حبر و ورق

نشر في 13-01-2018
آخر تحديث 13-01-2018 | 00:02
No Image Caption
الأصل

حدّق البروفيسور روبرت لانغدون إلى الكلب الجالس في الساحة، والذي يقارب طوله أربعاً وأربعين قدماً. كان فراء الحيوان عبارة عن سجّادة حية من الأعشاب والأزهار العطرة.

قال في سرّه: أنا أحاول أن أحبّك، أحاول ذلك حقّاً.

تأمّل لانغدون ذلك المخلوق قليلاً بعد، ثمّ تابع سيره على طول الطريق المعلّق ليهبط شرفة مدرّجة واسعة صُمِّم سطحها غير المستوي بطريقة تدفع الزائر إلى تغيير وتيرة مشيته المعتادة. لقد أُنجِزت المهمّة. كاد يتعثّر مرّتين على الدرجات غير المنتظمة.

وعند أسفل الدرجات، توقّف فجأة، وحدّق إلى شيء ضخم لاح أمامه.

الآن رأيتها بأكملها.

ظهر أمامه تمثال لأرملة سوداء هائلة الحجم، حملت أرجلها الحديدية النحيلة جسماً مستديراً يرتفع نحو ثلاثين قدماً في الهواء. وقد عُلّق ببطن العنكبوت كيس بيوض من الشبك السلكي يحتوي على كرات زجاجية.

قال صوت: «اسمها مامان (الأمّ)».

أخفض لانغدون نظره فرأى أمامه رجلاً نحيلاً يقف تحت تمثال العنكبوت. كان يرتدي شيرواني أسود مزركشاً، ولديه شارب ملتفّ على طراز شارب سالفادور دالي؛ فبدا مظهره كوميدياً إلى حدّ ما.

تابع قائلاً: «اسمي فرناندو، وقد أتيت لاستقبالك في المتحف». ثمّ حوّل الرجل انتباهه إلى مجموعة من بطاقات الأسماء الموضوعة على طاولة أمامه، وسأله: «هل يمكنني الحصول على اسمك رجاء؟».

«بالتأكيد. روبرت لانغدون».

فوجئ الرجل، ونظر إليه مجدّداً ثم قال: «آه، أنا آسف جدّاً! لم أعرفك!».

بالكاد أعرف نفسي؛ فكّر لانغدون في ذلك وهو يتقدّم نحوه بسترته الطويلة السوداء، وقميصه الأبيض، وربطة عنقه البيضاء. أبدو مثل أحد أعضاء مجموعة ويفنبوف. كانت سترة لانغدون الكلاسيكية ترجع إلى ثلاثين عاماً مضت تقريباً، فقد احتفظ بها من أيّام عضويته في نادي آيفي في برينستون. ولكن، بفضل التزامه بنظام السباحة اليومية، ما زالت السترة تناسب مقاسه تماماً. فنظراً لعجلة لانغدون وهو يحزم أمتعته، تناول البذلة الخاطئة من خزانته عوضاً عن بذلته الرسمية المعتادة.

قال: «بحسب الدعوة، ينبغي ارتداء الأبيض والأسود. أرجو أن تكون السترة الطويلة مناسبة».

«السترة الطويلة كلاسيكية! أنت تبدو مذهلاً!». ثمّ سارع الرجل إلى تعليق بطاقة الاسم بعناية على طيّة الصدر في سترته.

قال صاحب الشارب: «إنّه لشرف لي أن ألتقيكَ يا سيّدي. لا شكّ في أنّك زرتنا من قبل».

حدّق لانغدون من بين أرجل العنكبوت إلى المبنى الذي تضيئه الشمس أمامهما، ثم قال: «في الواقع، يحرجني القول إنّني لم أفعل».

تظاهر الرجل بالسقوط من هول المفاجأة. «حقّاً! ألستَ من محبّي الفنّ الحديث؟».

لطالما استمتع لانغدون بتحدّي الفنّ الحديث، لا سيّما استكشاف سبب اعتبار أعمال معيّنة تحفاً فنّية. وكمثال على ذلك، لوحات جاكسون بولوك المرسومة بتقنية التنقيط، وعلب حساء كامبلز لآندي وارهول، والمستطيلات الملوّنة في أعمال مارك روثكو. مع ذلك، كان لانغدون يرتاح أكثر بكثير عند مناقشة الرمزية الدينية في أعمال هييرونيموس بوش أو ضربات فرشاة فرانسيسكو دي غويا.

