على هامش معركة «الرينبو»

نشر في 15-10-2017
آخر تحديث 15-10-2017 | 00:12
المثليون المصريون وغيرهم في معظم الدول العربية سيظلون في موقفهم الراهن، لحين تبدل نظرة المجتمع لهم، واعتقاد القوى الحية فيه بأن وجودهم مشروع، ولا يشكل خطراً على المنظومة القيمية الوطنية، وهو أمر لا يبدو مستساغاً أو قريباً على أي حال.
 ياسر عبد العزيز في شهر سبتمبر الماضي، رفع شبان علم قوس قزح (الرينبو) المؤيد للمثليين، في حفل غنائي أقيم في إحدى ضواحي القاهرة، تعبيراً عن تشجيعهم لمؤسس الفرقة التي أحيت الحفل؛ وهو أميركي من أصل لبناني كان قد أعلن مثليته، وفخره بما هو عليه.

في أعقاب هذا الحادث، توالت ردود الفعل الصاخبة من كل الأطراف المعنية، وهيمن موضوع المثلية الجنسية على الكثير من المعالجات الإعلامية، وتفاعلات "السوشيال ميديا"، والنقاش العمومي، وهو الأمر الذي أعاد طرح أسئلة يبدو أنها لم تجد إجابات شافية بعد.

أربك التصرف، الذي بدا مباغتاً وقت حدوثه، قطاعات مختلفة في الدولة والمجتمع والنخب، وبدا أن هناك تهيباً وتخبطاً في معالجة الأمر، خصوصاً أن مسألة المثلية الجنسية تكاد تكون مطمورة في المجتمع المصري، وثمة حالة من التعامل معها باعتبارها أمراً واقعاً يجب تجاهله، ولا يُحبذ إخراجه إلى العلن أو طرحه على أجندة الأولويات العمومية.

لا يبدو أن هذا ما يريده المثليون تحديداً؛ فيكفي أن نعرف أن نشطاء بينهم حرصوا على تسجيل الفخر برفع العلم، وتأكيد ضرورة تقبل ظهورهم في العلن، كما أن إحدى الصفحات الرئيسة المعبرة عنهم على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وتُسمي نفسها "رينبو إيجيبت"، وصفت ما جرى بأنه "انتصار صغير".

لم يكن هذا "الانتصار" مجانياً على أي حال، بل دُفع فيه ثمن كبير وموجع؛ إذ هاجمت "الميديا التقليدية"، انطلاقاً من ذرائع "الدفاع عن الدين"، أو "سمعة الوطن"، أو "البحث عن الرواج" (الترافيك)، ما جرى، وراحت تضغط وتحذر وتستحث أجهزة الدولة والمؤسسة الدينية الرسمية على "إنقاذ الدولة" من السقوط بسبب رفع العلم الملون.

وانقسمت "الميديا غير التقليدية" إلى قسمين كبيرين رئيسين، وقد تحارب القسمان مستخدمين أبشع الألفاظ وأوهى الحجج في آن، إما دفاعاً عن "الدين"، و"الشرف"، و"الوطن"، أو انتصاراً لـ"الحرية"، و"حقوق الإنسان"، و"التقدم"، و"الحداثة".

وتحت هذه الضغوط الهائلة، لم تجد الدولة بداً من التحرك، لإثبات حسن نواياها، ودفاعها عن "مستودع الثوابت"، فراح ضباط الأمن العام يراجعون قوائم المثليين المحفوظة في أدراج مكاتبهم، ليختاروا عدداً منهم، يتم إلقاء القبض عليهم، وتوجيه اتهامات لهم بـ"ممارسة الفسق والفجور"، ومن ثم حبسهم احتياطياً، تمهيداً لمحاكمتهم.

تقول منظمة العفو الدولية إن العشرات من المثليين تم إلقاء القبض عليهم من منازلهم عقب حادث رفع علم "الرينبو"، وأن بعضهم تم إصدار أوامر قضائية بحبسه، وأن بعضهم أُجريت له فحوص طبية "مهينة للكرامة".

لقد خلفت هذه الأحداث مرارات وغباراً كثيفاً، ولم يبد أن أيا من الأطراف العالقة بها حقق نجاحاً أو ارتياحاً.

الجمهور محتقن، لأنه، في عمومه، ينظر إلى المسألة باعتبارها هجوماً كاسحاً على معتقداته وقيمه، وهو يريد الضرب بيد من حديد على هؤلاء الذين "ينتهكون الثوابت الدينية والوطنية"، ويغرون بـ"الرجولة"، و"يذبحون كبرياءها".

