حبر و ورق

نشر في 11-11-2017
آخر تحديث 11-11-2017 | 00:02
No Image Caption
المسطر

قتال الوهم

دبابتان متقابلتان بلونهما الأسود لم يعد بإمكانهما أن تمتثلا للاختفاء الذي تفرضه ظروف هذه المواجهة. بدت القذيفة الأولى تقف في المسافة القريبة وتفصل كتلتي الحديد عن بعضهما. في موقعه الآن من إحداثيات الرمي لا يستطيع أن يستمع لصوت القاذف وهو يدفع بكتلة الموت نحو الآخر. لا يستمع لصوت المقذوف في حرب دمرت كل شيء ولم يتبقَّ منها سوى دبابتين تغطيهما كثافات سوداء لا يعرف إن كانوا جنوداً يهربون من أرض المعركة المتكافئة أو قتلى في طريقهم للجحيم الأكبر.

يعرف أن الدبابة الناجية من هذا القتال ستعلن نصرها ونصر من تبقى من عسكرها، ولكنه لا يعرف إن كان هذا الصراع هو خاتمة حروب البشر. يعلم بأنه لن يعيش طويلا ليشهد ذلك وأن الحروب لم تنتهِ ولن تنتهي.

هدأت الحرب الدائرة بين الآلتين ويكاد يرى السماء صافية في المسافة التي تفصلهما، يبدو أن القذائف المتبادلة بينهما قد أخطأت أهدافها، أو أن لا نية لأي من الآلتين بإنهاء القتال، ربما تفكر كل آلة بما ستفعله حين تقضي على نظيرتها ولا تجد طرفاً تحاربه. لم يتقدم الجنود الذي يحتمون بجسدي الدبابتين إلى قتال بالأسلحة البيضاء.

لم يدم هذا الصراع طويلا. كان يتابع إحدى الآلتين تستدير إلى الخلف، تنفصل عنها سبطانتها الرمادية ثم تختفي من المشهد تاركة ساحة القتال للأخرى التي بقيت ثابتة لا تتحرك من مكانها.

«ماذا ترى يا خال؟»

«انظر! هل تدور معارك حقيقية بين الغيومْ؟».

كان الخال ضيدان يشير إلى الغيوم وقد رسمت صورة لحروب خاضها ويعرفها جيداً، غيوم في سماء غير سماواته التي يعرف، غيوم تجمعت وتفرقت.

«إنها غيوم يا خال».

«غيوم! نعم ليست سوى غيوم».

كان يجلس على ضفة البحيرة يتابع تشكيلات الحظائر في ذهنه.

«هيا بنا يخال لا بد أنهم جهزوا غرفتك الآن».

دفع رومي كرسي خاله المتحرك وأحكم لف وشاحه حول رقبته ووشاح الخال وقبعته.

«إلى أين قلت لي سنمضي»؟

«إلى غرفتك ياخال سيبدأ علاجك وتعود محاربا كما كنت».

لم يرد الخال ضيدان واستسلم لدفعات رومي وهو يرى زمنه القادم يتحرك ببطء هذه العجلات الدائرية للكرسي المتحرك.

في صالة الاستقبال أنهى رومي إجراءات الدخول وصعد الدور الثاني بصحبة خاله وممرضة خمسينية تولت دفع الكرسي المتحرك وهي تحادث الخال بلغة لن يفهمها تماماً. حافظ على ابتسامة ثابتة كردة فعل تصلح لكل حوار.

لم يبتعد رومي بعد خروجه من باب عيادة لندن حيث يرقد الخال ضيدان. سار قليلا في شارع «ديفونشاير» حتى «ميريلبون» تاركاً سيارته في المواقف القريبة من العيادة. جلس في مقهى بالقرب من متحف الشمع وهو يفكر بما سيكون عليه مصير خاله خلال الستة أشهر المتبقية من عمره. كان يود أن يعوضه بشيء من المتعة كأن يصطحبه إلى الأماكن الجميلة التي أحبها في فرنسا ونيويورك ولكن جسد خاله لن يجد القدرة على تحمل كل ذلك. يقترب الزمن كثيراً من نهاية الخال الحتمية. ورومي يفكر في حالة الرجل الذي أنشأه ورباه. «لم أكن أعرف أنه سينتهي الآن». كان يود لو رحل الخال كأحد المقاتلين القدامى الأشداء، لو استطاع أن يصنع له تمثالا من شمع يمجده. لكنه ولد في بلاد لا تهتم كثيراً بخاله وغير خاله، بلاد تستهلك كل شيء حتى البشر الذين يعيشون عليها.

