حبر و ورق

نشر في 25-11-2017
آخر تحديث 25-11-2017 | 00:02
No Image Caption
مهندسو الموت

1

المملكة المتحدة – كوفنتري – صباحاً...

جلس أحمد (الشاب الأربعيني، الطويل والنحيف بعض الشيء، ذو الشارب الرفيع والنظارة الطبية الراقية من ماركة كارتير، والذي يرتدي بذلة رمادية فاتحة) على الكرسي الخشبي المقابل لتمثال (الليدي قودايفا) وسط سوق كوفنتري، ممسكاً بكوب ورقي من الكابتشينو الذي ابتاعه من مقهى (ستاربكس) القريب من التمثال، وبدأ يسترجع ذكريات تعود إلى عشرين سنة خلت، عندما كان يدرس في الجامعة، كلية الهندسة. تذكر مطاعم ومقاهي هذه المنطقة التي كان يرتادها، بالإضافة إلى الأسواق التي كان يتجول فيها عندما يكون ضجراً، حدث نفسه بصوت مسموع: كم هو جميل أن يعود الإنسان طالباً جامعياً، ولكن ما العمل؟ فهذه الحياة تمضي ونكبر نحن فيها.

يعمل أحمد الآن في مكتبه الهندسي، وقد اشتهر في بلاده بهندسته الراقية للمباني الكبيرة.

بعد قليل، توجه نحو السوق للتبضع وشراء الهدايا لأصدقائه؛ فاليوم سيكون قد أنهى أسبوعاً هنا، ومع حلول الليل يكون قد عاد إلى دياره.

بينما كان أحمد عائداً سيراً على القدمين إلى فندق رامادا مستمتعاً بالجو شبه الغائم، مرّ عبر النفق الذي يختصر المسافة، وعادت إليه ذكريات الأيام الخوالي عندما كان يعبر هذا النفق قاصداً محطة القطار وغيرها من الأماكن. ما إن وصل إلى الفندق حتى توجه إلى غرفته وبدل ملابسه وضبط منبه هاتفه على الساعة الثانية عشرة ظهراً ثم استلقى على سريره. فرحلته إلى البحرين تنطلق عند الساعة الثالثة، ويجب أن يكون في مطار برمينغهام قبل ساعتين – ومدة الرحلة سبع ساعات بالإضافة إلى ساعة من التوقف، وهكذا تكون مدة الرحلة ثماني ساعات. كانت الساعة الحادية عشرة عندما استلقى ليرتاح، وأخذ ينظر إلى سقف الغرفة، ولم تكد تمر خمس دقائق حتى كان أحمد يغط في سبات عميق.

2

مملكة البحرين، بعد منتصف الليل، الساعة الواحدة...

دخل سائق سيارة الأجرة البدين سامح (كان في الخمسين من العمر، وله شارب خفيف)، المطعم التركي (في المحرق والقريب من موقف سيارة الأجرة الخاصة بمطار البحرين الدولي) لطلب مشويات مشكلة وطبق من المقبلات، كعادته اليومية. لقد كان معروفاً من الجميع هناك، فما إن يصل إلى المطعم حتى يعرف النادل طلبه، التهم كل ما كان موجوداً على الطاولة، قبل أن يطلب زجاجة ثانية من الشراب الغازي بطعم الليمون.

بعد نصف ساعة، وعندما غادر المطعم، ذهل عندما لم يجد سيارته الكامري البيضاء في المكان الذي ركنها فيه، وعزا السبب إلى إهماله فهو عادة لا يقفلها، ويترك المفتاح بداخلها.

لم يعرف كيف يتصرف، فأسقط بيده، هل سرقت السيارة أم أن أحد أصدقائه يمازحه!؟ فاتصل بصديقه جابر الذي فاجأه بقوله إنه لا علم له بالأمر. وبما أن أحداً لا يمازحه بمثل هذه المزحات الثقيلة، اتصل من فوره بالشرطة مبلغاً عن اختفاء السيارة من مكانها.

3

في الطائرة، عند الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل...

