الاقتصاد العالمي والتعافي المحفوف بالمخاطر

نشر في 15-12-2017
آخر تحديث 15-12-2017 | 00:27
 بروجيكت سنديكيت قبل عام كامل، توقعت أن يكون الجانب الأكثر تميزاً في عام 2017 هو عدم اليقين، والذي تغذى على انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، والتصويت في المملكة المتحدة للخروج من الاتحاد الأوروبي، بين أمور أخرى، وبدا الأمر كأن اليقين الوحيد هو عدم اليقين، وأن المستقبل قد يُصبِح مكاناً فوضوياً جداً.

ورغم أن عام 2017 لم يكن عاماً عظيماً بشكل خاص، فإنه كان أفضل كثيراً مما خشي كثيرون، فقد أثبت ترامب كل التوقعات بشأن أنه شخص متحذلق غريب الأطوار، وكل من انتبه فقط إلى تغريداته المتلاحقة ربما يتصور أن الولايات المتحدة تتأرجح بين حرب تجارية وحرب نووية. فقد يهين ترامب السويد في يوم، ثم أستراليا في اليوم الذي يليه، ثم الاتحاد الأوروبي، ثم يدعم النازيين الجدد في أميركا، وينافس بعض أعضاء حكومة الأثرياء بقيادته بعضاً، عندما يتعلق الأمر بتضارب المصالح، وانعدام الكفاءة، والسفاهة.

كما شهد العام بعض الانتكاسات التنظيمية المقلقة، وخصوصاً فيما يتعلق بحماية البيئة، إضافة إلى الأفعال العديدة المدفوعة بالكراهية التي ربما حرضها تعصب ترامب، ولكن حتى الآن كانت التركيبة التي تتألف من انعدام كفاءة المؤسسات الأميركية وإدارة ترامب تعني أن هناك فجوة متزايدة الاتساع (لحسن الحظ) بين خطاب ترامب القبيح وما تمكن من إنجازه بالفعل.

الأمر الأكثر أهمية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي هو أن العالَم لم يشهد نشوب حرب تجارية، وباستخدام سعر الصرف بين المكسيك والولايات المتحدة، كمقياس، يتبين لنا أن المخاوف حول مستقبل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية انحسرت وتبددت إلى حد كبير، حتى مع توقف المفاوضات التجارية، غير أن جعبة ترامب لا تخلو من المفاجآت أبداً: فربما يكون 2018 العام الذي تنفجر فيه أخيراً القنبلة اليدوية التي ألقاها ترامب على النظام الاقتصادي العالمي.

يشير بعض المراقبين إلى الارتفاعات غير المسبوقة التي سجلتها سوق الأوراق المالية (البورصة) في الولايات المتحدة، باعتبارها دليلاً على معجزة اقتصادية تحققت على يد ترامب، وأنا أعتبر هذا، جزئياً، دليلاً على أن التعافي الذي دام عقداً من الزمن، بعد أزمة الركود العظيم، بدأ يُحدِث الأثر المرغوب أخيراً، فكل انكماش- حتى الأشد عمقاً- يبلغ منتهاه في آخر الأمر؛ وكان ترامب محظوظاً بأن يكون في البيت الأبيض في الوقت المناسب، ليستفيد من عمل سلفه في إعداد المشهد.

ولكني أعتبر هذا دليلا أيضاً على قِصَر نظر المشاركين في السوق، نظراً لارتفاع معنوياتهم، ترقباً للتخفيضات الضريبية المحتملة والأموال التي قد تعود مرة أخرى للتدفق إلى وول ستريت، «لو تمكنا فقط من استعادة عالَم 2007»، ولكنهم يتجاهلون ما تلا ذلك في عام 2008- أسوأ انكماش في 75 عاماً- وما جلبته التخفيضات الضريبية السابقة لفاحشي الثراء من عجز في الميزانية، واتساع فجوة التفاوت بين الناس.

لقد استهتروا بمخاطر التراجع عن العولمة التي فرضها نزوع ترامب إلى فرض تدابير الحماية، وهم لا يرون أن إقرار التخفيضات الضريبية الممولة بالدين، التي يقترحها ترامب، يعني أن بنك الاحتياطي الفدرالي لا بد أن يلجأ إلى رفع أسعار الفائدة، فيؤدي هذا إلى إطلاق عملية تصحيح للسوق.

بعبارة أخرى، يعود السوق مرة أخرى إلى إظهار ميله إلى التفكير القصير الأمد والجشع الخالص، ولا يبشر أي من هذا بخير للأداء الاقتصادي البعيد الأمد في أميركا؛ كما يشير إلى أنه في حين قد يكون 2018 عاماً أفضل من 2017، فإن الأفق لا يخلو من مخاطر كبيرة.

والصورة مماثلة في أوروبا، فلم يخلف القرار الذي اتخذته المملكة المتحدة بالخروج من الاتحاد الأوروبي، الأثر الاقتصادي الهائل الذي توقعه أولئك الذين عارضوا القرار، وهو ما يرجع إلى انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني، ولكن بات من الواضح بشكل متزايد أن حكومة رئيسة الوزراء تيريزا ماي لا تعمل وفقاً لرؤية واضحة حول كيفية إدارة انسحاب المملكة المتحدة، أو حول علاقات المملكة مع الاتحاد الأوروبي بعد الخروج.