أجاب لانغدون: «أنا أكثر ميلاً إلى الفنّ الكلاسيكي، وأفضّل دافنشي على دي كونينغ».

«لكنّ دافنشي ودي كونينغ متشابهان جدّاً!».

فابتسم لانغدون قائلاً: «إذاً، من الواضح أنّه عليّ تعلّم المزيد عن دي كونينغ».

«في هذه الحال، أنت في المكان المناسب!». وأشار الرجل بذراعه إلى المبنى الضخم وتابع: «في هذا المتحف ستجد إحدى أجمل مجموعات الفنّ الحديث في العالم! أتمنّى أن تستمتع بزيارته».

أجاب لانغدون: «هذا ما أنويه. غير أنّني أتمنّى فقط لو أنّني أعرف سبب وجودي هنا».

فضحك الرجل بمرح وهو يهزّ رأسه: «شأنك شأن الجميع! مضيفكم متكتّم جدّاً حيال حدث هذه الليلة. حتّى إن موظّفي المتحف لا يعرفون ما يجري. لكنّ الغموض يشكّل نصف المتعة، والشائعات كثيرة! ثمّة عدّة مئات من الضيوف في الداخل، والكثير من الوجوه المعروفة، ولا أحد يدري شيئاً عن برنامج الليلة!».

ابتسم لانغدون، فقلّة هم الأشخاص الذين يملكون الشجاعة لإرسال دعوات في اللحظة الأخيرة لا تتضمّن سوى بعض المعلومات الأساسية: مساء السبت. كونوا هناك. ثقوا بي. كما أنّ عدداً أقلّ من الناس يستطيعون إقناع المئات من كبار الشخصيات بتأجيل كلّ أعمالهم، والسفر إلى شمال إسبانيا لحضور حدث ما.

مرّ لانغدون من تحت العنكبوت، وتابع سيره وهو ينظر إلى اللافتة الحمراء الضخمة التي راحت ترفرف فوق رأسه.

أمسية مع

إدموند كيرش

فكّر لانغدون في سره بمرح: لا شكّ في أنّ إدموند لم يفتقر يوماً إلى الثقة بالنفس.

فقبل عشرين عاماً، كان الشابّ إدي كيرش من بين طلّاب لانغدون الأوائل في جامعة هارفرد. وكان الشابّ ذو الشعر الأملس المسرّح بعناية مهووساً بالكمبيوتر، وقد قاده اهتمامه بالرموز إلى الالتحاق بالحلقة الدراسية التي يعطيها لانغدون: الشيفرات ولغة الرموز. أُعجِب لانغدون كثيراً بذكاء كيرش وبراعته. ومع أنّ هذا الأخير ابتعد لاحقاً عن عالم الرموز القديم وانتقل إلى عالم المعلوماتية البرّاق والواعد، إلّا أنّ علاقة صداقة نشأت بين المعلّم والطالب، وبقيا على تواصل خلال الأعوام العشرين الماضية بعد تخرّج كيرش.

فكّر لانغدون، والآن فاق التلميذ معلّمه بعدّة سنوات ضوئية.

اليوم، أصبح إدموند كيرش شخصية ذائعة الصيت؛ فهو ملياردير وعالم كمبيوتر، وعالم مستقبلي، ومخترع، ورجل أعمال. فقد ابتكر الرجل البالغ من العمر أربعين عاماً مجموعة مذهلة من التقنيات المتقدّمة التي تشكّل قفزات هائلة في مجالات متنوّعة مثل الروبوتات، وعلم الدماغ، والذكاء الاصطناعي، والنانوتكنولوجيا. كما أنّ توقّعاته الدقيقة بشأن التقدّم العلمي كوّنت حوله هالة من الغموض.

خمّن لانغدون أن تكون موهبة إدموند الغريبة في مجال التوقّع نابعة من معرفته الواسعة جدّاً بالعالم المحيط به. فكما يذكر، كان إدموند قارئاً نهماً يقرأ كلّ ما تقع عليه عيناه. لا بل إنّ لانغدون لم يرَ مثيلاً له من حيث شغفه بالكتب وقدرته على استيعاب محتوياتها.