أعلن القبطان أن الطائرة ستصل إلى المطار بعد ساعة إلا ربع، وجال المضيف ناظم ببذلته الأنيقة والابتسامة المعروفة عنه المرتسمة على شفتيه مخبراً مسافري الدرجة الاقتصادية بضرورة ربط الأحزمة استعداداً للهبوط، وأيقظ أحمد الذي يستلقي على الكرسي ويغطي نفسه بالبطانية. نظر أحمد إلى المضيف بعينين نصف مغمضتين وقد علت ثغره ابتسامة. وعلى الفور، ذهب إلى دورة المياه الضيقة، ورش وجهه بالماء البارد، ورتب ملابسه، ثم عاد إلى كرسيه وهو في غاية الارتياح. فبعد نصف ساعة تقريباً سيكون في المطار، لم ينتظر أن يستقبله أحد في المطار، فهو يعود إلى منزله بسيارة الأجرة، خاصة وأن الوقت متأخر.

جلس على كرسيه وراح ينظر من النافذة إلى إنارة الشوارع الصفراء التي تملأ المكان، كانت الشاشات التي أمام المسافرين تشير إلى الوقت المقرر للوصول، بالإضافة إلى درجة حرارة الجو الخارجي.

بعد نصف ساعة، هبطت الطائرة بسلام في مطار البحرين الدولي، فنهض أحمد من مكانه لجلب حقيبته الموضوعة أعلى مقعده، وانتظر قليلاً قبل أن يغادر الطائرة. حمل حقيبته ودخل الخرطوم الممتد من باب الطائرة إلى المطار، لم يكن يحتاج الوقوف في طابور الجوازات، وذلك لامتلاكه البطاقة الذكية التي تسهّل العبور، مر بجانب السوق الحرة الصغيرة، ولم يرغب بشراء شيء – فقد ملّ التسوق – وأسرع بنزول الدرج قاصداً حزام استلام الحقائب، وانتظر بعضاً من الوقت حتى وصلت حقيبته السويسرية المميزة، أخذها على الفور، وتوجه ناحية الباب الإلكتروني الكبير. فتح الباب، نظر إلى المنظر المعهود، كثير من المنتظرين جاءوا لاستقبال أصحابهم، وحمل بعض السائقين لافتات عليها أسماء بعض القادمين، وقد تفاجأ من وجود اسمه على إحداها، إذ لا يفترض أن ينتظره أحد، ولكن الاسم مشابه لاسمه (أحمد عبد السلام)، أشار صاحب اللافتة ذو اللحية الطويلة البدين بعض الشيء إلى أحمد، فتوجه أحمد إليه والذهول بادٍ عليه.

الغريب: جئت لاصطحابك إلى المنزل.

أحمد: ولكني لم أطلب أحداً.

الغريب: لقد أرسلني صديقك.

صديقي!

نعم، بدر.

هكذا، إذن، ومن أنت؟

أنا سعد، سائق أجرة.

غادر أحمد مع السائق من باب الخروج، وقد ازداد استغرابه عندما رأى أن سيارة الأجرة لم تكن في المكان المخصص لها، بل في المواقف الخاصة بالقادمين، فقال السائق: لقد أوقفتها في المواقف الخارجية لكي لا يظن السائقون إني قد أخذت مكانهم.

ركب أحمد السيارة، وهو في ريبة من أمره، ادخل السائق الحقائب في الصندوق الخلفي، وجلس خلف المقود، بينما جلس أحمد إلى جانبه في المقعد الأمام، ولكن السائق رفض ذلك وطلب منه الجلوس للخلف، استغرب أحمد مما يحدث ولكنه لم يعره أي أهمية.

سعد: كيف كانت الرحلة؟

جيدة وطويلة ولكني اعتدت على مثل هذه الرحلات.

الرحلات الطويلة تحتاج إلى راحة كاملة.

بالطبع فالساعة الآن الثانية والنصف.

لا تخف سوف ترتاح بعد قليل، وهو يبتسم.

سأله أحمد: لماذا سلكت هذا الطريق أليس طريق الجسر القديم أفضل؟

لا، إنهم يقومون ببعض الإصلاحات.

