رفض التجنيد... في الجيش الإسرائيلي

نشر في 25-01-2018
آخر تحديث 25-01-2018 | 00:08
 خليل علي حيدر في الجيش الإسرائيلي ظاهرة لا نراها ولا نتصورها في الجيوش العربية، وربما الكثير من الجيوش الأخرى، وهي رفض أوامر التجنيد والخدمة العسكرية، والتمرد عليها لأسباب دينية أو دوافع ضميرية أو غير ذلك.

د. محمد صالح حسين، أستاذ اللغة العبرية الحديثة وآدابها في جامعة القاهرة درس الظاهرة وحجمها في الجيش الإسرائيلي دراسة علمية، نشر نتائجها في العدد 172 أبريل 2017 من دورية "عالم الفكر" الكويتية... فماذا وجد؟

يرى الدارسون لموقف الرفض هذا أن دوافعه تختلف من شخص إلى آخر، وتحركه أسباب عقائدية سياسية أو دينية.

ولقد ارتبط رفض تنفيذ الأوامر العسكرية في الغالب، كما يقول الباحث جوفي منصور في مجلة "قضايا إسرائيلية" التي يصدرها المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، "بالخلفية الليبرالية لرافض التنفيذ، فرافضو الخدمة العسكرية يأتون في الغالب من بيئات نخبوية اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ويتمحور رفضهم حول الأخلاق والضمير".

(عدد 22/ 8/ 2013).

وفي كثير من الأحيان، يقول د. حسين "تكون منطلقات رفض التجنيد أو رفض تنفيذ الأوامر العسكرية، أسباباً إنسانية أخلاقية تجمعها ما تسمى حركات "الاستنكاف الضميري"، أو أن الرافض مؤيد للسلم ومعارض للحرب، وفي هذه الحالة لا يتهرب الرافض أو يتحايل للتهرب من العقوبة المقررة في القانون، بل يتحملها، رغبة منه في أن يثبت للآخرين أن دوافعه إنسانية".

وتنقسم أشكال الرفض إلى ثلاثة أنواع: "الرفض المطلق"، ولأسباب تتعلق بمعارضة العنف بما في ذلك الحروب وما يترتب عليها من سفك الدماء، أو لعدم الاتفاق مع سياسة الحكومة التي ينفذها الجيش.

والثاني هو "الرفض الانتقائي"، أي عدم رفض الخدمة بشكل مطلق، فالرافض موافق على أداء الخدمة العسكرية ولكن بشروط، ويأتي الرفض الانتقائي بعدما يشعر الرافض بأن رفضه المطلق للخدمة لا يسهم في تغيير سياسة الحكومة، فأضعف الإيمان ألا يسهم هو كذلك في القضية التي يرفض سياسة حكومته إزاءها. ويحرص الرافض في هذه الحالة على نشر تجربته في الإعلام، لتكوين رأي عام متعاطف، ولحث المزيد من المجندين على اتخاذ موقف مماثل.

ويسمي الباحث النوع الثالث "الرفض الرمادي"، بمعنى أن يرفض الفرد التجنيد دون نشر هذه التجربة في وسائل الإعلام، وحث الآخرين على التمرد.

ويرى الباحثون أن الظاهرة في ازدياد، ففي الثمانينيات كانت النسبة 1.12%، وفي عام 2002 وصلت إلى 9.23% ويقول الباحث "أنطوان شلحت" في المركز نفسه "سلسلة أوراق إسرائيلية"، نوفمبر 2007، إن الظاهرة أثارت "مخاوف كبار العسكريين والساسة الإسرائيليين وأقضت مضاجعهم"، في ضوء الطابع العسكري للمجتمع، ومكانة الجيش والمؤسسة العسكرية فيه.

وفي دراسة أخرى للباحث "أندرياس سبك" في المجلة نفسها، "قضايا إسرائيلية"، شتاء عام 2003، يشير الباحث إلى أن محاولة التهرب من الخدمة العسكرية تصل عقوبتها في القانون الإسرائيلي إلى السجن خمس سنوات، وتجدد العقوبة إذا استمر رفضه، لما للجيش الإسرائيلي من مكانة في المجتمع، ولما له من مكانة في الإجماع الإسرائيلي، ويقول د. حسين إن "مكانة المواطن الإسرائيلي تقاس بعد خدمته الإلزامية في الجيش بالوحدة العسكرية التي خدم فيها، وتزداد مكانته الاجتماعية والوظيفية لو كان مُسَرحاً من إحدى وحدات النخبة".

وتقول ورقة بعنوان "أخلاقيات الجيش الإسرائيلي في الميزان" إن الإعلام يقدم الجيش "على أنه حامي الدولة ورافع شأنها ومكانتها في العالم، وأنه لا يقهر في ضوء الخبرات الواسعة التي اكتسبها في مواجهاته مع جيوش الدول العربية".

