر "تاك-كون" العجوز نوبر عن عودة زوجته الميتة إلى بيته، والعجوز يأخذ كلامه على محمل أنه جزء من الرواية التي يكتبها وليست كواقع.

الرواية مشغولة بمنتهى البساطة، وفي الوقت ذاته بمنتهى العمق، كتابة تخترق الروح وتهز المشاعر بزلزال عواطفها. وإلى جانب هذا التدفق العاطفي الحنون، هناك حس كوميدي يخفف من الواقع الدرامي للرواية المكتوبة، بفنية تجعل القارئ يحب كل شخصياتها، بما فيها الكلب بووه الذي لا يستطيع النباح.

الرواية تحكي عن تاك-كون المصاب بمرض غريب يجعله يخاف من مواجهة أمور عادية، مثل الصعود للحافلة أو القطار أو المصعد أو الدخول للسينما أو للمسرح أو لحفل موسيقي، حينها يبدأ دمه بإفراز مواد كيميائية تفقده التركيز وتقوده للتشنج والاختناق، لفرط حساسيته من مواجهتها ولتأثره السريع أيضاً بتغير المناخ بالرطوبة أو بالضغط الجوي، مما يجعله في حاجة إلى من يرعاه، ومما زاد أزمته موت زوجته الشابة "ميو"، التي تركت له ابنه يوجي في السادسة من عمره، ثم يعود شبحها إلى البيت بعد سنة من وفاتها في موسم المطر كما وعدتهم، لكنها تعود دون أن تتذكر أي شيء من حياتها السابقة معهم، وهنا يقوم الأب وابنه بتذكيرها بحياتها السابقة معهم، ومن أجمل المشاهد حين تلاحظ الزوجة ميو -أي شبحها- حياة زوجها وابنها المكركبة بالأخطاء والفوضى، وملابسهم الملوثة ببقع الطعام، وزوايا المطبخ والحمام والجدران المتسخة بالزيوت، وأذني الطفل اللتين لم ينظفهما الأب منذ موت الأم، أمور صغيرة لكن نسيانها يعكس أهمية دور الأم في حياتهما، لذا حين عادت صححت كل الأوضاع المقلوبة وأعادت البهجة والسعادة إليهما، وعلمت الطفل وهيّأته لكل الأعمال المطلوبة لترتيب بيتهم ومعيشتهم مع والده المحتاج لعناية خاصة، حين تهاجم إفرازات المواد الكيميائية دمه، وهيأته تماماً لفترة ما بعد رحيلها مع انتهاء موسم المطر، وعودتها إلى عالم الأرشيف.

هذه الرواية تُرجمت إلى كل لغات العالم، وباتت تتصدر قائمة الروايات الأكثر مبيعاً، بالرغم من أن بطلتها ليست إلا شبحا لامرأة ميتة، إلا أن شاعرية الرواية جعلتها قريبة من مشاعر الناس لدرجة منحتها واقعيتها.

الرواية تحمل تفاصيل كبيرة من سيرة حياة الكاتب "تاكوجي إيشيكاوا"، وكما يقول إن علاقته مع أمه وزوجته هي الأساس الذي ارتكز عليه في بناء روايته، فقد خاطرت والدته بحياتها لتنجبه، وزوجته ارتبطت به مع معرفتها بمشاكل مرضه الصحية.

شفافية الصدق كانت سر توليفة النجاح.

back to top