دقق أحمد في الصورة التي تحمل معلومات السائق، والتي تكون موجودة في النافذة الأمامية من الجانب الأيمن من السائق، وتبين أن الصورة لشخص آخر، فارتاب أحمد من الأمر.

كان السائق الغريب ينظر إليه من خلال المرآة المستطيلة المخصصة للنظر إلى الخلف، وقال له وهو يبتسم: إنها لصديقي، وأنا أتعاون معه، فهو يعمل عليها في النهار وأنا في الليل، أرجو أن لا تخبر أحداً فهذا رزقي.

هكذا إذن، لا تخف، المهم أن نصل المنزل.

نام أحمد من شدة التعب كعادته، ولكنه استيقظ عند رطم رأسه نتيجة ضغط قوي على المكابح.

أحمد: ما الذي حصل؟ ذهل أحمد من المكان الذي توقفت فيه السيارة، لقد كان بجانب البحر، والمكان مظلم، وسأل السائق من جديد: ما الأمر، لماذا نحن هنا، لم يتلقَّ جواباً من السائق سوى سحبه بقوة من ربطة عنقه وإنزاله من السيارة.

أحمد: ماذا تفعل.

لم يتلقَّ على سؤاله جواباً بل طعنه الغريب بسكين في بطنه طعنة أسقطته أرضاً. بعدها استقل الغريب السيارة، وكأن شيئاً لم يكن...

4

قرب بحر المحرق/الساعة 6.00 صباحاً...

اقترب قارب البحار كامل (الأسمر ذو الأربعين عاماً، المعتدل الطول والحجم، وذو اللحية الخفيفة) من الشاطئ. حدث البحار نفسه: لم يكن الصيد وفيراً، فلم أكمل إلا ثلاجتين (حافظة للأسماك) أتمنى أن يكون الغد أفضل. وصل البحار إلى الشاطئ وأنزل الثلاجتين بيديه اللتين قد تشقّقتا من حبال الصيد، وعندما نظر بعيداً لاحظ جسماً، فذهب لتفقده، فإذ به جثة، ذهل ولم يعرف كيف يتصرف، فاتصل بالشرطة عبر هاتفه الذي كانت أرقام أزراره قد محيت وشاشته مكسورة، وما أن رد عليه الموظف حتى بدأ يصرخ بصورة هستيرية، يوجد جثة يوجد جثة.

الموظف: هدئ من روعك، ما الأمر.

كامل: هناك جثة عند الشاطئ.

أخذ الموظف المعلومات الكاملة عن الموقع بالإضافة إلى معلومات كامل الشخصية.

5

مكتب المحقق ليث/الساعة 7.30 صباحاً...

ليث وهو يتكلم في الهاتف: قلت إن هناك جثة عند شاطئ المحرق.

الشرطي: نعم سيدي، القتيل طعن في بطنه.

حسناً، سأكون هناك في أقل من ساعة.

سعيد: هل هناك مهمة جديدة؟

نعم جثة عند شاطئ المحرق، علينا الذهاب للتحقق، استدعي فريق الطب الجنائي.

ذهب سعيد على الفور لاستدعاء الفريق.

6

عند شاطئ المحرق/الساعة 8.00 صباحاً...

وصل المحققان مسرح الجريمة، وكانت جثة أحمد ملقاة على الشاطئ، وأداة الجريمة إلى جانبها.

ليث مخاطباً الشرطي: من اكتشف الجثة؟

الشرطي: البحار كامل.

التفت ليث إلى البحار الذي كان يرتعش من الخوف: أخبرني بما رأيت؟

كامل: لقد كنت أنزل ثلاجة السمك، ولمحت جسماً غريباً، فأتيت لتفقده، فإذ به جثة.

ليث: هل تعرف صاحب الجثة؟

ردّ بارتباك: لا.

شكراً لك.

هل يمكنني الذهاب؟

نعم، ولكن بعد إعطاء الشرطي رقم التواصل معك في حين احتجنا إليك، ذهب كامل إلى الشرطي وأعطاه المعلومات المطلوبة.