ويحرص الجيش في إسرائيل على توثيق علاقته بطلاب المدارس وتكوين صورة إيجابية عن مكانته في أذهانهم، ففي "يوم الاستقلال": يوم "هقسمائوت"، يقول د. حسين، مقتبسا من بحث لـ"أرناكازين"، صيف 2001، إن أطفال الروضات يرسمون الدبابات "ويزينون روضاتهم بأعلام وحدات الجيش، وفي الأعياد الدينية الأخرى تُنقل إلى الطلاب المفاهيم والقيم العسكرية، كما تنظم رحلات مدرسية لمواقع المعارك ومشاهدة تدريبات عسكرية بالذخيرة الحية.

ومن منطلق التقدير للجنود والقادة يرسل طلاب المدارس هدايا كل عام إلى الجنود، أضف إلى ذلك أن بعض المدارس تشترك في دورات إعداد للجندية، كما تستضيف جنودا من وحدات مختلفة لتسويق وحداتهم للطلاب، كما تنظم للطلاب زيارات لمشاهدة المعارض الفنية التي تخلد ذكرى الجنود، وهناك يكتشف الطلاب العلاقة بين الفن والجيش، كل هذا يؤدي إلى تشبع جهاز التعليم بالمفاهيم العسكرية".

ويقول د. حسين، إن مما "يلفت انتباه المطلع على مناهج التعليم في المدارس الإسرائيلية، بجميع مراحلها، التوجه العام القائم على التنشئة التربوية بروح العسكرة والتجنيد، وإعداد الطفل حتى يكبر ليصبح مقاتلاً".

ويضيف الباحث مشيرا إلى ظواهر أخرى، فيقول: "وعلى مستوى آخر، وفي الاتجاه نفسه، يتولى بعض الضباط الكبار مناصب ووظائف إدارية في المدارس بعد انتهاء خدمتهم العسكرية. ومن ناحية أخرى تمول وزارة التربية والتعليم مشروع "تسفتا" الذي يؤهل ضباطا متقاعدين من الجيش وجهاز الأمن الداخلي (شاباك) للعمل مربين.

ولا تقتصر هذه الروح العسكرية على منظومة التعليم فقط، بل تتجاوز ذلك إلى الحركات الكشفية والشبابية في فترة ما قبل التجنيد الإلزامي، بالإضافة إلى التنظيمات الحزبية المختلفة، والنوادي الاجتماعية والثقافية. كل هذه الجهات والمؤسسات تركز على التربية العسكرية. من هنا بات الدمج بين العسكرة والحياة العامة للإسرائيليين ركنا أساسياً في حياة الإسرائيليين، كل هذا عمل على بلورة حالة اجتماعية انسحبت على مختلف مراحل حياة الفرد الإسرائيلي منذ ولادته حتى تجنيده في الخدمة الإلزامية، أي أن كل المراحل الحياتية المنزلية والمدرسية والمجتمعية تعمل كآلة واحدة متناسقة لتحضير الفرد للخدمة العسكرية الإلزامية".

وعن امتدادات الجيش في مجالات البناء والتشغيل والتوظيف يقول د. حسين: "هناك مهام مدنية عديدة وكثيرة أوكلت إلى الجيش، مثل إقامة مستوطنات حدودية للمسرحين، وتشغيل النساء في وظائف مدرسات مجندات في بلدات التطوير، إضافة الى دور الجيش في مجال استيعاب المهاجرين من ناحية، ومن ناحية أخرى برز دوره بوصفه "وعاء انصهار عسكري" لليهود، من خلال عدد من الأنشطة، مثل تعليم العبرية والتاريخ اليهودي للمهاجرين، وعلى هذا النحو يكون دور الجيش هو تسهيل انتقال المهاجر إلى الحالة الإسرائيلية التامة، الأمر الذي طمس الحدود بين المجتمع والجيش.

ترتب على ذلك أن أصبح الجندي الإسرائيلي منشغلا في خدمته العسكرية، فأصبحت الانشغالات الحربية تشغيل حيزا مركزياً في حياته، وغدت عبارة "لكي تكون مواطناً جيداً في إسرائيل يجب أن تخدم في الجيش" هي همزه الوصل بين المجتمع، من ناحية، والمؤسسة العسكرية من ناحية أخرى".

ما أبعاد امتداد الجيش في الاقتصاد والسياسة؟ يقول الباحث إنها واسعة وعميقة، ولكن الباحث لا يتحدث عن غياب الانقلابات العسكرية في إسرائيل!

وسنرى المزيد من الدراسة في مقال قادم.

back to top