اليمن... والسيناريو المفقود

نشر في 10-12-2017
آخر تحديث 10-12-2017 | 00:12
 ياسر عبد العزيز حاول اليمن الخروج من زمن القبيلة، لكنه تعثر في اختلالاته المستديمة، وسعى إلى أن يدخل عصر الدولة، فباء بالإخفاق؛ ليقرر الإقامة مراوحاً بين أعباء تقليدية ذهب خيرها وبقي شرها من جهة، واستحقاقات حداثة لم يف بتكاليفها وشروطها من جهة أخرى.

لا يمكن تحليل أبعاد الأزمة اليمنية، بعد أحد أكثر فصولها إثارة، من دون الإشارة إلى الخلل المستديم في هذا البلد، الذي يحمل كل عربي له الكثير من التقدير والود.

الأزمة التي يعيشها اليمن راهناً ليست سوى أحد فصول إخفاقه في بناء نظام حكم مستقر، وآلية تداول سلمية للسلطة، ومشروع تنمية متماسك، وطريقة لإدارة شؤونه الخارجية، تبقيه بمعزل عن التدخلات والاستباحة.

في الأسبوع الماضي، اغتال الحوثيون الرئيس السابق علي عبدالله صالح، لتُفتح عشرات الأبواب على مستقبل غامض، يتخاطف فيه المتصارعون ما بقي من أمل في استعادة هذا البلد، ووضعه على السكة الصحيحة.

في عام 2008، أجرى صالح حواراً مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، تناول فيه آخر التطورات التي تشهدها بلاده، وهو الحديث الذي قلل فيه من شأن الحديث عن توريث الحكم لنجله أحمد، مشيراً إلى أنه نصحه بـ"عدم الترشح لمنصب الرئاسة عند انتهاء فترة الرئاسة الأخيرة عام 2013"، شفقة عليه من التحديات والصعوبات الكبيرة التي يواجهها من يتولى هذا المنصب.

لم يدم حكم صالح إلى عام 2013، إذ تمت الإطاحة به قبل ذلك بعامين، وهو أمر جاء عكس توقعات كثيرين من الذين اعتبروا أن نجاحه في البقاء على رأس الجمهورية اليمنية لأكثر من ثلاثة عقود، بمنزلة برهان على دهائه وقدرته الفذة على مغالبة الصعاب وتطويع الظروف لخدمة سلطته.

كان صالح، بدهائه وحنكته وقدرته الواضحة على التلاعب بخصومه وتسخير أعدائه لخدمة بقائه، موضوعاً للإعجاب، حتى بين بعض مناوئيه ومبغضيه.

في تلك المقابلة المهمة وصف صالح الصعوبات التي يواجهها، بحكم منصبه كرئيس لليمن، وصفاً بديعا؛ إذ رأى أن "حكم اليمن كان دوماً مهمة صعبة أشبه بالرقص على رؤوس الثعابين".

هو "الراقص مع الثعابين" إذاً كما يرى، لكن زعيماً مهماً آخر، ظل تأثيره واضحاً في السياسة اليمنية لفترة طويلة، هو الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر القائد القبلي والسياسي، كان قد سئل عن رأيه في إعادة انتخاب الرئيس صالح، في الانتخابات الرئاسية اليمنية، التي جرت في سبتمبر 2006، فأجاب الرجل بقوله: "جِنّيّ نعرفه، ولا إنسي ما نعرفه".

لا يوجد أي تناقض في الوصفين... فقد كان صالح ببساطة "جنياً يرقص على رؤوس الثعابين".

لا يخدم الدولة أن يكون رئيسها "جِنّيّا"، ولا ينفعها أن يكون "راقصاً على رؤوس الثعابين"؛ أو هذا على الأقل ما أخبرتنا به تجربة علي عبدالله صالح، الذي لم ينجح في تأمين دولته ولا حكمه، ولا منح شعبه استقراراً، أو تنمية، أو مؤسسات، أو آلية محترمة لتداول السلطة، أو مستقبلاً.