ليث مخاطباً سعيداً وهو يحمل أداة الجريمة: يبدو أن القاتل قد استعمل هذه السكين، ويبدو أن الضحية لم تقاوم القاتل، فلا يوجد أي أثر في يد الضحية يدل على المقاومة. ولو كان هناك مقاومة لظهرت بعض آثار الدم أو الشعر من خلال المشاجرة، فالظاهر أنه تفاجأ.

سعيد: لقد طعنه ثلاث طعنات، يا له من قاتل.

ليث مخاطباً الطبيب: هل عرفتم وقت الجريمة؟

الطبيب: أغلب الظن أنها وقعت عند الثالثة صباحاً.

بينما كان ليث يفتش الجثة: يبدو أنه كان مسافراً، فهذا جواز سفره. أخذ ليث الهاتف النقال الخاص بالضحية، ليتعرف إلى آخر اتصال أو رسالة. نظر إلى سعيد وهو يقول: لقد أرسل رسالة إلى شخص يدعى بدر يشكره لأنه أرسل له سيارة أجرة تقله من المطار، كان ذلك عند الساعة 2.45. وهناك مكالمة لم يرد عليها من قبل بدر، عند الساعة 6.00 صباحاً، عندما كان ميتاً.

سعيد: علينا الاتصال ببدر لمعرفة مزيد من التفاصيل.

ليث: لا بد أن نتعرف إلى سيارة الأجرة التي أقلته إلى هنا. سعيد، اتصل بإدارة المرور العامة لمعرفة إن كانوا لاحظوا أي حركة غريبة لسيارة أجرة بجانب بحر المحرق.

اتصل سعيد بإدارة المرور، واستحصل على بعض المعلومات والتفاصيل.

سعيد: لقد أُبلغت إدارة المرور العامة عن سرقة سيارة عند الساعة 1:40 ولم يتم العثور عليها لحد الآن، أظنها السيارة المطلوبة.

يبدو ذلك. عمّم رقم السيارة ونوعها على جميع الدوريات، واتصل بصديق الضحية بدر لكي يراجعنا في مكتب التحقيق، بالإضافة إلى صاحب سيارة الأجرة المسروقة.

أشار سعيد بالإيجاب، وقام بالاتصالات اللازمة.

