حبر و ورق

نشر في 21-10-2017
آخر تحديث 21-10-2017 | 00:00
No Image Caption
أوراق المورينغا

الورقة الأولى

فقراء.. ولكن

في قرية صغيرة تحيط بها أشجار الجوز الضخمة، تقع مدينة كوتشي بولاية كيرلا في المنطقة الاستوائية على الساحل الجنوبـي لشبه القارة الهندية.

بيت صغير تقدّم به الزمن فأُصيبت جدرانه بشروخ وتشققات بارزة وأبواب خشبية بعضها بلغ من العمر عتِيّا ولم تعد أقفاله صالحة للاستخدام سوى مفتاح الباب الخارجي الذي لا يزال صامداً أمام قهر السنين. ساحة أمامية صغيرة، زرعتْ أمي عند أطرافها أشجار المورينغا. أزهار مختلفة وحشائش أخرى تغطي بقعاً متفرقة أمام مدخل المنزل، تظهر حين تكرمها السحب بهطول الأمطار وتزهو ألوانها، ولكن بعضها يختفي حين تقتله أمي بسبب الحشرات المتطفلة عليها. في الداخل غرفتان تشكوان قلة الأثاث، إحداهما فيها لحاف سميك حصلتُ عليه من أحد السياح العرب، يستخدمه أبـي كي يقيه نزلات البرد الموسمية بالإضافة إلى قطع أخرى من الفرشات مختلفة الأشكال وبألوان غير متناسقة. أما الأخرى بها صندوق كبير يحتوي على أوراق كثيرة تغطيه طبقة من التراب تشير إلى مرور فترة طويلة من الزمن لم تفتح فيها أقفاله. غرفة ثالثة للطعام تتحول إلى مجلس لاستقبال أختي الكبرى عند زيارتها لنا. مطبخ صغير بالكاد يتسع لشخصين ودورة مياه وحيدة أشبه بزنزانة سجين ينتظر إعدامه. يلتصق بالمنزل الصغير، ملحق أصغر منه بكثير، أعيش فيه برفقة زوجتي «ناريان» التي أحببتها منذ عامي الأخير في المرحلة الثانوية.

عائلة بسيطة، تعبّر خير تعبير عن التسامح والتعايش، جذور شجرتنا تنقطع عند الجد الأول «علي» الذي يُقال إنه مات غرقاً برفقة بعض أصحابه التجار في إحدى الرحلات البحرية قبل ولادة أبـي. والدي يدعى «شافي» مسلم الديانة عاش يتيم الأب وزادت محنته بعد وفاة والدته وهو رضيع. ووالدتي مسيحية المعتقد تدعى «دانكيني» عاشت وحيدة حتى التقت أبـي وأنجبت منه أختي البكر «أليشا» قبل أن أرى نور الحياة ويقررا أن يسمياني «روشان».

روشان شافي علي، هذا الاسم الثلاثي الذي لا أعرف اسما سواه حيث ينتهي الحسب والنسب عند الجد الأول (علي). بشرتي حنطية، وعيناي واسعتان وحاجباي مقوّسان. شاربـي كثيف، لا أهتم به كثيراً. في منتصف الرأس، تظهر بقعة صغيرة جرداء كأنما الشعر يتجنب الاقتراب منها. لا يمكنني نسيان اليوم الذي شُجّ رأسي فيه بسبب سقوط أحد الأغصان الكبيرة عليّ. ملامحي توحي بأنني مزجت من الطبيعة الهندية الاستوائية والبيئة العربية الصحراوية. سريع الحركة ولكنني لست شخصاً اجتماعياً، كثير الكلام، ومنصت جيد. محب للقراءة وتطربني الموسيقى بكل أنواعها، ينتشر السرور على من حولي حين أشعر بأنني قد أصبحت صديقاً مقرباً منهم. تصرفاتي تبدو عليها المزاجية، أحياناً وبعد عمل يوم شاق، أشعر بالنشاط وفي أيام أخرى أفضل المكوث في البيت دون أن أحرك ساكناً. أحب العزلة وأصدقائي لا يتعدون أصابع اليدين. أخشى التغيير ولكنني أُجبر عليه فأتكيف. أعز أصدقائي «إبراهيم» وهو بمنزلة الأخ الذي ألجأ إليه حين لا أجد من يساعدني.