خلال السنوات القليلة الماضية، عاش كيرش بشكل أساسي في إسبانيا، عازياً اختياره لتلك البلاد إلى علاقة حبّ لا تنتهي مع سحر عالمها القديم، وهندستها المعمارية الطليعية، وحاناتها الغريبة، وطقسها المثالي.

كلّ عام، حين يعود كيرش إلى كامبردج لإلقاء محاضرة في مختبر الإعلام في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ينضمّ إليه لانغدون لتناول الطعام في أحد مطاعم بوسطن الجديدة التي لم يسبق له أن سمع بها. وفي تلك اللقاءات، لم تكن أحاديثهما تدور حول التكنولوجيا على الإطلاق، بل كانت الفنون هي الموضوع الوحيد الذي يحبّ كيرش مناقشته مع لانغدون.

وغالباً ما كان يمازحه قائلاً: «أنت صلتي الوحيدة بالثقافة يا روبرت؛ أستاذي الوحيد في عالم الفنون!».

وكانت الإشارة الطريفة إلى وضع لانغدون الاجتماعي ساخرة جدّاً، وتصدر عن شخص عازب مثله أيضاً؛ يرفض الزواج من شريكة واحدة، ويعتبر أن ذلك «إهانة للتطوّر»، لا سيّما وأنّه ظهر على مرّ السنين في صور عديدة مع مجموعة واسعة من عارضات الأزياء.

نظراً إلى سمعة كيرش كمبدع في مجال علوم الكمبيوتر، يسهل تخيّله كشخص مملّ وجدّي مهووس بالتكنولوجيا. إلّا أنّه عوضاً عن ذلك جعل من نفسه أيقونة معاصرة؛ إذ راح يتنقّل في أوساط المشاهير، ويرتدي ملابسه على أحدث طراز، كما كان يصغي إلى الموسيقى الحديثة، ويهوى جمع الأعمال الفنّية الانطباعية والحديثة التي لا تقدّر بثمن. وغالباً ما راسل لانغدون لاستشارته بشأن تحف فنية جديدة ينوي ضمّها إلى مجموعته.

فكّر لانغدون، ثمّ كان يفعل العكس تماماً.

منذ عام مضى تقريباً، فاجأ كيرش لانغدون بسؤال لا يتعلّق بالفنّ، بل بالله. وكان هذا موضوعاً غريباً بالنسبة إلى شخص لا يُخفي إلحاده. هكذا، وأمام طبق من اللحم غير الناضج تماماً في مطعم تايغر ماما في بوسطن، تحاور كيرش ولانغدون حول المعتقدات الأساسية لمختلف الديانات العالمية، لا سيّما رواياتها المختلفة لقصّة الخَلق.

أعطاه لانغدون نظرة عامّة عن المعتقدات الحالية؛ بدءاً من قصة التكوين في الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام، ووصولاً إلى قصّة براهما الهندوسية، وحكاية مردوخ البابلية، وغيرها...

حينها، سأله لانغدون وهما يغادران المطعم: «لكنّني مُستغرب، فما الذي يدفع شخصاً مثلك يهتمّ بالمستقبل إلى الاهتمام بالماضي؟ هل هذا يعني أنّ الملحد الشهير قد وجد أخيراً طريقه إلى الله؟».

فانفجر إدموند ضاحكاً وقال: «مستحيل! أنا أقيس وحسب حجم المنافسة يا روبرت».

ابتسم لانغدون وفكّر في سرّه: هذا نموذجي بالنسبة إليك. «في الواقع، العلم والدين ليسا متنافسَين، بل هما لغتان مختلفتان تحاولان أن ترويا القصّة نفسها. وفي هذا العالم مكانٌ لكليهما».

