الجمل الأبيض

نشر في 29-01-2018
آخر تحديث 29-01-2018 | 00:00
 فوزية شويش السالم رواية «الجمل الأبيض» - للكاتب الصيني الشاب قراي لايتشيموجي هايخي، المولود في 1975 من قومية منغولية صينية، والذي حققت مبيعات قصصه الملايين، ونال جوائز أدبية رفيعة، وندواته يحتشد لسماعها الآلاف- بطلها بجدارة المكان، الذي أثر على كل مَن يعيش فيه، من إنسان وحيوان ونبات وعادات وتقاليد ومهن وموروثات، المكان هو البراري الذهبية بمنغوليا الصينية.

الكاتب دوَّن قصة حياة المكان، بكل تفاصيله، التي يسبغها على مَن فيه خلال تقلبات الطبيعة ومرور الزمن.

المؤلف عشق مكان طفولته وصباه ونشأته، تشرَّبت حواسه وامتصت تفاصيله، البراري الذهبية الشاسعة الساحرة القاسية بطبيعتها خلال فترة الشتاء، حيث تصل درجة الحرارة إلى 50 تحت الصفر، ويصبح البقاء فيها نوعا من التحدي الشرس. طبيعة المكان حددت نوع التعايش معها، وفرضت نفسها على السكن والملبس والأدوات والتعامل مع القطعان، وحتى الأساطير والتراث، في فهم وتناغم كاملين لكل مَن يعيش فيها، فمن خلال حكاية بسيطة لأحد رعاة المراعي الذهبية وعلاقته بجمله الأبيض تنكشف للقارئ طبيعة مكان وحياة كل مَن فيه، ومَن فيه ليس إلا أبل وخيول وكلاب شرسة وذئاب وثلوج جليدية وحياة قاسية صعبة. ومع بساطة هذه الحكاية وخلوها من الأبطال، وغالبا لا أبطال فيها، إلا أنها رواية تأسر الروح والقلب، خلابة بمعنى الكلمة، ومبهرة ببساطة صدقها وطبيعتها السلسة، تمنيت أن أضع اقتباسات كثيرة منها، ليتمتع القارئ بها.

تولد الإبل البيضاء بسبب نقص الجين المسؤول عن اللون، وهو الميلانين، ويكرهها الرعاة، حيث تكون أهدافا مكشوفة لوحوش البراري.

الراعي «جابو» وُلد له جمل أبيض سماه «تشاجان»، كان والده أيضا جملا أبيض، وهذا النوع قوي وشرس وصعب أن يتآلف مع الإنسان، ويصفه الكاتب بأن وبره الأبيض يرفرف، بسبب الرياح، فيبدو كجبل أبيض صغير وسط الثلوج... وأكثر ما يثير العجب ودهشة الناس هو سنامه الضخم، ولو جلس شخص بين سناميه لخاف أن يغرق بينهما. تعسَّرت أمه في ولادته، وكادت تأكلها الذئاب عندما شمَّت رائحة دمها، لكن الراعي أنقذها، وأخرج الجنين... ومن طبيعة هذه الإبل حين تتعسَّر ولادتها تكره وليدها، وترفض رضاعته، وهنا يأتي دور الراعي «جابو» في العزف لها على آلة كمان مصنوعة من جمجمة فرسه وعظامه، ويعتبر هذا الكمان تحفة تراثية، وتساعده زوجته في غناء تراثي حزين طوال الوقت، حتى يرق قلب الناقة، وتسمح برضاعة الجمل الصغير. وهذا مقتطف جميل يبيِّن ذلك التحوُّل: «أصدرت تلك الأوتار المرتعشة نغمة بدت وكأنها الأنين، وكانت نوعاً من بداية الدخول في ليلٍ أكثر عمقاً وحلكةً، والإتيان بأنواع مختلفة تماماً من الإيقاعات. إن مرحلة المقدمة تلك هي نوع من تخمير العواطف لغناء أفضل، وهي عملية تراثية تدخل في عمق التقاليد والتراث الرعوي. لهذه الأغنية تأثير ساحر، بدت الناقة الأم كالتي سقطت في ماء بحيرة، وتجاهد للخروج منها، تهز رأسها، كأن هناك يداً خفية تهزها، ودخلت في طور عسر التنفس والاختناق. كانت هناك قوة عاتية تضغط عليها. وفي إيقاع تلك الأغنية التي تخطف الأنفاس، والنور الذي لا يراه بعض الناس يسطع فوق المراعي، تقدمت الأم للأمام، وهي تبدو كما لو كانت تنوء بحمل ثقيل، وتقاتل شيئا لا تحتمل قوائمها الأربع ثقله المفرط، وبدأت ترتعش، لا بسبب البرد، فالجمل حيوان قوي الاحتمال، يمكن أن يتحمَّل الحياة في أقسى الظروف. تلاشى الشعور الخاوي الذي تبدَّى في عيني الناقة العنبريتين، وفي تلك اللحظة جاء الجمل الصغير من وراء زوجة جابو».

الناقة بعد أن تتخلص من حزنها النفسي العميق تسقط دمعة كبيرة من عينيها، تبكي بإحساس، فهي لن تؤذي صغيرها مرة أخرى. كنت قد شاهدت فيلما وثائقيا سجل هذه الحالة بكامل تفاصيلها التي عاشها مخرج الفيلم عند الرعاة في منغوليا.

الرواية أيضا تبيِّن التغيُّرات التي طرأت على هذه البراري العظيمة، وقيام الصين بتحديد مراعي البدو فيها بأسيجة، وأيضا محاولة البعض لحفر أراضي البراري بعد شرائها من الرعاة، لاستخراج الفحم، لكن الراعي جابو يرفض بيع مراعيه، وجمله الأبيض يهاجم السائقين، حتى تراجعوا عن الحفر، وأوقفت الحكومة الصينية المشروع، لمنع تلوث البيئة.

رواية رائعة تصلح لكل الأعمار، وتكشف عن طبيعة عالم بعيدة كل البعد عن الحياة المعاصرة.

back to top