الشيطان يحبُّ أحياناً

كان مالك ممدّداً على سريره الطبّي كلوح خشبي. الجانب الأيسر من جسده هزيل، ساكن لاحياة فيه. رأسه بالكاد يستطيع تحريكه صوب اليمين تارة، وصوب الشمال تارة أخرى. عيناه منهكتان، يدور محجراهما كالبلّورتين في أرجاء غرفته الواسعة. كل ما حوله يُصيبه بالإحباط وتراكم اليأس في صدره. أصبح يتأفف من رقدته الطويلة. تسرّبت إلى خشمه رائحة كريهة. تمنّى لو يستطيع الذهاب إلى دورة المياه، لإفراغ حمولة أمعائه. أصبحت هذه أمنية مستحيلة بعد آخر جلطة تعرّض لها قبل ستة أشهر. تسبّبت بحدوث شلل كامل له في الجهة اليسرى من جسده. لم يعد يثق بالأطبّاء. كلها تطمينات كاذبة حتى يتأقلم مع وضعه الجديد. فكره غارق طوال الوقت وسط بحيرة مرضه. لا يصدّق ما وصلت إليه حاله. إنه مالك الذي كان بالأمس محط أنظار الناس ومحور أحاديثهم. كل من حوله كانوا يحسدونه على النعم التي أغدقها الله عليه. كان ينتشي من نظرات الغيرة التي يلمحها في عيونهم. تملأه الغبطة حين يرى ملامح الغيظ مرسومة على وجوههم. «كم كنتُ متحجّر القلب، معدوم الإنسانية، لا أراعي ظروف الناس. حسبتُ أن الزمن سيبقى لي وحدي، وتحت طوعي. نسيتُ أن دواليب الأيّام تتقلّب كما تتقلّب القلوب!»، قال في نفسه, مطلقاً تنهيدة ضعيفة. حرّك ذراعه اليمنى بصعوبة. ضغط على زرّ الجرس المعلّق قرب وسادته. سمع وقع خطوات الممرّضة الفلبينيّة تهرول ناحية غرفته. كانت رائحة كريهة تفوح في المكان. فهمت قصده ربّتت كتفه بحنوّ قائلة: «بابا أنا يجي دحين», وخطت مهرولة خارج الغرفة. رجعت بعدها بدقائق قليلة. كانت تغطي أنفها وفمها بقناع ورقيّ. ترتدي في يديها قفازين طبّيين. تحمل بين يديها وعاءً بلاستيكيّاً كبيراً يحتوي على ماء دافئ. وضعت الوعاء على الطاولة الحديدية المنصوبة في إحدى الزوايا وجرتها صوب سريره. فوق «الكومودينو» الملتصق بسريره، كانت مرصوصة عليه، زجاجة من الصابون السائل، لفّة مناديل ورقيّة كبيرة، منشفة استحمام مطويّة ودهان طبّي للتقرحات الجلديّة. أزاحت برفق اللحاف عن جسده المعلول. أمالت مريضها برفق. وضعته على جنبه الأيمن. حشرت حفاضة بلاستيكية نظيفة تحت عجيزته. سحبت الحفاضة الملطخة ببرازه. لفّتها ورمتها في سلّة المهملات. مسحت مؤخرته، وظهره، بالمناديل الورقية. أخذت تدلق ببطء الماء الدافئ، وتُدلك المنطقة الوسخة بالصابون السائل. جفّفت الجلد جيداً. أدارت جسده ناحية اليسار. فعلت الشيء ذاته. سحبت الحفاضة المبللة للمرّة الثانية واستبدلتها بأخرى نظيفة. كان ظهره وعجيزتاه مليئة بالتقّرحات، نتيجة نومه على ظهره. دهنت بحذر المنطقة بدهان التقرّح، ثم أعادت جسده إلى وضعيته الأولى. ثنت الحفاضة. أحكمت تثبيتها من الجانبين. نزعت القفازين من يديها. أزاحت عنه رداءه المشقوق من الخلف. ألبسته آخر نظيفاً. عقدت أربطته بلطف. ساعدته على تمديد بنيته. مدّت يدها صوب «الكومودينو» الثاني. كانت علب أدويته مرصوصة عليه، وبجانبها قارورة كبيرة من المياه المعدنيّة، وكأس زجاجيّة فارغة. وضعت في غطاء بلاستيكي صغير، عدّة أقراص من كلّ علبة. رفعت السرير بواسطة زرّ جانبي. أخذت تضع في فمه أقراص الدواء واحـدأ تلو الآخـر. ساعدته على بلعها برشفات قليلة من الماء. نظر في وجهها بامتنان. رمى بصره صوب ساعة الحائط المعلّقة. كانت قد أشرفت على الواحدة ظهراً. «حان موعد وجبة الغداء. ستأتي الخادمة بعد هنيهة بصينيّة الطعام. كم أكره النوعيّات التي تقدّم لي. كلها مسلوقة بقليل من الملح. معدتي لا تستسيغها. تهضمها على مضض. كم أشتاق إلى طعام شهيّ. مثل وجبة سمك جدّاويّة، كالتي كنتُ أكلها في رابغ، أو طبق رزّ برياني باللحم الضاني كالذي تُجيد طبّاختي الأندونيسيّة طهوه». أخذ يقول في نفسه. ملأت الحسرة أعماقه .