بعد ذلك الاجتماع، انقطع الاتّصال بين إدموند ولانغدون لمدّة عام تقريباً. ومنذ ثلاثة أيّام، تلقّى لانغدون فجأة مغلّفاً عن طريق فيديكس يتضمّن تذكرة طائرة وحجزاً فندقيّاً ورسالة مكتوبة بخطّ اليد ومُرسَلة من إدموند يحثّه فيها على المجيء لحضور حدث هذه الليلة. وقد كتب في الرسالة: روبرت، سيسعدني كثيراً أن تتمكّن أنت من بين جميع الناس من الحضور. فالأفكار التي زوّدتني بها خلال لقائنا الأخير ساعدت في جعل هذه الليلة ممكنة.

ذُهِل لانغدون تماماً حين قرأ الرسالة. فما من شيء في ذلك الحديث بدا ذا صلة بحدث يستضيفه تلميذه المهتم بالمستقبل.

تضمّن مغلّف فيديكس أيضاً صورة بالأبيض والأسود لشخصين يقفان وجهاً لوجه. وكتب كيرش مقطعاً شعرياً قصيراً للانغدون.

روبرت،

حين تراني وجهاً لوجه،

سأكشف لك المساحة الخالية.

إدموند

ابتسم لانغدون حين رأى الصورة التي كانت تتضمّن إشارة ذكية إلى قضية عمل عليها روبرت قبل بضع سنوات. فقد ظهرت الكأس المبجّلة في المساحة الخالية بين الوجهين.

في تلك اللحظة، وقف لانغدون أمام المتحف وهو يشعر بالتوق لمعرفة ما سيعلنه تلميذه السابق. هبّ نسيم خفيف على ذيل سترته فيما كان يسير على الطريق الإسمنتي على ضفّة نهر نيرفيون؛ الذي كان في ما مضى شريان الحياة لمدينة صناعية مزدهرة، واشتمّ في الهواء رائحة نحاس خفيفة.

وبينما كان لانغدون ينعطف على الطريق المؤدّي إلى المدخل، سمح لنفسه أخيراً بالنظر إلى المتحف الضخم البرّاق. كان من المستحيل رؤية المبنى كله في نظرة واحدة. وعوضاً عن ذلك، جال نظره على طول البناء الطويل والغريب ذهاباً وإياباً.

فكّر لانغدون في سره: هذا البناء لا يكسر القواعد فحسب، بل يتجاهلها تماماً. إنّه بقعة مثالية بالنسبة إلى إدموند.

بدا متحف غوغنهايم في بيلباو بإسبانيا أقرب إلى هلوسة غريبة؛ إذ ظهرت أشكال معدنية مشوّهة تمّ إلصاقها بعضها ببعض بطريقة عشوائية تقريباً، فيما امتدّت كتلة الأشكال الفوضوية وغُلّفت بما يزيد عن ثلاثين ألف بلاطة من التيتانيوم التي راحت تلمع مثل حراشف السمك، مُضفيةً على البناء انطباعاً بأنّه عضوي ومن خارج هذا العالم في الوقت نفسه؛ كما لو أنّ سفينة مستقبلية ضخمة خرجت من الماء لتتشمّس على ضفّة النهر.

عندما تمّ الكشف عن المبنى للمرّة الأولى عام 1997، أشادت صحيفة نيو يوركر بالمهندس المعماري فرانك غيري، وقالت إنّه صمّم «سفينة خيالية رائعة ذات شكل متموّج في عباءة من التيتانيوم». في حين قال نقّاد آخرون في العالم إنّه «أعظم بناء في زماننا!»، وإنه «متألّق!»، و«إنجاز معماري مذهل!».

حامض حلو

«هيبي»، نادى الجدّ.

- «نعم».

خذي هذه الرسائل إلى البريد». كان الرجل العجوز قد جلس في غرفته يكتب رسائله وكأن شيئاً سيئاً لم يحدث، محاولاً ملء وقته بشيٍء مفيدٍ وهو ينتظر وصول حفيداته الكبيرات وأزواجهن. نقر بطرف إصبعه على كومةٍ من الرسائل الموضوعة أمامه، فأخذتها هيبي دون أن يرفع نظره إليها.

-«أغلقي الباب خلفك».

كانت قد سمعته طوال حياتها وهو يقول: «أغلقي الباب»، فقد كان يصاب بالجنون من الأشخاص الذين يتركون الأبواب مفتوحة.

