التكنولوجيا تعيد «أنْسَنَتْنا»!

نشر في 01-02-2018
آخر تحديث 01-02-2018 | 00:00
 مسفر الدوسري لوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة جمال مدهش، ربما من غير قصد. إن سعار منصات التواصل الاجتماعي المتواصل وشهيتها المفتوحة كل اللحظات لالتهام مادتها المقروءة أو المرئية أو المسموعة أجبرنا على اللهاث لتوفير ما يسد فمها ويشبع معدتها التي لا تكتفي، أصابنا سعارها بالهلع، حتى لا نكاد نلتقط أنفاسنا من أجل إعداد شيء من الطعام نتقي فيه نقمتها، أصبحنا نطعمها أفكارنا ومشاعرنا، حتى قبل أن تنضج أحياناً، وبعضنا يجمع لها بقايا الطعام من حاويات البلدية في الشوارع العامة، المهم هو أن يسد رمق حسابه على إحدى هذه المنصات الإعلامية الحديثة، حتى لو بالفاسد من الطعام.

لقد منحت هذه الوسائل ذات المساحة من الحرية للجميع، ويعيب البعض عليها ذلك، وباعتقادي أن ذلك ليس مخرجا سلبيا لهذه المنصات، ولا ينقص من قدرها مثقال ذرة، بل هو تحدٍ للمتلقي عظيم، فهذه النقلة النوعية في التواصل الاجتماعي تتطلب من المتلقي أن يتخلص من ذهنيته القديمة في التعاطي مع نوافذ التواصل التقليدية، والتي يصعب عليها أن تحصل على الصورة كاملة، بسبب محدوديتها، وصعوبة الوصول إلى بعضها.

أما الآن، فإن صعوبة رؤية الصورة كاملة يعود لمحدودية قدرات المتلقي، وعجز فكره عن متابعة ملايين من النوافذ التي تتغيَّر فيها الصورة كل ثانية، وجمع ملايين من القطع المتناثرة لتكوين الصورة الكلية، تكاد تكون تلك مهمة شبه مستحيلة على أي متلقٍ عادي لا يمتلك الأدوات والأجهزة التكنولوجية التي تقوم عنه بذلك، وهذا تحدٍّ ترفعه هذه الطفرة في التواصل الاجتماعي في وجه المتلقي المعاصر، فهي إذ تضع كل معرفة الإنسان في جهاز بحجم يديه، إلا أنها تتحداه في معرفة حقيقة ما يقيناً ما لم يولها ما تستحقه هذه الحقيقة من عمره، ولم تعد الحقيقة تُشترى بالمال، أو تفرض بالترهيب، أو تُكتب بحبر الأهواء، فهذه المنصات الحديثة همشت كل الطرق السابقة، وعبَّدت طريقا واحدا فقط وزيَّنته بالغابات والأضواء، للوصول إلى الحقيقة، وهو الإيمان بالبحث عنها، فكما فرضت هذه التكنولوجيا عالمها، حدت مقاييس ومعايير الأذهان التي تتعاطى معها أو تستخدمها وسيلة للتواصل مع آخرين، فالذين يحاولون تفصيل هذه التكنولوجيا على مقاس ذهنيتهم القديمة، وليس العكس، أشبه بمهرجين يحاولون اصطياد الريح بغربال لوضعها في كيس من الورق! هذه الوسائل الحديثة عرَّت الإنسان، جعلته وجهاً لوجه أمام ذاته، ومكشوفاً لدى الآخرين، كان جهلنا في الماضي ساترا لنا وعذرا قد يشفع لصعوبة الوصول للمعلومة. أما الآن، فإن الجهل وصمة عار تلازم جباهنا في عالم تكنولوجي يتخطى قدراتنا وطاقاتنا الفردية، سنظل جاهلين فيه ما عرفنا للسرعة الرهيبة وكمّ المعلومات التي تفيضه هذه التكنولوجيا كل جزء من الثانية، هذه التكنولوجيا قلبت المفاهيم، فليس العالِم الآن فينا يُعرف بمقدار ما يعرف، بل من يعرف مقدار ما يجهل مما يجعلنا جميعاً عالمِيْن جاهلين، لأننا جميعاً ببساطة لا نعرف ما نجهل، ألا يُعد ذلك جمالا مربكا ومدهشا في آن؟! لقد استطاعت وسائل التواصل الحديثة توحيد عرينا أمام منحنا ذات المساحة للحرية لستر جهلنا، فليس لعارف فضل على جاهل سوى بضغطة زر!

back to top