يقول المثل اليمني، الذي يبدو أن صالح لم يدركه أو يأخذه في الاعتبار: "نهاية المُحنّش للحنش"، وهو مثل يعني أن هذا الذي يروض الأفاعي، ظناً منه أنه قادر على تحييد سمومها، لا محالة سيموت بلدغة منها.

كان هذا ما حصل، فقد تحالف صالح على مدى عقود حكمه الممتدة، مع الروس، والأميركيين، وصدام حسين، ودول الخليج، و"الإخوان"، والحوثيين، والشيوعيين، والقبائل، والإرهابيين، وانقلب عليهم جميعاً، في إيقاعات متفاوتة، ضمن رقصة لم تنته أبداً مع "الحنشان".

يبقى أن الحوثيين، كجزء من الأجندة الإيرانية، لم يدركوا مثلاً فارسياً لا يقل أهمية، يقول: "لا تفتح باباً لا تستطيع إغلاقه".. وهم فتحوا باباً عصيا على الإغلاق، ومنه ستأتي رياح بغيضة، قد تعصف بهم، وتخلخل سلطتهم.

لم يعد اليمن قادراً على اجتراح سيناريو لنفسه، وبسبب القابلية الكبيرة للتدخلات الخارجية، وتبدد قدرته على بناء قراره الوطني، وتناحر القوى السياسية الفاعلة فيه، وتجيير إرادتها لمصالح إقليمية ودولية، باتت الخيارات محدودة.

فما السيناريوهات المتوقعة لليمن في أعقاب مقتل صالح؟

السيناريو السعودي- الإماراتي

في هذا السيناريو ستنجح السعودية والإمارات في الاستفادة من العداء الذي خلفته موقعة قتل صالح بين الحوثيين من جانب، وقواعد المؤتمر الشعبي، وأنصار صالح، وطبقة الموظفين الحكوميين، وبعض القبائل، وقطاعات من الجمهور، من جانب آخر، وسيتم تكثيف القصف، بعدما باتت صنعاء على لوحة "التنشين" والاستهداف، وغيرها من المدن والمناطق التي يسيطر عليها الحوثيون.

وبالتئام قوة الرئيس هادي، وقواعد المؤتمر، مع الغضب القبائلي والشعبي، تحت مظلة العمل العسكري المركز من قوات التحالف، سيمكن بناء استراتيجية جديدة على قيادة من بيت صالح أو من قواعد المؤتمر، وهو أمر قد يفضي إلى هزيمة مرحلية للحوثيين، تعيدهم إلى حصونهم في صعدة، وتُبقي البلد رهناً للحرب الأهلية متفاوتة الحدة.

السيناريو الإيراني

في هذا السيناريو ستعمد إيران إلى تجميد الوضع على الأرض، عبر تقوية حلفها مع الحوثيين، وإمدادهم بأسباب جديدة للقوة والتمركز، من خلال بعض الدعوات للتهدئة والتفاوض، وفي ظل تكاليف الحرب المرهقة التي يتكبدها التحالف، سيمكن الوصول إلى اتفاق يبقي سلطة الحوثيين القائمة على القهر والقوة الغاشمة كسلطة أمر واقع. ويتم توزيع مراكز النفوذ على القوى التقليدية الأخرى، من دون حسم للصراع.

سيناريو الفوضى

في هذا السيناريو ستتكفل نزعات الثأر، وطاقة العنف المتبادلة، والتغطية الإقليمية للعدوان بين الأطراف المتصارعة، في إبقاء الصراع على حالته، أو أخذه إلى آفاق أكثر حدة.

كما ستدخل أطراف أخرى متربصة لتؤدي أدواراً في إذكاء الصراع.

يمكن تسمية هذا السيناريو أيضاً بسيناريو الحرب الأهلية، التي ستجعل هذا البلد عنواناً للفوضى.

يغيب عن تلك السيناريوهات سيناريو الإرادة الوطنية، التي يمكن أن تقود البلاد إلى هدنة، يتم بناء نظام سياسي مؤقت في ظلها، بما يفضي إلى انتخابات، وتأسيس جديد للدولة.

هذا هو السيناريو الأفضل بطبيعة الحال، والأكثر ابتعاداً عن الواقع في آن.

* كاتب مصري

back to top