لمحت هيبي وجه جدّها وهي تأخذ الرسائل. كانت ملامحه مزيجاً من ملامح أسلافه الذين تنتشر صورهم في الرواق وغرفة الطعام وفوق الدرج. تساءلت هل سيفاجئه أن تقول له: «أحبك، أشعر بالأسف من أجلك، أفهم كيف تشعر، أيمكنك أن تحاول فهمي لو مرة واحدة؟». لكنها فكرت وهي تمسك الرسائل بأصابعها المرتجفة، يمكنني أن أضربه فقط، أضربه بأقوى ما أستطيع. غادرت الغرفة مغلقةً الباب خلفها. كان يمكن لجدتها المستلقية على الأريكة في الصالة ذات الباب المفتوح أن ترى ما حدث، وقد سمعت الباب يُغلق، لكنها لم تلقَ بالاً.

نزلت هيبي السلالم وخرجت إلى الحديقة. استدارت يساراً فوق العشب المصفرّ بفعل شمس الصيف الحارقة، ومشت بعيداً عن المنزل المبني من الآجر الوردي بنوافذه اللطيفة، واتجهت إلى البستان حيث ستكون بعيدةً عن الأنظار. هناك خلعت حذاءها لتسير حافيةً، وجمعت شعرها خلف رأسها وتبعت الطريق التي تقود إلى فناء الكنيسة، ومن بعد الكنيسة إلى صندوق البريد المعلّق في الجدار.

توقفت في فناء الكنيسة لتشاهد مجموعة من فراشات الأغليس تطير فوق أزهار الربيع المنتشرة بين الأعشاب البرية مستمتعةً بأشعة الشمس بين شواهد القبور. كانت الشواهد تتمايل على الجانبين. «سيتقلّب أبواك في قبريهما»، ردّد جدّها عدة مرات، فقد كانت لديه عادة التكرار. هل يتقلب الناس الجاثمون في قبورهم تحت هذه الأحجار لأنهم أيضاً مرّوا بعلاقةٍ مع امرأة سيّئة؟ كان تعبير سيّئة تعبيراً لطيفاً مقارنة بـ: مومس، كاذبة، مخزية، فاسقة. تأمّلت هيبي شواهد القبور وهي تشعر بالخدر؛ كانت منهكةً بسبب الشجار الذي أخذ يتّقد بين حينٍ وآخر منذ عادت من زيارة الطبيب وحملت الأخبار التي قادت إلى الاستجواب الطويل، والتعليقات المؤلمة، والاتهامات. لوت أصابع قدميها، وغطت وجهها بشعرها الطويل. هنا في فناء الكنيسة إذا جلس الشخص وقتاً كافياً، فمن الممكن أن يرى قنفذاً في بعض الأحيان وضفادع الطين غالباً. قطفت هيبي رؤوس أزهار الربيع، ودستها بين أصابع قدميها لتختبر الإحساس الذي يسببه ذلك ولم يكن ذاك الإحساس مريحاً. نظرت من خلال نظارتها إلى النقش الموجود على الشاهد بجانبها وتتبعته بأصابعها: «مات أداءً للواجب». الأحمق المسكين، قالت في نفسها، مستخدمةً تعبيراً من التعابير التي يردّدها أحد أصهارها. تناولت أزهار الربيع من بين أصابع قدميها ووضعتها على القبر. إنّ هذا كثيرٌ على الواجب. نهضت وبدأت العودة إلى المنزل عبر طريقٍ غير مباشرةٍ توقفت خلالها في فناء الإسطبل. علا صهيل فرس جدها من داخل الزريبة الوحيدة المستخدمة لتربية الخيل. فاتجهت نحوها لتمسد الأنف الناعم وتشم أنفاس الحيوان الجميلة. نفخت في منخري الفرس. «كيف حالك؟». تململت الفرس، وركلت بساقها للخلف. شاهدت هيبي في زاوية الزريبة معزاةً تنظر إليها بعينيها المشقوقتين غريبتي الشكل.

«ستعتادها شريكةً لها». قال عامل المزرعة وهو يقف إلى جانبها ويحمل دلواً فيه ماءٌ نظيف.

-«ماذا حدث لمهرها؟».

«لقد كان بغلاً صغيراً، لم يكن جدك سعيداً به».

-«كيف حدث هذا؟».