عشت في ظروف مادية قاهرة، أُجبرت على ترك مقعدي الدراسي في جامعة كوشين للعلوم والتكنولوجيا لشخص أكفأ مني مادياً. تعتمد عائلتي على ما أجنيه من الأعمال اليومية التي أقوم بها بين الحين والآخر فيراني البعض ابناً باراً. تمر بعض الأيام بلياليها من دون أن أجد عملا، أعود إلى والدتي بتذمر: «إلى متى سنظل نعيش في هذا الفقر». فتربت على كتفي وتبتسم: «نحن فقراء ولكن بقناعتنا أغنياء». لا أقتنع بما تقوله، فأغادر للتسكع في الأسواق.

أبـي عاجز عن العمل، كل ما يجيده هو إلقاء الأوامر على كل من يسير في باحة المنزل. وإن لم يجد أحداً، وضع كرسيه في الخارج عند قارعة الطريق مراقباً المارة ومنتظراً أحداً من أهل القرية ليبادله الحديث. تقوم أمي بكل أعمال المنزل من طهو وتنظيف وترتيب وتنفيذ جميع الأوامر بمساعدة زوجتي «ناريان» بينما تزورنا أختي «أليشا» من بومباي برفقة زوجها في المناسبات والإجازات الرسمية لتتدفق أسارير الفرح باجتماع العائلة في الأعياد السنوية.

في الماضي، سالت هنا وعلى تراب هذه الأرض دماء بعض الأبرياء من ديانات متعددة وأُزهقت أرواحهم الطاهرة في أحداث فردية، إلا أن تلك المصائب لم تزد سكان كوتشي إلا تلاحما وتآلفا. لقد حاول أعداء الوطن كثيراً هدم الروابط الإنسانية بين سكان الهند بسبب اختلاف العقائد والمذاهب إلا أنهم فشلوا في ذلك.

كانت مدينتنا ولا تزال رمزا للتسامح والأخوة، تندمج ديانات الأقلية المسلمة والمسيحية واليهودية مع الأغلبية العظمى لسكان كوتشي من الديانة الهندوسية. ففي شهر رمضان المبارك، تجد المسلمين يعيشون الأجواء الروحانية دون أدنى مضايقات. في النهار ينشغل الجميع بكسب الرزق بينما النساء يحضرن الإفطار الجماعي والأطفال يحاولون تقليد أهاليهم بتحمل الجوع والصبر حتى مغيب الشمس. عادة، يجتمع المسلمون بمختلف مذاهبهم في أحد المساجد ليؤدوا صلواتهم بعد حلول الليل وحتى انتصافه.

تزين الفوانيس الرمضانية المحلات والمطاعم لمشاركة المسلمين أفراحهم بقدوم الشهر الفضيل قبل أن يحل عيد الفطر المبارك. وفي أيام العيد، يلبس الجميع أفضل الملابس وتشاركنا الطوائف الأخرى التهاني والأفراح، حتى إنك لا تستطيع التفرقة بين مسلم وغير مسلم.

وبالمشاعر الصادقة نفسها، نهنئ المسيحيين بعيد الفصح ومولد سيدنا عيسى، وأحيانا نستضيف بعض المسيحيين من أصدقاء العائلة في منزلنا. وحين يصوم اليهود في يوم الغفران، تحضر أمي مع جاراتها بعض الأكل لتقديمه لبعض يهود الحي.

يحل عيد الهولي أو عيد الألوان كما يسميه الهندوس، فينتشر المرح في كل أرجاء المدينة لأن أغلبية الناس هنا يعتنقون الهندوسية، نتراشق بالبودرة المصنوعة من أوراق الورد والممزوجة ببعض الألوان فتصبح الهند أشبه بكراسة رسم لطفل حصل على علبة ألوان للمرة الأولى فقام بمزج بعضها ببعض فرحاً.