دخلت الخادمة بصينيّة الطعام. ناولتها للممرّضة التي وضعتها بدورها على مائدة الطعام المتحرّكة. قرّبتها منه. ساعدته على ارتشاف شوربة الخضروات المُشكّلة. ابتلعها بصعوبة. قدّمت له طبقاً من الأرز المسلوق. أكل القليل منه. أحسّ بالغثيان. حاول إبعاد فمه. «مستر، إنت لازم ياكل. بعدين دوا ما ينفع»، قالت له الممرّضة بنبرة حانية. هز رأسه تعبيراً عن اكتفائه. ضغطت على زرّ النداء. أشارت للخادمة بحمل الصينيّة. أحضرت وعاءً فارغاً متوسّط الحجم، وضعته في حجره. بلّلت فم مريضها برغوة الصابون. حملت بإحدى يديها إبريقاً بلاستيكيّاً مليئأ بالماء. دلقت القليل في باطن يدها الأخرى. مسحت به شفتيه. ساعدته على مضمضة فمه. أخذ يدلق الماء الوسخ في الوعاء. كرّرها ثلاثاً. جفّفت فمه بمنديل ورقي مُعطّر. أعادت السرير إلى وضعه المستقيم. «بابا إنت لازم ينام شويّه». غطت جسده باللحاف. كان متداخل الألـوان يغلب عليه البيج والأصفر، المفضّلان لديه. أطفأت نور الحجرة. تركت الباب موارباً. لمح خيطاً رفيعاً من ضوء الشمس، تسرّب عبر شق صغير من ستارة النافذة، المتّصلة بالشرفة الواسعة المطلّة على الحديقة. لم تُحسن الممرّضة إغلاقها. أخذ يلاحق الضوء بنظراته. شعر بالارتياح، أحسّ بسببه أنّه لم يزل حيّاً يُرزق. أدار محجريه في أرجاء الغرفة. أسّسها في الماضي لتكون مكتبه الخاصّ. صُنع أثاثها من خشب الزان. أوصى عليه من أشهر محلّ في روما. أحضر طقم جلوس من جنوب أفريقيا، صنع خصّيصاً له. كان بنّي اللون، من الجلد الأصلي. أُعجب بمصانع الجلود في مدينة كيب تاون، عندما زارها قبل أكثر من خمسة عشر عاماً. يتذكّر أنّه تعرّف أيّامها إلى شابة إيرانيّة، تعيش هناك. أخبرته أنها هربت من أهلها في سنّ المراهقة، لتتزوّج بشاب هندي يعمل في جنوب أفريقيا. وقعت في وقت قصير في غرامه. لم يستمر زواجهما طويلاً. خافت من العودة. قرّرت البقاء وتحمّل وزر اندفاعها. عملت نادلة في عدّة أماكن. تعرّف إليها صدفة عندما كان جالساً في مقهى في «فكتوريا» يقع بقلب ميناء كيب تاون. طلب قنّينة من البيرة المثلّجة. قدّمتها له بابتسامة خلاّبة. تملك بشرة ورديّة صافية لم تُصادفه إلاّ نادراً. شعرها مموّج، يميل للّون الباذنجاني. كلّ ما فيها كان لاقتاً، صاخباً، يبهر الناظر إليها. شخصيتها المرحة، البسيطة، تُوحي للرجل بأنه أوّل طارق يدقُّ بابها، ويتذوق عسل أنوثتها. أخذها من لحظتها للفندق. ظلت معه خمسة أياّم قبل أن يُقفل عائداً الى مدينة جوهانسبرغ.عند رحيله أعطاها مظروفاً يحتوي على رزمة من الدولارات. وعدها بأن يراسلها. صدقت المرأة وعدوه. لحظة ركوبه الطائرة، مزّق رقمها المدون على قُصاصة صغيرة. حشرها في جيب المقعد. «لم أحبّ طوال عمري العلاقات الطويلة الأمد. تسبّب لي صداعاً أنا في غنى عنه! قلّة النساء أرغمتني بمهارتها على غضّ الطرف عن نهجي! يكفي كنت سخياً في كلّ شيْ معها». قال بصوت خافت.

بعد مرضه استحسن الطبيب نقله إلى الطابق الأرضي. أخلى حينها ابنه المكتب من كل محتوياته. وضع فيه سرير أبيه الطبي، وكرسيّه المتحرّك، وكل ما يلزم لفترة علاجه. ارتسمت ابتسامة على محيّاه. سيأتي ابنه سراج بعد قليل، وسيطلب منه كالعادة أن يأخذه إلى الحديقة. مشتاق إلى رائحة زهوره. كان قد جلب بذورها من الخارج قبل سنوات بعيدة.

back to top