الدولة مرتبكة لأنها تقف في هذا الشأن بين معضلتين وتعمل تحت قيدين؛ أولهما صورتها في الخارج، وموقفها لدى المؤسسات الأممية ومنظمات حقوق الإنسان والدول الكبرى الصديقة، الذي سيسوء، إن تصرفت بما يعني "إهدارها كرامة المثليين وحقوقهم وتجاوزها للقانون"، وثانيهما يتعلق بصورتها الداخلية لدى قطاعات الجمهور المحافظ، وخصوصاً في مواجهة عدوها الداخلي المتوسل بالدين، الذي سيستغل مثل تلك الأحداث، لتلطيخ سمعة الحكم، ووصفه بأنه "فاسق" و"مروج للفتن" و"معتد على القيم".

المثليون أيضاً، الذين لا توجد تقديرات موثوقة لأعدادهم، باتوا في موقف أصعب من قبل؛ إذ تم إلقاء الضوء على بعض أنشطتهم، والتحفز لمواجهتها، وفرض مزيد من القيود على حركتهم.

ورغم أن بعض صفحاتهم على "السوشيال ميديا"، تحدثت عن "نضال" و"أثمان" يجب أن تُدفع للحصول على "الكرامة والاعتراف"، فإن آلة المواجهة ذات الطابع القانوني يمكن أن تكبدهم خسائر لا يمكن تحملها.

لا يمكن فهم ما جرى في مصر بخصوص "المثليين" في الشهر الماضي، أو ما جرى قبل ذلك في أكثر من بلد عربي بخصوص الأمر ذاته، من دون أن نربطه بالسياق العالمي للقضية.

لقد تحرك هؤلاء المثليون في مصر، ومن قبلهم بعض نظرائهم في دول عربية أخرى، نحو تسجيل الوجود ورفع العلم والاعتداد العلني بالهوية، مدفوعين بجملة من التطورات التي صبت في مصلحتهم على الصعيد العالمي أخيراً.

ففي شهر يونيو الماضي، أقر البرلمان الألماني زواج المثليين، رغم معارضة المستشارة أنجيلا ميركل، لتنضم ألمانيا إلى أكثر من 20 دولة (معظمها في أوروبا) تقر زواج المثليين، أو بعض الحقوق الأخرى لهم (من بينها حق التبني).

عند استعراض تلك الدول سنجد أن معظمها يقع في قائمة البلدان الأغنى، والأقل احتفاء بالدين، والأكثر بعداً عن القيم المحافظة.

ورغم ذلك، فإن كل دولة من هذه الدول مرت بمخاض صعب لكي تصل إلى قرار يعترف بالمثليين ويقنن لهم مكاسب وأوضاع قانونية، وقد تأخر هذا الأمر تأخرا كثيراً، حتى إن هولندا التي كانت أول دولة تعترف بزواج المثليين، لم تفعل هذا سوى عام 2001، في حين فرنسا التي توصف بأنها "بلد الحريات" عادة، لم تصل إلى هذا القرار إلا في عام 2013.

ولكي يستطيع البرلمان الألماني أن يمنح المثليين حق الزواج، خاضت كتل وأحزاب ونواب معارك كثيرة على فترات متباعدة، ولم يكن بوسع البرلمان إقرار هذا القانون، رغم معارضة المسشارة، إلا بعدما أظهرت استطلاعات الرأي أن 75% من المواطنين يقبلون به، كما أن الكنيسة البروتستانية وافقت عليه.

يشير ذلك إلى أن مسألة الإقرار بوجود المثليين والاعتراف بـ"حقوق مزعومة" لهم، وتمتعهم بحماية قانونية، وإقرار حقهم في الزواج، مسألة لا تتعلق بالقانون والدولة بقدر ما تتعلق بالمجتمع ورؤيته وترتيبه لأوليات القيم.

لذلك، فإن المثليين المصريين، وغيرهم في معظم الدول العربية، سيظلون في موقفهم الراهن، لحين تبدل نظرة المجتمع لهم، واعتقاد القوى الحية فيه بأن وجودهم مشروع، ولا يشكل خطراً على المنظومة القيمية الوطنية، وهو أمر لا يبدو مستساغاً أو قريباً على أي حال.

* كاتب مصري

أحداث مصر الأخيرة مع المثليين خلفت مرارات وغباراً كثيفاً ولم يحقق أي من الأطراف العالقة بها نجاحاً أو ارتياحاً
back to top