في إحدى ليالي الصيف الممطرة، وبعد أن عدت بشيء من قوت يومي. دخلت المنزل منهكا، أعدت لي زوجتي ناريان عشاء فالتهمته كحصان جائع ثم قمت بصعوبة وحملت جسدي ومعدتي المرهقة من الهضم إلى السرير لأغط في نوم عميق. قطرات المطر تنهمر على الأرض بغزارة والغيوم تصطدم بعضها ببعض ليضيء برقها، وصوت هزيم الرعد يزيد المكان رعباً.

الباب الخارجي يطرق بقوة، همت ناريان بالخروج من الملحق لفتح الباب قبل أن تلتقي أمي «دانكيني» وسط فناء المنزل. فتحت والدتي الباب بعد أن كررت السؤال بصوتٍ عالٍ عن هوية الطارق؟

«أنا أليشا افتحي يا أمي من فضلك» (أجابتها).

فتحت أمي الباب لأختي القادمة من بومباي. ملابسها مبتلة بالماء فلم تسعفها مظلة المطر لحمايتها أو حماية حقيبتها أو الأكياس التي بيدها. بدت أسنان أمي بارزة وابتسامتها تشق وجهها لرؤية ابنتها، بينما حملت ناريان بعض الأغراض التي أحضرتها أليشا ويد أمي ممسكة بمعصم أليشا باستقبال حار وشوق عارم حتى دخلتا المنزل.

دخل الجميع غرفة الجلوس، تبادلت النساء الأحاديث قبل أن يأتي والدي. نهضت أليشا لتقبل رأسه بينما بادلها التحية والفرحة بادية على محياهما. لم يمكث أبـي طويلا حتى استأذن للنوم بينما عادت النساء لمواصلة حديثهن. مضى الوقت سريعا حتى منتصف الليل وهدأت العاصفة الرعدية. نامت أختي في غرفة الضيوف وعادت ناريان إلى الملحق لتنام بجواري حين كنت للتو بدأت حلمي السابع في ذلك المساء.

الورقة الثانية 34 درجة

الشمس تشرق بلطف، وأشعتها تتسرب من بين الغيوم، ونسمات الهواء العليلة تحرك أوراق الأشجار وكأنها تحث الحيوانات والبشر للخروج من مساكنهم والاستعداد ليوم جديد. امتزج الطحين بالماء والزيت النباتي، وفاحت رائحة خبز الشباتي الهندي الذي أعدته أمي. بكت أوراق المورينغا قطرات من الندى قبل أن تقطفها أمي وتنهي حياتها لتأخذها زوجتي وتضيفها إلى قائمة المقادير لتحضر طبقاً خاصاً لأختي أليشا. وضعت حليب جوز الهند على النار بعدما خلطته بالبصل والثوم، ثم جعلت الملح يذوب في الحليب قبل أن تضيف مسحوق الطماطم والفلفل. بعدها حملت أوراق المورينغا الطازجة، الخالية من الشوائب ووضعتها على بقية المكونات. لم يكن ذلك الحساء الساخن الشعبـي مجرد طبق من الأطباق التي تجيد زوجتي طهوها بل كان يأخذ روحي إلى أيام جميلة مضت.

لطالما كانت شجرة المورينغا سر فضولي ومصدر إثارتي. حين كنت طفلا ألعب في باحة المنزل، كانت والدتي تحذرني من اللعب بالقرب من أشجار المورينغا خوفاً عليها من شقاوتي. كنت أتساءل؟ ما سر تلك الأشجار، هل تسكنها أرواح طاهرة تجعل من لونها أخضر براقاً. وإن كان الأمر كذلك، ما الذي سيحصل للأرواح الساكنة لو ماتت المورينغا؟ أو ربما هي من أشجار جنة الفردوس التي يكد الإنسان في دنياه ويسعى للوصول إليها. قد تكون كذلك، فأوراقها المتجهة إلى الأعلى كأنما تود العودة إلى عالمها الأول. لكنها لو كانت من أشجار الجنة، لماذا إذا قررت البقاء في عالمنا هذا؟

ذات يوم، أخذني الفضول لمعرفة سبب تعلق أمي بالمورينغا، حاولت أن أقتلعها من جذورها لمعرفة ماذا سيحدث لو.. صرخت أمي: ابتعد عنها أيها الشقي!!

