حبر و ورق

نشر في 02-12-2017
آخر تحديث 02-12-2017 | 00:02
No Image Caption
متاع

وجهها الطفولي البريء الذي يشبه فلقة القمر ليلة اكتماله لا يكاد يفارقني... عيناها الواسعتان تتلألآن كنجمتين مضيئتين في عتمة أيامي... خداها المكتنزان كأنهما تفاحتان بلون شقائق النعمان... تلك الابتسامة الملائكية التي تكشف عن صفيّ لؤلؤ سحرت لبيّ... نظراتها الخجلى التي حارت فيها روحي، حضورها الطاغي، روحها المرحة، وكأن الفرح استقى بهجته من دماثة خلقها...

لا أستطيع أن أستلّ نفسي من التفكير فيها على الدوام، وفي بشرتها البيضاء الناعمة، وشعرها المسترسل الذي يحلو لي أن أغمر وجهي فيه؛ لأشتمّ رائحة عطرها، وأنعم بدفئها.

ياااه... أحقاً سنلتقي؟! مرّ زمن طويل جداً قبل أن أروي قلبي المُعَنّى بنظرة من مقلتيها.

شعرتُ وأنا أذرع الممرّ الطويل المؤدّي إلى غرفة استقبال الزوّار، والتي تقع في المبنى المقابل القريب من البوابة الرئيسية، أنني أسافر عبر الزمن، وأقطع المسافة من زهرة شبابي، وسِنِيّ عمري التي قاربتْ الأربعين.. بدأتُ أتمتم بصوت مكتوم كلمات (نزار):

أحبّكِ جداً

وأعرف أن الطريق إلى المستحيل طويل

وأعرف أنك ستُّ النساء، وليس لديّ دليل

وأعرف بأني أعيش بمنفى وأنتِ بمنفى...

وبيني وبينكِ

ريح وبرق وغيم ورعد وثلج ونااار

أعرف أن الوصول إلى عينيكِ وهمٌ

وأعرف أن الوصول إلى شفتيكِ انتحار..

ويسعدني...

– الزيارة نص ساعة بس.

قطع صوت العسكري الذي يقتادني ممسكاً ذراعي باتجاه غرفة الزوار عليّ أشواقي.. وقفنا أمام باب حديدي، يتوسطه مزلاج كبير، ثبتتْ عليه أقفال ثقيلة من طراز قديم، وسلاسل كبيرة غليظة.. لم يعد يفصل بيني وبينها غير هذا الباب!

تَسَمّرْتُ في مكاني.. أبتْ قدماي أن تتقدما.. بدأتْ خطواتي تتثاقل.. جثوتُ على ركبتي، ورفعتُ يديّ المكبلتين بالقيود، وكأنني عبد انحنى أمام مولاه يرجوه الرجاء الأخير قبل أن ينفّذ حكم الموت فيه:

– أرجوك تشيل الكلبشات من يدي قبل أن أدخل الغرفة، أول مرة أحد يزورني، وما أبي أطلع جدامهم كني متهم...

لم ينبس العسكري ببنت شفة، ولم يلتفتْ إلى توسلاتي وهواني.. بل سحبني من ياقة قميصي بكل ما أوتي من قوة وشراسة، حتى شعرتُ أن القميص تحوّل إلى حبل التفّ حول عنقي!

نظر إليّ بقسوة.. أحسستُ كأن عينيه قد تحولتا فجأة إلى سياط تلسع ظهري، أردف بسخرية واضحة:

– متهم! لا يكون على بالك نازل بفندق؟! أنت متهم يالحبيب وحرامي ونصّاب بعد!

زجّ بي داخل الغرفة الفسيحة بعد أن فتح قفل بابها الحديدي.. خِلْتُ من قوة دفعه لي أنني أطير في الهواء.. خشيتُ أن أرتطم بالطاولة الموضوعة وسطها.. فقدتُ توازني للحظات.. ثم انتصبتُ واقفاً، وقد حزّ القميص على رقبتي السمراء تاركاً خطاً أحمر.. فَكّ قيدي وتركني بعد أن أعاد قفل الباب مرة أخرى.

بنظرة خاطفة أَجَلْتُ بصري في المكان.. غرفة فسيحة تتوسطها طاولة مربعة الشكل وكرسيان خشبيان.. تُشبه تلك التي تظهر في الأفلام البوليسية..

لا نوافذ في الغرفة ولا مَسْرَب للنور، كوجه امرأة عجوز أحكم الزمن عمله فيه؛ فماتت فيه الحياة.. حمدتُ الله في سري أن حبيبتي لم تكن داخلها لتشهد على وضعي المزري، أنا الذي كنتُ معتزاً بنفسي.. لم تشهد على كبريائي وهو يُمْتَهن...