«لا بد أنها حين هربت وعبرت السياج قد التقت أحد حمير الغابة، على ما أظن». قال ذلك وهو يضحك ويضع الدلو في زاوية الزريبة. أرجعت الفرس أذنيها للخلف في حركة عدائيّة. «إذاً»، قال العامل، وهو يخرج بسرعة ويغلق باب الزريبة بالرتاج، «ستنسى سريعاً». راقبته هيبي باشمئزاز وهو يبتعد. «تعالي هنا»، نادت على المعزة، «أرسلي هذه». اختطفت المعزاة الرسائل من يدها وبدأت تمضغها. عادت هيبي لتخاطب الفرس:

«إذاً، فقد قتل مهرك، إنّه يحضّر إجهاضاً لي».

تناهت إلى سمعها أصوات سياراتٍ من جهة الطريق كانت أصوات سيارات أصهارها: روبرت، وديليان، وماركوس المتزوجين بأخواتها: آن، وبيتيا، وكارا، وهـم يقودون سياراتهم: الجاكوار والرانج روفر (من الواجب شراء السيارات البريطانية) والألفا روميو (لا بأس باقتناء سيارةٍ أجنبيّة إن كنت قد عملت في بروكسل). غادرت هيبي فناء الإسطبل بسرعة وانسلت عائدة إلى المنزل لتّتخذ موقعاً لها في الرواق، حيث يمكنها أن تستمع لنقاش من هم أكبر وأكثر وعياً وخبرةً منها في الاجتماع الشكلي الذي يعقدونه للتصديق على ما اتّفقوا عليه مسبقاً. لفّت تنورتها حول ركبتيها وجلست على الدرج. تحدّثوا عن كل علاقاتها بصراحةٍ ووضوح - لم يكن من الضروري أبداً أن يطلب منهم تجنّب التكتم - وبما أن جديها كانا يعانيان من مشكلةٍ في السمع، حاول الجميع أن يرفعوا أصواتهم قدر الإمكان أثناء الحديث.

كانوا يتناولون شراباً. فقد سمعت قرقعة الكؤوس إضافةً إلى جرجرة أقدام، وصرير الكرسي أثناء جلوس جدّها. «حسناً، إذاً». دخل كلب الجدّ العجوز من الشرفة حيث كان يستلقي طوال ما بعد الظهر عبر الرواق وخربش على باب الصالة. «دعوا الكلب يدخل». قال الجدّ، ومن الفور فُتح الباب ودخل الكلب. انتظر الجدّ حتى أغلق الباب وكرّر، «حسناً، إذاّ»، بدأ روبرت، زوج الحفيدة الكبرى، الاجتماع عندئذٍ.

أولاً وقبل كل شيء علينا أن نحمي اسم العائلة، قال روبرت منبّهاً، ثم تابع حديثه فاقترح اللجوء إلى عيادة خاصّة. صحيحٌ أن هذا سيكون مكلفاً، لكن الكلفة تتناسب مع حجم الأمر الذي نتعامل معه سريعاً. لذلك، لن تضيع سدىً.

ثانياً، رغم أنّ هذا أقلّ أهميّةً بالطبع، فإنّهم كلمّا أسرعوا بالتصرف، أصدر روبرت سعالاً قبل أن يكمل حديثه، قلّ الخطر الذي يحدق بدائرته الانتخابية أو بمصرف ماركوس (فأعضاء مجالس الإدارة كانوا أناساً تقليديّين). سمعت هيبي صوت ديليان يتدخل في الحديث: «أليس علينا أن نفكر في وسائل أخرى؟»، كان صوته مشوباً بالتردّد وهو يحاول التعبير عن وجهة نظرٍ مختلفة ربّما، «إنّ هذه الحالة تحدث في مختلف أنواع العائلات، فهي تحدث بين الفنانين، وحتّى في عائلات السياسيين».

- «نحن في ورطة، ديليان. لو أننا عرفنا من يكون هذا الرجل، إذا جاز التعبير، حسناً، كان يمكن أن نسوّي الأمر. أمّا الآن، بهذا الوضع، فإنه ليس لدينا حلّ. ليس هناك أمل في أن تحصل على دعم. وإذا تركنا الوضع يستمر على ما هو عليه فلن يكون هذا حلاً في المبدأ».

back to top