وهناك خطران آخران محتملان ربما يواجهان أوروبا: الأول أن البلدان المثقلة بالديون مثل إيطاليا ستجد صعوبة كبيرة في تجنب الأزمة، بمجرد عودة أسعار الفائدة إلى مستويات أكثر طبيعية، وهو ما سيحدث حتماً، فهل من الممكن حقاً أن تحافظ منطقة اليورو على أسعار فائدة لم يسبق لها مثيل في الانخفاض، بالمستقبل المنظور، حتى مع ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة؟

وتشكل المجر وبولندا تهديداً أشد لوجود أوروبا، فالاتحاد الأوروبي أكثر من مجرد ترتيب اقتصادي مريح، فهو يمثل اتحاداً بين دول ملتزمة بقيم الديمقراطية الأساسية؛ القيم نفسها التي تستخف بها الآن الحكومتان المجرية والبولندية.

الواقع أن الاتحاد الأوروبي يخضع لاختبار حقيقي الآن، ولا يخلو الأمر من مخاوف راسخة من أن يتبين أنه يفتقر إلى الكفاءة حقاً، وربما تكون التأثيرات المتخلفة عن هذه الاختبارات السياسية على الأداء الاقتصادي في العام المقبل ضئيلة، ولكن المخاطر في الأمد البعيد واضحة ومروعة.

على الجانب الآخر من العالَم، تعمل مبادرة الحزام والطريق، التي قدمها الرئيس الصيني شي جين بينغ، على تغيير الجغرافيا الاقتصادية لأوراسيا، وتضع الصين في المركز، وتوفر حافزاً كبيراً للنمو على مستوى المنطقة بالكامل، ولكن يتعين على الصين أن تواجه تحديات عديدة وهي تمر بمرحلة انتقالية معقدة من النمو القائم على التصدير إلى النمو المدفوع بالطلب المحلي، من اقتصاد التصنيع إلى اقتصاد قائم على الخدمات، ومن مجتمع ريفي إلى مجتمع حضري. كما تشهد الصين شيخوخة سكانية سريعة، وقد تباطأ النمو الاقتصادي بشكل ملحوظ، وتشير بعض التقديرات إلى أن فجوة التفاوت بين الناس تكاد لا تقل اتساعاً عن نظيرتها في الولايات المتحدة، التي تحتل رابع أعلى مرتبة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (بعد المكسيك، وتركيا، وتشيلي). ويفرض التدهور البيئي تهديداً متنامياً على صحة البشر ورفاهيتهم.

كان النجاح الاقتصادي غير المسبوق في الصين، على مدار العقود الأربعة الماضية، مستنداً جزئياً إلى النظام الذي بموجبه قامت كل مجموعة من الإصلاحات على مشاورات عريضة وبناء الإجماع داخل الحزب الشيوعي الصيني والدولة الصينية، فهل ينجح تركيز شي جين بينغ للسلطة في اقتصاد متزايد الحجم والتعقيد؟ لا شك أن نظام القيادة والسيطرة المركزية غير متوافق مع سوق مالية بحجم الصين وتعقيدها؛ وفي الوقت نفسه، نعلم إلى أين قد تقود الأسواق المالية غير المنظمة بالشكل الكافي أي اقتصاد.

غير أن هذه كلها مخاطر بعيدة الأمد، أما عن عام 2018، فبوسعنا أن نراهن بأمان على أن الصين ستتمكن من تدبر أمورها، وإن كان ذلك بالاستعانة بنمو أبطأ قليلاً.

باختصار، مع تراجع الركود الذي شهدته الاقتصادات المتقدمة بعد عام 2008، تبدو الآفاق العالمية في عام 2018 أفضل قليلاً من عام 2017، وسيعمل التحول من التقشف المالي إلى موقف أكثر تحفيزاً، على الحد من الحاجة إلى سياسات نقدية متطرفة، والتي يكاد من المؤكد ألا تكون خلفت تأثيرات تشويهية على الأسواق المالية فقط، بل على الاقتصاد الحقيقي أيضاً.

لكن تركيز السلطة في الصين، وفشل منطقة اليورو (حتى الآن) في إصلاح بنيتها المعيبة، وازدراء ترامب سيادة القانون الدولي، ورفضه الزعامة العالمية الأميركية، والأضرار التي ألحقها بمكانة الديمقراطية، كل هذا يفرض مخاطر أشد عمقاً، بل يهدد بإيذاء الاقتصاد العالمي، وأيضاً إبطاء ما بدا حتى وقت قريب كأنه مسيرة حتمية نحو المزيد من الديمقراطية للعالم أجمع، ولا ينبغي لنا أن نسمح لنجاح قصير الأمد بدفعنا إلى الاستسلام للشعور بالرضا عن الذات.

*حائزٌ جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت.

«جوزيف ستيغليتز*» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top