وضعتُ يدي على ما تبقّى من شعر في فروة رأسي أحاول أن أمشطه بكفي.. هندمتُ ملابسي..

– لقد استجابتْ لندائي ورسائلي وتوسلاتي أخيراً...

قلت لنفسي وأنا ألمّع حذائي المتسخ بطرف بنطالي. مذ أُودِعْتُ السجن وأنا أكتب لها كل أسبوع راجياً أن ترحم ضعفي وغربتي ووحدتي.. هي الوحيدة التي تستطيع أن تنتشلني من مستنقعي هذا الذي وضعتُ نفسي فيه؛ لأستعيد السلام مع روحي المثقلة بالهموم...

رَضَخَتْ أخيراً... لم أتوقع زيارتها... كل ما كنت أرجوه أن ترسل لي برسالة ورقية تقول لي فيها إنها ما زالت تحبني... وإنها مازالت رغم كل ما فعلته بها تشتاقني... وإنني حبيبها الذي لم تفكرْ ولن تفكّرَ في غيره...

لا أكاد أصدق أنها هنا... وأنني على مسافة دقائق لألتقيها.. بدأتْ أنفاسي تتصاعد.. بَدَتْ لي الثواني ثقيلة، لكن فرحة لقياها هوّنتْ عليّ دقائق الانتظار الطويلة..

– سأروي قلبي وعقلي وروحي ورئتيّ منها.

لم يعد لي من أمل في هذه الحياة سوى أن أراها.. أن أعانقها.. أن أبكي على صدرها كطفل صغير، أريد أن أحتضنها فحسب.. أن تكون بين ذراعي.. أن أشعر بالسكينة وهي معي.. أملي أن أسكنها من جديد..

فُتِح الباب!! تعلقتْ عيناي به.. استويتُ واقفاً.. ازدادتْ دقات قلبي حتى ظننتُ أنه سيقفز من صدري إليها.. رأيتها تدلف إلى الداخل بعباءتها السوداء.. يرافقها العسكري الذي نظر إليّ شزراً موجهاً سبابته نحوي وكأنه يطلق رصاصة باتجاهي:

– ثلاثين دقيقة بس وراح أرجع آخذك.. وأغلق الباب منتظراً خارج الغرفة.

تبدّلتْ الأرض غير الأرض.. شعرتُ وكأن المكان تحول فجأة إلى حديقة غَنّاء مفروشة بألوان زاهية من الورود. (ملاكي) أمامي!

صمتٌ مقيتٌ يطبق على شفتي فيمنعني من النطق.. أريد أن أصرخ.. أن أرقص.. أن تسمع الدنيا كلها نبض سعادتي.. لكنني لم أستطع الكلام.. حقاً عندما نلتقي المحبوب لا يمكن للكلمات أن تختصر الفرحة التي في أعماقنا وتَصُفّها في حروف؛ لأن الفرح أكبر من أن تحتويه الكلمات.. وكأنما أصابني البكم.. لم أعرف ماذا أقول؟

كسرتْ هي حاجز الصمت بإلقائها التحية:

– السلام عليكم، شخبارك يا خالد؟

يا لهذا الصوت العذب الذي افتقدته منذ سنوات.. كم كان يطربني سماعه عندما كانت تغني لي في أيام حبنا الأولى.. انساب صوتها دافئاً كأغنية حب لـ (كاظم) في ليل شتوي بارد..

– الحمد لله. أجبتُ باضطراب واقتضاب.

ازداد سكوني وصمتي.. كشفتْ هي عن غطاء وجهها فإذا بالشمس تشرق على روحي من جديد.. ما أروع ذلك الوجه الذي تكشف ملامحه عن روعة قلب صاحبته...

تأملتُ عينيها المرسومتين بدقة وقد أضفى خط الكحل عليهما جاذبية وسحراً.. وجنتيها الموردتين كزهرة بديعة تفتّحت للتو.. ابتسمتْ لي فخلع قلبي رداء حزنه الأسود.. وصارتْ الدنيا كلها ملك يميني!

تقدمتُ نحوها بخطوات بطيئة.. لم تكن الكلمات لتعبر عن شعور قلبي وأنا معها.. أنا لا أحتاج لمفردات اللغة كلها.. وحده صدرها من أحتاج إليه.. أريد أن أحتضنها!

