النداء

نشر في 18-11-2017
آخر تحديث 18-11-2017 | 00:00
No Image Caption

الأحلام الجبانة

لطالما راودني حلم الهجرة إلى مكان بعيد، لا يعرفني فيه أحد ولا أحد ممن يعرفني يعرف أين أنا، وقد أغير اسمي وهويتي، وربما أعمل في أعمال وضيعة كعامل نظافة أو عامل في ورشة ميكانيكية أو موزع بريد، في إحدى القرى النائية في هذا العالم الواسع.

منذ كنت صغيراً لا يتجاوز عمري التاسعة أو العاشرة، أحببت لعبة الاختفاء، وأحببت القلق الذي كان يستحوذ على والدتي، وأحببت استنفار البيت الكبير الذي يحوي أسرتنا الممتدة، من أم وأب وجد وجدة وأعمام وعمات وأولادهم وبناتهم وأحياناً أزواج بناتهم، وأشعر بدقات قلبي تخفق بشدة عند اقتراب أحدهم من مخبئي الذي يتغير في كل مرة، حتى أصبحت ماهراً في إيجاد مخابئ لا تخطر على بال أهلي، وهم كذلك أصبحوا ماهرين في إيجادي وتخمين مكان اختبائي.

ومنذ تلك اللحظة التي قرأت فيها حكاية تولستوي عندما قرر الهروب من تسلط زوجته، ليموت متجمداً من البرد في محطة قطار، وأنا مهووس بفكرة الهرب، لكني كنت طفلاً لا يستطيع التخلي عن شيء ويضحي به كي يتركه ويهرب، بينما كان

ليو تولستوي كونتاً لديه إقطاعيات وأراضٍ وقرى فلاحية وزوجة وبنات. أما أنا فصحيح أنني من عائلة وجيهة لكن ليست ثرية بشكل ملحوظ، وعندما جردت موجوداتي لم تكن تزيد على أعداد من المجلات المصورة التي كانت تصدر في ذلك الحين، مثل ميكي وسمير وبساط الريح وغيرها، والتي بدأت بها ثقافتي الموسوعية، حيث كنت أفاخر بأنني كنت أحل الكلمات المتقاطعة، وكان دائماً لدي جواب عن كل سؤال، بل كنت أبحث عن المعلومة عندما لا أعرفها، وتوسعت في ثقافتي الموسوعية غير المنهجية، فكنت فلتة زماني بين أقراني وزملاء الدراسة.

لكن حكاية هرب تولستوي الأسطورية وموته في ذهني الطري، أجابت عن شيء لم أسأله لنفسي، ولكنه كان موجوداً هناك في أعماق عقلي الباطن؛ فمع هذه الفكرة وتنفيذها منذ كنت صغيراً راودني شعور عارم باللذة الغريبة، وكأنها تطلق هرموناً ما في دماغي فأشعر بالنشوة أو بالسكر وربما بالثمالة أحياناً، وكلما أتقنت لعبة الاختفاء وازدادت فترات البحث عني، وسمعت كلمات القلق من فم والدتي، تضاعفت نشوتي.

إن الشغف بالهرب والاختفاء كانا موجودين قبل قراءتي حكاية تولستوي في إحدى المجلات المصورة حيث كنت قد بدأت باختيار أكثر الأماكن بساطة مثل تحت السرير أو داخل دولاب، واكتشفت ربما من أحد الأفلام التي شاهدتها، خدعة وضع مخدة أو اثنتين على سريري، وتغطيتهما بالكامل كي تظن والدتي أنني نائم تحت هذا اللحاف، لكنها اكتشفت هذه الخدعة أيضاً.

وعندما شاهدت الفيلم الأجنبي «الرجل الخفي» بالأسود والأبيض، استهوتني الفكرة واستحوذت علي، فبدأت أتخيل نفسي غير مرئي للآخرين، ولكنني كنت أستغرب في كل مرة يناديني المدرس:

- اللي واخد عقلك.

فأتساءل كيف رآني وأنا الرجل الخفي؟! وأيقنت أن هذه اللعبة أقل متعة من الاختفاء الحقيقي، عندئذ فقط لا يراك أحد حتى لو بحث عنك، فإن تدعي غير أن تكون مختفياً حقاً، بل لعل لعبتي القديمة في البحث عن مخابئ كانت أكثر إثارة.

وفي فجر أحد الأيام جمعت بضعة أشياء وربطتها في صرًة، وعلقتها بعصا عبارة عن غصن شجرة سدر، كسرته من شجرة بيتنا الضخمة العجوز، التي زرعتها جدة والدي وسط فناء المنزل، ورغم كبر جذعها وتفرع أغصانها وعمرها إلا أنها كانت مثمرة بالنبق الأحمر حلو المذاق، وكنا نشير إليها في أحاديثنا العادية {سدرة البيت} سواء الكبار منّا أو نحن الأطفال.