ستة أشهر هي كل ما تبقى ليتم الخال خمسينه الذي أضاعه في الرمال الملتهبة. كأنما الزمن يختصر عمراً ليس طويلاً ولكنه مليء بالأحداث في ستة أشهر فقط. ستة أشهر سيحاول أن يدفع الخال إليه ذاكرته كاملةً، أن يسترجع كل ما مرّ بها سواءً في السنوات البكر التي عاشها معه أو في سنوات النضوج التي عاشها بعيداً عنه.

«إن ذلك أقل ما يمكن أن أفعله، سأترك سيرة الخال للذين سيأتون من بعده، لهؤلاء الذين سيقفون أمام مَساطِر الجيش يحلمون بالعيش بعرق جلودهم وكرامتهم وسينتهون كما سينتهي ضيدان بعد ستة أشهر من الآن».

عاد رومي مرة أخرى الطريق التي سارها واستقل سيارته حتى سكنه وسط المدينة في شقة تطل على نهر التايمز. السماء ملبدة بالغيوم والجو يبعث على الكآبة ولم يكن لديه مايفعله سوى متابعة أعماله عن طريق الكمبيوتر أو قراءة كتاب لم يكمله. ولكن فكرة كتابة تاريخ الخال تسيطر عليه كعمل خرافي سيقوم به أو مهمة شاقة لم يسبقه إليها أحد.

« سأحولك من رجل نكرة إلى ما تستحق أن تكونه، بطلا حقيقياً صنع كل ما يمكنه ولن يرحل دون أن يتذكره أحد».

يدخل المطبخ يفكر بشيء يشربه، شيء يساعد فكرة السطر الأول من الرواية على الورق. نام بكامل ملابسه دون أن يتمكن من كتابة شيء. نام وهو يردد بعد كأس نبيذ واحد.

«ما أصعب السطر الأول من الكتابة».

في الصباح خرج من شقته مغادراً إلى عمله، يوم روتيني عادي أنهى اجتماعات صغيرة على الهاتف مع مدير الأفرع في «جيرسي» و«ميسوري». أوكل أعمالها للسيد «روبرت هيوسن» الرجل الذي عاصر أعمال أبيه منذ بدايتها. تناول الغداء في مطعم أسفل المكتب ثم غادر إلى عيادة لندن بعد أن أخبر سكرتيرته بأنه لن يعود للعمل بعد الظهر.

كان خاله وحيداً على سريره ينظر إلى السقف بعينين يملؤهما بريق ووجه منحوت متغضن لم يكن هو وجه الخال حين زاره في الكويت.

«كيف أنت يا خال؟»

«هل هناك مرآة في الحمّام؟»

ابتسم رومي.

«هل تريد الحمّام؟»

«لا. أريد مرآة»

أحضر له رومي مرآة دائرية من الحمّام. نظر ضيدان إلى وجهه كمن ينظر إلى رجل يجلس قبالته على السرير. كان يود أن يمدّ له يده ويصافحه. حين مسّد طرفي شاربه عرف أنه هو صاحب الوجه المنعكس على ماء المرآة.

كان يمسد شاربه بإصبعين ويفتلهما في الأطراف المدببة والتي تمتد خارج حدود وجهه النحيل.

«احضر لي مقصّا»

«لماذا؟»

«افعل ما أطلبه منك»

حسنا. لم يكن في الحمّام مقص. فطلب من الممرضة التي دخلت وخرجت بسرعة.

«كل ساعة تدخل عليّ امرأة لم أرها من قبل»

«لا يا خال هذه هي ممرضتك بالأمس»

«هذه المرة الأولى التي تدخل بها».

«حسنا كما تشاء».

عادت المرأة بالمقص ووقفت تنتظر. ناوله رومي للخال الذي أشار للممرضة أن تخرج محركاً أصابع يديه بطريقة لم تفهم المرأة إن كان يريدها أن تخرج أو تقترب. حين اقتربت صرخ بها كي تخرج فعادت للوراء دون أن تنزعج. خرجت ورومي يحاول أن يمتص غضباً لم يبد على امرأة خبيرة يبدو أنها رأت مرضى أكثر شراسة من هذا الرجل النحيل.