هربت خوفاً من عقاب سيحرمني اللعب مع أطفال القرية، فلو عدت إلى المنزل لأحكمت الأبواب وأقفلت الغرفة عليّ حتى أنام من شدة البكاء.

أما الآن فقد أحببت المورينغا من العروق إلى الأوراق. عرفت أنها ليست مجرد نبتة. كانت وما زالت تضحي ببذورها وأوراقها وحتى عروقها لإشباعنا في ظل ظروف الفقر والجوع التي نعيشها. تارة، تأخذ أمي أوراقها فتعد لنا شرابا من أزهارها، وتارة أخرى تضيف أوراقها للأكل فيبدو كتلك الوجبات الشهية التي نراها على ملصقات المطاعم ولا نستطيع شراءها. بل أن المورينغا لم تبخل يوما ما علينا بشيء حتى ثمارها الصغيرة أو كما يُطلق عليها (قرون المورينغا)، تقوم زوجتي بطهوها بعد أن تغسلها جيدا.

استيقظت باكرا، ارتديت ملابسي وهممت بالخروج من الملحق. أشارت أمي إليّ عبر نافذة المطبخ بأن الفطور جاهز. لم أكن أعلم بوجود أختي أليشا، فتفاجأت بها وهي تمد ذراعيها الطويلتين لتحضنني خلف الباب.

يا له من صباح رائع برؤيتك أليشا. كم أنا متفائل اليوم، لابد أنني سأحظى بعمل جيد» (قلتها وأنا ألقي نظرة عليها ونظرة أخرى على الطعام).

«اجلس... اجلس... لابد أن فرحتك بهذا الطعام الشهي تفوق فرحتك بقدوم أختك» قالها أبـي ممازحاً.

ضحكت والأكل يشق طريقه نحو بلعومي.

البخار يتصاعد من كأس الشاي بينما أنا ألتهم اللقمة تلو الأخرى وأتحدث بكلمات ناقصة الحروف. فهمت أليشا بعضا من حديثي فأجابتني بأن زوجها بصحة جيدة.

تناولت ذلك الطعام اللذيذ على عجالة من أمري لأبحث عن رزقي قبل أن تطير به الطيور المبكرة.

بدأت يومي كسائر الأيام، وصلت إلى الساحة الكبيرة بوسط المدينة. وقفت أراقب كل من يأتي لعل أحدهم يحمل معه رزقي. لم أنتظر طويلا، أحدهم يحتاج إلى عاملين لحمل أكياس من الإسمنت من أمام بوابة عمارته ونقلها إلى الطابق الثالث. اتفقنا على الأجرة بعد مكاسرة وتفاوض أقنعته بزيادة أجرتي عشر روبيات إضافية. ثم ناديت أحد العمال ليقاسمني الأجرة ويساعدني في إنجاز المهمة.

نزف الطائر الصغير

الخيانة العُظمى

تفكّك الاتحاد السوفياتي رسمياً في 25 كـــانون الأول 1991. في ذلك اليوم كانت أمي تعاني من آلام المخاض منذ ساعات الصّـباح الباكر، ولم يكن أبـي يظهر أيّ بادرة للتّعاطف مع هذه التي يوحي تلوّيها وتقلّصات وجهها بأن في داخلها شيئاً ما يتململ ويسبّب لهــا تشنّجات موقّتة، وأوجاعاً في قاع بطنها تشعرها بأنّ ثمّة بالوناً انتفخ فيها يوشك على الانفجار. كنت أنا تجربة أبـي وأمي الثالثة بعــد تجربتين ناجحتين أحضرا فيهما إلى العالم أختي الكبرى «رشا» وأخي الذي سوف يصبح بعد ساعات الأوسط «رائد».