خرجت خلسةً من المنزل واضعاً العصا والصرة على كتفي مقلداً أحد الأفلام الأجنبية، وهمت بضع ساعات في الحواري العتيقة. إذ لم أحدد وجهة رغم ابتعادي النسبي عن منزلنا، ثم تخيلت أنني شحاذ بائس فجلست مستنداً إلى جدار تركت الرطوبة آثارها عليه، حتى ارتفعت الشمس في السماء، وفجأة وقفت فوق رأسي امرأة ملتفة بعباءة سوداء، وظهر وجهها الذي ينم عن كبر سنها خلف غلالة سوداء:

- {شمقعدك} هني يا صبي؟

هكذا بادرتني، ولم أكن قد هيأت جواباً فصمت، واستطردت:

- شسمك، من ولده أنت؟

ورغم خوفي إلا أني زورت اسماً تماشياً مع مغامرتي، فأجبت:

- زيد.

لا أعرف لم شعرت بالتهديد وهي تكمل استجوابها:

- زيد من ولده؟ منهي أمك؟

صمت، وظلت تتفرس بي حتى أتى ولد من سني يبدو أنه حفيدها، وظل واقفاً بقربها وهو يقضم شيئاً فسألته المرأة:

- تعرف هالصبي؟

فقال بفمه المليء بالطعام:

- هذا حمّود اللي بيتهم هذاك الفريج البعيد.

فمدت المرأة يدها وأنهضتني، وظلت ممسكة بيدي الصغيرة مخاطبة حفيدها:

- تدل بيتهم؟

أجاب الصبي بشبه حماسة:

- إيه.. تعالي يما.

فلحقته المرأة وهي تسحبني من يدي، وأنا مستسلم لقيادة المرأة البدينة قليلاً، وكانت أسرع مني في مشيها، وكنت ألاحظ من خلف عباءتها مؤخرتها الكبيرة ككل الجدات، مثل جدتي من أبي ومن أمي، ولذا انطبع في ذهني الساذج وخبرتي المحدودة أن الجدات يجب أن يكن ذوات مؤخرات كبيرة.

عندما أستدعي أفكاراً مثل تلك، لا أعرف هل أضحك أم أغضب لتلك السذاجة، كم من الأفكار السخيفة مرت بأذهاننا نحن البشر، وكم من الأسئلة التي لم نجد لها جواباً؟ أو أقلّه جواباً مقنعاً، وكم من قناعة وقرار جبنًا عن اتخاذهما في حياتنا، وكأنه محكوم علينا أن نحلم فقط، ونظل نحلم ونردد الحلم فقط حتى نجد حلماً جديداً، فنفرح دون مسوغ منطقي رغم أننا أثبتنا لأنفسنا أننا جبناء، وسنقف عند حدود الحلم ولن نجرؤ على خطوة أخرى، مجرد خطوة تعطينا الأمل والدافع بأننا في طريق تحقيق أحلامنا.

كارميلا

صوتها يأتيني من زاوية في البيت الريفي:

- هل تشعر بالبرد؟ هل أغطيك ببطانية؟

لماذا كل النساء كذلك، لا يدركن أنك تعيش لحظة مقدسة، فزوجتي بحسن نيتها المعتادة، وهي لا تدرك بأنها تثير غضبي عندما تسألني وأنا في قمة انهماكي بالكتابة:

- أسوي لك قهوة؟

أو حتى:

- محتاج شي؟

وأنا دائماً أرد ردي المعتاد:

- لا شكرأ.

لكن قلبي يقول بغضب:

- حلّي عن سماي.

كما يقول إخوتنا الشوام، ورغم أن المرأتين تلمحان غضبي في كثير من الأحيان بسبب ارتباك لحظة اندماجي، إلا أنهما ترتكبان الحماقات الطيبة نفسها، وأحياناً يفلت مني غضبي وتخرج مني حادة:

- لأ.

ثم أندم بعدها، وأترك اللاب توب وأتوجه إليها معتذراً:

آسف.

وأضمّها بينما هي تستغلّ الفرصة، لتذرف دمعتين كي تستثير عاطفتي ولا أعود إلى الكتابة مرة أخرى في تلك اللحظة، إذ لا فائدة، فقد هربت مني الفكرة واعتكر انسجام اللحظة، كما يعتكر صفو سطح بحيرة هادئة عند قذف حجر فيها، ولا يختلف الأمر مع أي امرأة في العالم أكويتيّة كانت أم أوروبية.

back to top