تجرّأتُ أكثر.. باغتُّها فأمسكتُ بيديها الناعمتين.. وعيناي لا تفارقان عينيها.. لم تمانع؛ فانْهلتُ تقبيلاً على كفيها الغضتين.. قَبّلْتُهُما قبلة طويلة بطيئة ضَمّنْتُها كل أشواقي وأوجاعي وآلامي..

شعرتُ وكأن حزني انقشع، وأمطرتْ سحائب الحب على حياتي من جديد..

وتحوّلتُ إلى طير يهيم في سماء الغرام! لكن روحي المتعطّشة لم ترتوِ بعد، لم تكتفِ من هذا الحب.. رفعتُ بصري.. فالتقتْ نظراتنا!

للعيون لغة خاصة لا يعرفها إلا العشّاق والمتيّمون! نعم إن العيون تتحدّث، وتتعاتب، وتعشق، ولذا نحن نتكهّن مزاج الحبيب من نظرة عينيه..

لقد قالت لي عيناها ما لم أنتبه له من قبل.. تمنّيتُ لو أن دولاب الزمن يتعطّل لأظل سجين هذه اللحظة: سجين عينيها!! سَرَدَتْ عيناها قصة حبها لي.. أخبرتني كم اشتاقتني.. تلتْ عليّ تراتيل غرامها.. هِمْتُ في تفاصيل وجهها الصبوح.. مرّ زمن طويل على لقائنا الأخير، لكن السنوات الخمس التي مضتْ لم تزدها إلا جمالاً ونضارة! حتى غدتْ أجمل من ذي قبل!

أنا أؤمن أن بعض البشر تزيده الأيام جاذبية، ويلعب الزمن في ملامحه لعبة عكسية، فكلما تقدّم به العمر ازدانتْ ملامحه! وهكذا كانت (ملاكي)!

لم أتمالك نفسي.. تقدمتُ قليلاً.. طوّقتُها بذراعي وجذبتُها نحوي.. وقلبي يلهث.. ملأتُ رئتي من شذا عطرها الزكيّ.. فإذا بِخَدَرٍ لذيذ يسري في أوصالي.. تبعثرتْ أفكاري.. – بسك نوم! ما تشبع من النوم؟ قم صار وقت الغدا.

فتحتُ عيني بصعوبة وخوف؛ نبضاتي مازالت متلاحقةً كفرس جموح تركض في البرية بلا وجهة محددة.. فإذا أنا بوجه سعيد خلفان أمامي بكل تفاصيله المنفّرة: عينيه الجاحظتين، شعره المنكوش، ورائحة عرقه تسدّ عليّ مجرى الأكسجين..

انتفضتُ كما ينتفض الطير الذي بلّله المطر، وجلستُ على سريري وأنا أستعيذ من إبليس، وأطرد فكرة أن أطْبِقَ بكلتا يدي على عنقه وأُنْهي حياته كما أَنْهى حلمي قبل أن أحصل على مُرادي! صرخت:

– ما أبي آكل.. خلني على راحتي، قومتني من أحلى حلم في حياتي.

قلت عبارتي بامتعاض وأنا أشيح بوجهي عنه كي لا أقتله!

– أحلى حلم في حياتك؟ أكيد حبيبتك زارتك في نومك؟ (قهقه بصوته الغليظ متهكماً) وأضاف:

– لا تحاتي ولا تزعل.. بكلمها بالتلفون وأخليها تزورك الليلة.. ودخل في نوبة ضحك متواصلة..

لم أتحمل مسلسل الإهانات في هذا المكان البغيض، أنا المزهوّ بكرامتي، وصل دماغي درجة الغليان؛ فانقضضتُ عليه كما ينقض الوحش الجائع على فريسته...

كنت بحاجة للتنفيس عن غضبي: غضبي لأجل الكرامة.. ولأجل الحب! لا شيء يثير حفيظة الرجل وجنونه كذكر أحدهم لعرضه!

أوَلَمْ تكن يوماً ما حبيبتي، وعرضي الذي لم أصنه؟!

طرحتُ سعيد خلفان بجسده الضئيل أرضاً.. جثوتُ فوقه وثبّته كما يثبت الأسد فريسته قبل أن ينهشها.. وبدأتُ دون وعي أسدد اللكمات – بكل ما أوتيتُ من قوة وغضب – إلى أنفه ووجهه.. كنت في الحقيقة أسدّدها إلى نفسي.. لأنني لم أستحقّها يوماً.. ولم أقدّر نعمة وجودها في حياتي.. أنا من حكمتُ على نفسي بالضياع! أنا من فرّطتُ في حبّي لها!