حدق ضيدان طويلا بشاربه ومسده ثانية وثالثة بأصابع يده اليسرى وهو يمسك المقص بيده اليمنى وفي المرة الأخيرة كان شاربه بين فكي المقص. تطايرت شعرات الجهة اليمنى أولا ثم الجهة اليسرى فملأ الشعر الرمادي ملاءة السرير التي تغطيه. لم يحرك رومي ساكناً ولم يدافع عن شارب خاله الذي كان يرى فيه رجولته وبأسه وسطوته.

«لماذا فعلت هذا يا خال؟»

«لم يعد خالك ضيدان كما أعرفه، ولن يعود كما أعرفه».

حين أعاد رأسه إلى الوراء لاحظ رومي وهو ينظف الملاءة من الشعر بأن ماء عينيه يتكثف عند جفنيه ولا ينزل.

«مازلت شابا ياخال، أنت في الخمسين وحسب»

«خمسين بؤسا، خمسين لعنة، خمسين ماذا يا بني؟»

«هل أكلت يا خال؟»

«لا. نعم. لا. لا أتذكر»

«ما بك يا خال؟»

«لا شيء».

«أنت لا تتذكر شيئاً. ولكنك تذكرني وتذكر نجمة وتعرف اسم والدتي. صحيح؟»

«أتذكرك وأتذكر نجمة وأعرف اسم والدتك»

«ولا تتذكر أنك أكلت شيئا!»

«لا. لا أتذكر. ولكني لست جائعا الآن».

حدق رومي طويلا في وجهه الذي أخذ يميل إلى السمرة وبدت الندبة في جبهته عند ملتقى عينيه وفوق الأنف مباشرة أكثر سوادا من بقية بشرته.

«هل تتذكر هذه الندبة؟ كانت أصغر».

«هذا المكان الأكثر عذابا في جسدي. ندبة زريبة بنيتها للأغنام، تذكرها أليس كذلك؟»

وهزّ رومي رأسه وهو يضع راحة يده على رأس خاله الحاسر. وأكمل الخال

«وهي أيضا ندبة شظية كادت تخترق جمجمتي في الحرب»

«أي حرب. لقد شاركت في كل حروبهم»

«حروبنا يا رومي، حروبنا»

«حسنا حروبنا، أي حرب»

«حرب قصيرة، حاولنا أن نصدّهم لم نستطع، كانوا أكثر»

«إذن أنت تتذكر كل شيء، هل تتذكر أين كنا أمس»

«كنا؟ أنت لم تأت بالأمس».

«يا الله!!»

جلس رومي على السرير بجانبه يضع يديه على رأسه وينظر بعيداً في عينيه. لم ير في نظراته أنه يمازحه. مسح الخال ضيدان على يدي رومي، ثم وضع يده تحت ذقنه ورفع رأسه إليه.

«أصبحت وسيما أكثر»

دخل الطبيب الغرفة فنهض رومي وصافحه. قال مخاطبا ضيدان

«كيف أنت يا بطل؟»

فهم ضيدان ما يقول ورفع إبهامه ليؤكد له أنه بخير. أنهى الدكتور فحصه وقرأ الملف المعلق في طرف السرير ولم يتحدث بشيء مع ضيدان أو عنه. قبل أن يغادر استوقفه رومي

«دكتور أنت كنت بالأمس هنا؟»

«وكنت هنا هذا الصباح ولم تكن أنت هنا»

«حسنا، انتظر»

التفت رومي لخاله يسأله

«هل زارك هذا الطبيب بالأمس يا خال؟»

«لا. هذه المرة الأولى التي أراه فيها».

ترجم رومي للطبيب ما قاله خاله.

«ماذا يقصد أنه لم يرني من قبل؟»

«لا أعرف. إنه يتذكر كل شيء في الماضي ولكنه لا يتذكر شيئاً عن الأمس القريب».

«غدا سأستدعي طبيباً آخر معي ونفحصه جيداً. اطمئن ربما كانت حالة مؤقتة. يحدث ذلك عادة».

خرج الدكتور وعاد رومي ليجلس على الكرسي أمامه. كان يفكر كم هو محظوظ خاله ضيدان إذ لا يتذكر ما يحدث الآن. ألاّ يتذكر ما حدث وما سيحدث له. أن يموت دون أن تترك الحياة صورها القريبة في ذاكرته. ولكن السؤال الذي يحاول الإجابة عنه. «منذ متى توقف الخال عن التذكر؟» إن المشكلة التي يواجهها الآن كيف بالإمكان استعادة ذاكرة الخال لينسخها كما هي في روايته.