في الوقت الذي كان يُشهرُ فيه انهيار جزء كبير من العالم كنتُ التّجربة الثالثة. أنا هذا الكائن غير المرّحب به من أحد، والــذي لم يحرّك صخبُه، وضيقُه من المكان الذي طالت إقامته فيه، ولا معاناة أمّه، الرجل الذي كان يجلس بلا اكتراث مدّعياً الانشغال بعمل شيءٍ ما.

لم يُستفزّ أبـي لشعوري بالملل، ولا لرغبتي في تجربة عالم جديد غير هذا الذي أقبع فيه منذ زمن. لن تكون مسألة سهلة أن يشــغله أمري؛ لأنّي لم أكن أُثقل على أحشائه، ولا كــان صــوتي يكسر هدوءه، ولم يبلّله بحر السوائل الذي أعوم فيه.

لم يكن ليفهم بأني قد حزمـت أوردتي وأضلعي وأقعيتُ على مؤخرتي مثل عدّاء المسافات القصيرة علــى بوابّـة الدخول إلى الدّنيا. كان يتجاهل رفضنا أنا وأمي للدّور السّلبــي الذي يلعبه بهذه الواقعة، ولا انتبه لإعلاني الصارخ بأنّي قادم، لقــد صرخت عليه دون أن أولي مسألة احترام الكبير والأب الأخلاقيّات اللازمــة لذلك:

هيه هيه انتبِه، أنا هنا، أتعبني الدقّ بقدميّ على بابكم، هيه...

أنا قادم، فخذوني.

لم يسمع صراخي، ولم تستفزّه آهات وأوجاع أمي، ولا تململها في البحث عن اللاشيء لتتلهّى به، وتخفّف عن نفسها الآلام المبرحة التي تعانيها.

باءت محاولاتنا بالفشل، ولم نقدر على إقناعه بأن يترك ما يتلهّى به، وأن يبادر لمواساة زوجته الحبيبة التي كانت تطوف أرجاء البيت متلويّة تشدّ على خصرها وكأنّها تسعى لدفعي بعيداً عنها، ولأن تلقي بـي على الأرض دون أن تشغل بالها بما سوف تؤول له حالتي إن سقطت، وارتطم رأسي بالبلاط وتهشّم في اليــوم الأوّل لي على الدّنيا. لم يكن يشغلها غير أمرٍ واحدٍ، أن تتخلّص من هذا الألم القاسي الذي تعانيه، حتى لو كان على حساب تهشيم رأسي.

كان قدوم الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف لسـدّة الحكم، وخططه الواعدة بإعادة البناء، وخفض التوتر السوفياتي- الأميركي، قد مهّد الطريق إلى الانهيار السلميّ نوعاً ما لهذا الكيــان، بعد أن كان يُعرَف بأنه القطب الثاني الذي يحفــظ تــوازن كرتنـــا الأرضيّة؛ هذا الكوكب الصغير الجميل.

انهيار أمي الذي كان يزرع الرّعب في عيون رشا ورائد لم يكن يعني لأبي شيئاً، فهو قد خبر هذه التجربة مرتين قبل الآن، كانت مدلّلته أمي تخدعه وتتلاعب به فيهما حسبما راقَ له أن يرى المسألة، وكأنه كان يريد أن يردّها لها.

في التجربة الأولى وبطلتها «البنت رشا» التي تكبرني بسبع سنوات كانت أوجاعه أقسى من أوجاع زوجته، تملّكه الفزع، وصار يتقافز في البيت مثل كرة مطّاطة، أو مثل فأر مطارد على غير هدى. تناول حقبية ملابس المولودة القادمة التي لم تكن معنيّة بما يدور من حولها آنذاك، فهي وقتها على العكس منّي كانت تعرف أنّ أوان دخولها إلى الدنيا لم يحن بعد، وأنه ما يزال لديها بضــعة أيـام لوداع الرّحم الدافئ الذي تسكنه مرتاحة.