غرق سعيد خلفان في دمه.. اختلطتْ ملامحه فلم تعد ظاهرة لكثرة ما نزف أنفه.. فَقَدَ وعيه فاستعدتُ وعيي؛ وكففتُ عن ضربه.. هرع عساكر السجن مستجيبين أخيراً لصراخه واستغاثاته قبل أن يستسلم لنوبة إغماء..

ألقوني على وجهي أرضاً.. وأطبقوا القيد على معصمي من خلف ظهري، ثم قام اثنان منهم بسحبي حتى استويتُ واقفاً، واقتاداني خارج الزنزانة، بينما اهتم الآخرون بحمل سعيد خلفان إلى عيادة السجن تمهيداً لنقله إلى المستشفى العسكري!

لاجئ من أربيل إلى أمستردام

أنا صباح خليل من كوردستان. عندما أنهيت دراستي في جامعة أربيل كلية الأدب الإنكليزي، أعطاني والدي 15 ألف دولار وقال لي:

- تزوج بها، أو اذهب إلى أوروبا.

تزحلقت مفردة أوروبا عن شفتي والدي بسرعة، لكنَّ أذني المرهفتين أوقفتا المفردة على قدميها.

أوروبا يا والدي دفعة واحدة ..!!

دخلت أوروبا إلى أحلامي عبر حاجي.

منذ فترة طويلة، يجتمع بنا.. كل ليلة تقريباً.. يقدم لنا فيها تفاصيل حياته الملونة في أوروبا. كل ليلة يعيد على مسامعنا مغامراته، مع النساء الجميلات، مع الطبيعة، مع تلاوين الطعام التي يمتزج فيها الرسم على الأطباق مع الرائحة الزكية والطعم المرن. مع خدمات الطهاة والمقدمين والخدم والحشم. مع رحلاته المتواصلة عبر القطارات المزدحمة بالنساء، مع سياراته التي اشتراها تباعاً والتي تتزاحم ألوانها وموديلاتها، مع حفلاته في الأحاديث التي رواها حاجي، وفي القصص الكثيرة التي ينغمس فيها الحلم في الحقيقة، كان يؤكد حاجي أن البشر ثلاثة أنواع، الذكور والإناث والجنس الثالث.

كنت يومئذ طالباً في الثانوية العامة، حين دعاني أحد زملائي لقضاء الليلة في دارهم، لأن شاباً عاد حديثاً من أوروبا ولديه الكثير من الأحاديث. دعاني لنقضي ليلة مع الأحلام. لنضحك، لنتسلى، لنصغي إلى أكاذيب من عاد خائباً من هناك، لكنه يصرّ أنه عاد رابحاً.

في الليلة الأولى سلم حاجي علي بحرارة. قال إني ما زلت شاباً وإنه سيقدم لي كل الأفكار التي تؤهلني لدخول الأحلام.

في الليلة نفسها قال زميلي إن أحد أقربائهم سيموت قريباً لأن الأطباء اكتشفوا أنه مريض سرطان.

السرطان كان مفتاح حديث حاجي تلك الليلة.

«السرطان نادر الحدوث في أوروبا. السرطان يدخل إلى الجسد ببطء وهدوء، وإذا استطاع الأطباء اكتشافه مبكراً فلا خطر على الإطلاق منه. في أوروبا يعرف الأطباء قصص كل المواطنين. لكل مواطن سجل خاص، وفحص دوريّ، حتى لو كان المرض هو السرطان نفسه، فإنهم سيعرفون وسيعطون المريض العلاج المناسب في الوقت المناسب.

في أوروبا لا أحد يموت إلا من انتهى عمره.

«قال سرطان قال..».

قال حاجي جملته الأخيرة وهو يضحك. ارتشف الشاي وطلب بعض السكر.

قلت لزميلي قبل أن أغادر: «هل حاجي مجنون..!!».

لم أستطع تصديق جملة واحدة من حديثه، لكني استمعت إليه في اليوم التالي. وشعرت أن أحاديثه مليئة بالكذب أيضاً، لكني حضرت في الليلة الثالثة، ثم داومت على حضوره.

بعد أحاديث حاجي أصبح للتلفاز طعم آخر، للطعام طعم آخر. ولدروسنا ورحلاتنا وكلماتنا، لنومنا وملذاتنا. حاجي الخائب أيقظ آمالنا في الدارة الكبيرة التي تبعد مسافة ساعة عن أربيل.