عين شمس

حين انزلق إلى الحياة، بتلك الطريقة الغريبة، قالت القابلة لأمه:

«سيكون لطفلك هذا شأن».

كانت تعتقد أن الذين يخرجون إلى الدنيا بهذه السرعة. لديهم نبأ ما، يريدون قوله للآخرين.

لم تتحقق نبوءة القابلة إلا بشكل ظاهر، حيث كان «مرعي» عجلاً في كل شيء، حتى إن أمه كانت تقول لأبيه وهي تشعر بشيء من القلق:

«ابنك هذا سيعبر طفولته كومضة البرق، وهذا ليس في مصلحته».

قالت هذا بناء على وصية الطبيب لها:

«اتركي ابنك يعيش طفولته كما هي، واحذري أن تشوّهيها بأفكار الكبار».

ومنذ ذلك الحين وأمه لا تعاتبه حتى حين يتجاوز على الآخرين، أو على ممتلكاتهم. أحدهم كان يعلّق على هيئة مرعي بأنها هيئة طفل شقي ماكر من حدقتيه اللتين تجوسان المكان من جميع جهاته؛ والحقيقة أن مرعي كغيره من الأطفال، يعيش طفولته ببراءة كاملة، غير أن وصية الطبيب لأمه هي التي جعلته يزداد «شقاوة» فاق بها أقرانه فترة من الوقت، ثم ما لبث أن عاد إلى هدوء تغيرت بسببه نظرة الأهالي إليه إلى الحدّ الذي لمحوا في مستقبله ما يبهج، بمن فيهم أمه سلمى التي كانت تتعهده بحذر كاد يلغي وجوده في الحياة.

كان الطبيب يرى أن كل ما يفعله الأطفال هو بذور لمشروع حياة قادمة، وأن الطفل الهيّاب يظل مشروع رجل غير مكتمل. آمنت سلمى بفكرة الطبيب، رغم أنها فهمتها بشكل خاطئ فأرادت أن يسير مرعي في طريق مشروعه حتى لو كان ذلك على حساب أهل القرية.

ذات مساء وهي تنظر إلى قامته القصيرة قياساً بأقرانه من الأطفال، وإلى وجهه الخالي من نتوءات الزمن إلا من بعض خربشات طرية لأظفار رفاقه أثناء الخصومات، قالت في نفسها:

«الأطفال القصار ينضجون من الداخل قبل أقرانهم».

هذه القاعدة استقتها أيضاً من طبيب الأطفال الخاص، الذي التقته، مصادفة، في عيادة منزوية في أحد أبراج المدينة، وهي عائدة إلى القرية، ما جعلها تحتفظ ببطاقة التواصل، فصارت تزور عيادته كلما نزلت المدينة، وكان الأمر، بطبيعة الحال، لا يكلفها أكثر من مسافة نصف ساعة تقطعها مع سائق القرية المتكفل بكل ما يحتاج إليه أهالي القرية من المدينة، بإيجار شهري يدفعه الآباء المشغولون بأعمالهم.

تولي سلمى اهتماماً بابنها الوحيد مرعي من بين خمس فتيات، الأمر الذي جعله محظياً عند أمه، وعلى العكس مما هو متوقع فقد كانت طفولة مرعي خالية من طباع الفتيات اللائي يغلبن بصفاتهن، في مثل هذه الحالة، الولد الوحيد في الأسرة، لكن مرعي استطاع أن يقاوم الأنوثة الطاغية في المنزل بشعوره أنه الرجل الوحيد في البيت، وكان انشغال أبيه بأعماله داعماً له في هذا الاتجاه.

ومع أنه لا يزال طفلاً إلا أنه شعر بحاجة المنزل إليه في وقت مبكر، حيث كان يذهب إلى سوق المدينة مع أمه التي لا تسمح له بالخروج مع رجال القرية لصغر سنه، حتى بعد أن بلغ سن العاشرة.

كانت هذه السن بالنسبة إلى أولاد القرية تقف على أعتاب مرحلة تحمّل المسؤولية فيما يخص ضروريات المنزل والمتاجرة ببعض ما تنتجه القرية من مزارعها وحظائرها، بيد أن الأمر بالنسبة إلى مرعي مختلف، بسبب حرص أمه الشديد على أن يبقى قيد طفولته وتحت رعايتها حتى يعيش طفولته بكل تفاصيلها كما أوصى الطبيب.