مِن معرفتي بأختي يمكن أن أفترض أنّها كانـت تعــرف كــم يتلهّف الاثنان لحضورها، على عكس ما يحدث معي، لهذا كانت تتمنّع وتمضي في الدّلال وهي ترى مدى الاشتياق لهــا. في تجربــة «رشا» ورغم كل محاولات أبـي وأمي الحسابيّة لتجنّب مسألة الحمل في أوّل سنتين من الزواج؛ لقضاء شهر عسل يستمرّ أربعة وعشرين شهراً، إلا أنّ حماستهما وشبابهما والإثارة التي كانت تستلبهما معاً أعمتهما عن حركاتٍ كانا يمارسانها في الفراش، وعـــن وجود كائن لا يرى بالعين المجرّدة تَسحّب بحركةٍ شـهابيّة وحطّ داخل بويضة كانت مهيّأةً لاستقباله.

المؤامرة التي قضت على خطة شهر عسل يدوم لسنتين كانــت محكمة، فالكائن المجهريّ استطاع الإفلات والسباحة إلى الحانة التي كانت متهيئةً لاستقباله، لم تقاوم غزوه لها، بل احتضنته، وأحكمت حصارها الولهان عليه، فحطّ رحالُه، وقرّر أن لا يبرح موطنهُ هذا إلا بعد تسعة شهور. نسي الزّوجان فكرة شهر عسلهما الطويل، وفرحا بصنعتهما اللطيفة.

في تلك الأيام، وقبل ميلاد «رشا»، كان أبـي يتخبّط بلا وعي، يلوم نفسه وغريزته البهائمية التي خلت حبيبته الصغيرة تعاني كل هذه الأوجاع. حاول أن يخفّف من آلامها بكلمات لطيفة حلوة مهدّئة، وبمسح عرقها الذي يغطّي وجهها ويبلّل شعرها. أسندها على كتفه وأسرع بها إلى المستشفى من غير أن يدعها تلامـس الأرض بقدميها. أجلسها في سيارته، وألقى على المقعد الخلفي بحقيبة تحتوي ملابس أختي التي لم يعرفا على أيّ هيئة ستكون، أشعل أضـــواء السيارة في وضح النهار، ولم يرفع قبضته عن البوق إلا لثوانٍ كان يشدّ بها على يد أمي مشجّعاً. أمام بوّابة مستشفى الأمل للتوليد تخلّى عن أدبه الذي يتحلّى به، وصرخ على الممرضين بأن يسرعوا لنجدة زوجته.

طلب النّجدة للزوجة وهلعه عليها سخريةٌ حلوة، فالرجل يريد من الآخرين أن ينقذوا زوجته من فعلته هو.

طلقٌ كاذب.

هذا ما قاله الطبيب صديق العائلة الذي استدعي على عجل. دخل المستشفى راكضاً وقد تخلّى عن أناقته التي كانت تشدّ النساء إليه، فقد كانت ربطة عنقه ساحلة عن موضعها، وكان نصف قميصه فالتاً عن خصره.

بعد ستة أيام كاملة، وثلاث رحلات خائبة إلى المستشفى، وثلاث كذبات طلق واجهها الطبيب بها دون حـرج، قرّرت الصغيرة أخيراً أن تدخل إلى الدنيا، وأن تبارح وطنها الذي عاشت فيه تسعة شهور مكرّمة منعمة.

مع أخي الأكبر «رائد»، وبعد ثلاث سنين، كانت ذاكرة أبـي لا تزال غائمة، صدّق وجع أمي مرّة واحدة وأسرع بها إلى المستشفى، وعاد خائباً دون أن يكون معه القادم الجديد، لذلك فهو لم يصدّق وجع المرّة الثانية إلا عندما رأى ماءً أبيض نقياً يسحل من بين فخذي أمي.

يوم الخامس والعشرين من شهر كانون الأول ســنة ألــف وتسعمئة وواحد وتسعين، وكان يصادف ذلك اليوم عيـد المـيلاد المجيد للسيد المسيح عيسى حسب تقويم مسيحيّي الغرب، أعلن رسمياً عن انهيار الاتحاد السوفياتي.

back to top