يجلس حاجي على كرسي، نتجمع حوله كأنه الرسول الأوروبي الملون في بلادنا الرمادية. يطلب كأس الشاي الخمري الذي تميز في شربه في كل البلاد التي زارها كما يقول، ويشعل سيجارة «اللف» لأنه اعتادها، وهو لم يعد يهوى المارلبورو ولا غيرها من السجائر. اللف هو ميزة العالم الغربي وهو شغفه. وسيجارة اللف تكلف زمناً لصنعها. زمنا ومهارة، لذلك فإن تدخينها أحب إلى قلبه هو الذي فرش التبغ في ورقتها، وسلسل دوائره الطرية، وسال من لعابه الخفيف على أطرافها.

سيجارة اللف أخذت من عمره لحظات وهو يصنعها، وتدخينها يعيد إليه ثمرة هذه اللحظات على شكل متعة.

«اشربوا شاي يا شباب» يقول حاجي.

رشفة الشاي الواحدة ترطّب مسار السيجارة، وعوضاً عن متعة واحدة ستشعرون بمتعتين.

«الحياة متعة» يقول حاجي.

الحياة متعة وعليكم أن تعيشوها قبل أن يحتلكم العمر، تخسروا أمامه معارك المتع. الدخان متعة، والشاي متعة، وأوروبا التي لا تعرفونها متعة.. لا لا لا أوروبا هي قمة المتع.

لا أعرف على وجه الدقة متى دخلت روايات حاجي مسار حياتنا. لا أعرف متى بدأ ذلك. لكنه أشبع تفكيري وأوقد مشاعري المكبوتة. لم أصدق الكثير من رواياته. الكثير من مغامراته، لكني صدقت أنه شاب موهوب، أنه قاص بارع، أنه اجتهد في الرواية رغم فشله في الحياة.. هذا ما ظننته، وهذا ما دفعني في يوم ماطر إلى مصادقته. حاجي لم يعد بالنسبة إلي ذلك الشاب الذي يتحدث في وقت الفراغ. . لا لا لا.. حاجي أصبح الشاب الضرورة.. الشاب الذي يملأ الحياة الداكنة بالألوان . حاجي يشبه المطر الذي تركته في الخارج يسقي التراب.

«اليوم سأروي لكم واحدة من أهم متعي في فرنسا، اليوم سأروي حكايتي مع ماتيلدا الفرنسية. هي من مدينة نيس لكنها تعيش في باريس. مشرفة على فرع تجميع أضواء الطائرات المدنية. كنت في زيارة إلى المعمل مع مدير المصنع وليم برووت، الذي دلني عليه أحد معارفي وأنا أبحث عن عمل. كان يكفي أن أدخل مع المدير إلى المصنع حتى تتعلق بي كل الفتيات فيه. لكن قلبي تعلق مباشرة بعيني ماتيلدا، عيناها نافذتان فرنسيتان من عصور الثورة. عيناها ثورتان نضجتا خلف مكتب أزرق في مصنع أضواء الطائرات، عيناها جناحا طائرة فرنسية يحملان في رفيفهما واحة من الدفء..».

تسقط الكلمات والأسماء من فم حاجي بسلاسة مذهلة، سلاسة تبدو معها الكذبة الواضحة، حقيقة واضحة.

في تلك الليلة ذهب حاجي مع ماتيلدا، وتناولا الجبنة الفرنسية المعفنة، والتي لا نستطيع نحن أن نتناولها لكنه يعشقها.

قبل أن تنهي الليلة ثوانيها ينهي حاجي جولته الأوروبية في ليلتنا الأربيلية. في تفاصيل الشاي والتبغ الكردي.. في انثناءاتنا على تكوراتنا وعلى كتلة كبيرة من الأحلام التي تصحو مع كل جملة «حاجية».

-لماذا عدت يا حاجي؟

سأل غريب أحب أن يقضي ليلته تلك مصغياً إلى قصص حاجي، غريب قدم من قرية أخرى وصلت إليها قصص حاجي العائد.

«أنا أحبّ كردستان، أعشقها. أريد أن أكمل حياتي بين الأكراد لأقول لهم إن حياة أخرى جميلة تستمرّ خلف هذه الجبال، عدت لأقول لكم إن في الحياة كنوزاً يجب أن تصل إلى أياديكم، وعندما أعرف أن مهمتي انتهت سأعود إلى أوروبا... لكن ليس قبل أن انقل تجربتي إلى مسامعكم».

احتلّ حاجي مساحة كبيرة في قلبي. واحتلّ قلوب الآخرين. في فترة لاحقة كان رجال قريتي يقضون لياليهم معه، وكان ممنوع علينا أن نسهر معهم.

كنت أتساءل هل يروي لهم حاجي قصص ماتيلدا الفرنسية، وآنا البلجيكية التي تعرّف إليها وذهبا معاً إلى منزلها، وفطما المغربية...

back to top