كانت وصية الطبيب تعني أن يكبر كما يكبر الأطفال وأن يعيش كما يعيشون، تحت إملاء ما يسمى، بعالم الطفولة، ذلك العالم الذي يؤكد فيه الأطباء النفسيون ضرورة أن تنمو فيه مخيلة الطفل من خلال اللعب والعبث بالأشياء، أي تفكيكها وتركيبها وإعادة إنتاجها، لأن ذلك يمكّن الطفل مستقبلاً من فهم العالم والتأثير فيه، ولأن الطفل السلبي الذي لا يتفاعل مع العالم من حوله يكبر بمعزل عن العالم وحين يحاول، بعد ذلك، الدخول فيه والتفاعل معه لا يتمكّن من ذلك بسبب فقر مخيلته التي لم تتزوّد بما حولها في مرحلة التخصيب والتكوين.

لم يكن عقل سلمى يستوعب مثل هذه الرؤى النفسية، وهذا ما جعل الطبيب يختزل كل هذه التفاصيل في عبارة موجزة قالها في وصيته لها: «اتركي ابنك يعيش طفولته كما هي ولا تشوّهيها بأفكار الكبار»، فكان أن فتحت له الباب على مصراعيه ليكون طفلاً شقياً، وفي الوقت نفسه محاطاً بمعصميها عن الذهاب إلى مجالس الكبار أو حتى الاقتراب منها أو الذهاب معهم، برغم أن أقرانه الذين بلغوا التاسعة، أو العاشرة مثله، انضموا إلى سوق القرية ومنها إلى سوق المدينة، وقد حمل مرعي وحده من بين أقرانه أعباء وصية الطبيب وحرص أمه؛ فصار الصبيان الذين يشعرون أنهم كبروا يعيّرونه بأنه أخو البنات، وكثيراً ما ينشدون حين يرونه، تقريعاً له، «أبو البنات/ مبحبحات/ دقوا له شوكة وجربّات»، وقد ترك هذا النشيد الطفولي أثره في مرعي؛ فنبت بطريقة مغايرة لما توحي به تفاصيل طفولته الأولى في قرية عين شمس.

كانت أحاديث الناس في القرية، فور عودة سلمى، بوليدها الجديد، تدور حول ما شاع من أن ولادته كانت يسيرة جداً، وأنها تختلف عن ولادات النساء في القرية، بمن فيهن سلمى مع بناتها الخمس.

يعزو كثير من النسوة ذلك إلى النظام الغذائي الذي انتهجته سلمى هذه المرة بعد أن نالت اهتماماً كبيراً من زوجها الذي فتح الله عليه في الرزق، فاهتم بمتابعة المولود الجديد اهتماماً لفت أنظار أهل القرية.

علّقت إحدى النسوة على هذه الولادة الاستثنائية بعتاب شديد على رجال القرية الذين لا يلتفتون إلى زوجاتهم كما يفعل فهيد مع زوجته سلمى، وهي تعني برجال القرية زوجها الذي يقضي جل يومه خارج القرية بحثاً عن الرزق عابراً الطرق السريعة بحافلته مع من يجمعه من الركاب الذين يأتون للزيارة في فترة العمرة، أو في موسم الحج؛ ومع أنها تدرك عذر زوجها وحرصه على أن يصل بها وبأولادها إلى ما وصل إليه فهيد، إلا أنها كانت ترى فيه حظها العاثر الذي يبدو أنه يسير ببطء في حافلة رديئة، مفككة الأوصال، تدب في طريق المدينة كماعز هزيلة تبحث عن كلأ يابس في فلاة مقفرة.

عادت سلمى محاطة بعناية زوجها وأهازيج فتياتها الخمس، وفرح والدتها العجوز، وكانوا قد أعدّوا لها مكاناً في طرف البيت لاستقبال الزائرات وتلقّي التبريكات بالضيف الجديد.

بدا مرعي في لفافته كجرو صغير، لا تظهر من ملامحه سوى حمرة شديدة وعينين مغمضتين وفروة رأس وافرة الشعر كانت هي موضع انتباه ومبدأ احاديث النساء أثناء زيارتهن، فجل التعليقات تتفق على أنه يشبه أباه ، وأنه سيكون رجلا وافر الشعر كأعمامه، وكانت أكثر التشبيهات تذهب به إلى أعمامه الذين يبدو أنهم يتمتعون بهذه الصفة الخاصة في القرية، وهو ما جعل ذلك محلّ حفاوة سلمى، وقد سعدت بكل ما سمعته، مع ان «مرعي» جاء في صفاته مخالفاً لأخواته الخمس.

back to top