الباحثة كارولينا الخوري البعيني: «الفلسفة العيادية»

دليل الذات الرازحة تحت الحياة العصرية

نشر في 13-10-2017
آخر تحديث 13-10-2017 | 00:00
منذ نشوئها في أقدم العصور، لم تتوقّف الفلسفة عند مرحلة معينة وتتجمّد فيها بل راحت تتطوّر مع الحقبات التاريخية والسياسية والاجتماعية وصولاً إلى اليوم، باعتبار أنها تعنى بجوانب الإنسان الوجودية كافــة. في سيــاق التطور هذا أصدرت د. كارولينا الخوري البعيني كتاب «الفلسفة العيادية» الذي يتميز بطرح جديد في ما يسمى بالطب الفلسفي الذي يقوم على المصالحة مع الذات ومع الآخر والحوار معه، وذلك في محاولة لمعالجة الداء الذي يعصف بالفكر في الوقت الراهن.
لا شك في أن «الفلسفة العيادية» يمهِّد لعلم قد يعصرن الفكر ويخرجه من شرنقة الآفات التي تفرضها عليه الأزمات التي يواجهها العالم اليوم، أبرزها التعصب والانغلاق والتطرف الديني وما إلى ذلك من مخاطر تهدد الإنسان اليوم في حاضره ومستقبله... وفيما يلي حوار مع الكاتبة:
«الفلسفة العيادية» عنوان قد يوحي بأن مضمون الكتاب صعب، فماذا تعنين به؟

يدلّ عنوان «الفلسفة العيادية» على وضع كل المخزون الفلسفي التاريخي في خدمة الإنسان وقراءة ذاته، فتحلّل مشاكله وتضمحل حوارياً. كذلك يدلّ على دخول الفلسفة في المعترك العيادي، وهو المعترك العائد في جذوره إلى الفلسفة السقراطية التوليدية.

ويحمل في طياته الأطر التي تحملها كلمة عيادة من حيث العلاج بالفلسفة لإيجاد الحلول.

تتطرقين إلى قضية جديدة لم يتمّ التطرق إليها في الجامعات اللبنانية أو العربية، هل يمكن القول إن العصر الحالي ومتطلباته فرضا عليك اختيار هذا الموضوع كمحور لكتابك؟

القضية جديدة فعلاً، ويمكن أن نجزئها الى أطرافها، من حيث أن الجدّة أضيفت إلى الفلسفة. القضية الأساس، أي الفلسفة، هي الجوهر الذي تقع بقية المحمولات في ثناياه. ولكن النسبة العرضية المسيطرة في عالم اليوم جعلت الجوهر يتوارى بعدما عُمد إلى تعطيل الفكر ودمس الذات الحّرة، فأصبحت ذاتاً مرضية. هذا ما استدعى استقراء التاريخ الفلسفي الكامل واستنباط الحلول التي يمكن أن تغطي فجوات الانعطاف العرضي الكامن مكان الاكتفاء الجوهري. لذا يصب هذا الموضوع ضمن الحاجة القصوى لتفعيل الجوهر وإغناء الحياة به. فالحياة المعاصرة تستدعي استنباطاً سريعاً للطاقات الجوهرية كافة وعصرنتها، وإلا رحم الله عصراً جديده عرض وقديمه مدثور لعدم اللحاق بسرعة بداهة العصر!

هل هذه الفلسفة أقرب إلى الواقع المعيوش من الفلسفة التقليدية المتعارف عليها؟ بمعنى آخر، هل هي بمتناول الجميع خلافاً للفلسفة التقليدية التي هي في متناول النخبة من المثقفين فقط؟

إنها فلسفة الواقع من حيث إعمال العقل والمنطق في ثنايا الحياة اليومية. يكفي أن نتموضع في حضرة المنطق الفلسفي الجدلي الحواري المتدرّج وخبرة الفلاسفة عبر التاريخ لبلوغ أفق الحلول اليومية الواقعيّة.

إنها بالتالي وضع آفاق النخبة بمتناول الجميع لتوسيع الآفاق من جهة، وتحرير الفلسفة من أسوار التعليب الأكاديمي الذي يستهلكها ضمن موازين تقليدية. فالفلسفة يجب أن تبقى المحفّز الأول لحركة الفكر والنقد والعمل.

مقومات ومحطات

ما هي أبرز مقومات الفلسفة العيادية؟

مقوماتها هي مقومات الوجود الإنساني بكامله. فالمستشار الفلسفي يضع كل الخبرة الفلسفية التاريخية، التي تمثّل الوجود الإنساني وتطوّره وتفاعله بمراحله كافة، في خدمة المستشير قاصد العيادة الفلسفية. هي المقومات التي ترتكز على حرية الذات وقبول الآخر وتفعيل الإرادة الخيرة، أي إرادة المعرفة والاقتدار، بهدف السعادة والسلام والعيش الأفضل.

ما أبرز المحطات أو آليات عملها؟

للعيادة الفلسفية ركنان أساسيان هما المستشار والمستشير. يعتمد المستشار آلية متخصّصة لتزويد المستشير بتفسير كامل ومتكامل عن سؤاله أو الإشكال الذي يتعبه بغية الوصول إلى درجة عالية من الوضوح الفكري. هذه الآلية حوارية سقراطية تختصّ بتوليد الأفكار لدى المستشير، قاصد العيادة الفلسفية فيبلغ تدريجاً نوعاً من التوافق الفكري لاستنباط حلول واقعية مناسبة تنير السؤال أو المشكلة المطروحة.

إلى أي مدى يجيب الكتاب عن أسئلة الإنسان المعاصر الوجودية؟

يعدّ هذا الكتاب كالعدّة الأساسية التي يجب أن يعود إليها الإنسان المعاصر لبلورة ذهنه والعودة إلى ذاته. فهو كدليل للذات التي باتت الحياة العصرية تتآكلها. إنّه بمثابة تمهيد يمكن للقارئ أن يستوضح منه أفق الفلسفة العيادية كاملاً، من ألف توجهاتها إلى يائها، لتصبح متفاعلة بإلحاح في ثنايا مشاكله اليومية، تنيره وتعالجها، فلا يغض النظر عن أي استضاح ولا ينجرف باتجاه «نفسنة» همومه اليومية. هذا الكتاب يسهم في انتشال الفرد من الغرق في يمّ من التداعيات الملتبسة التي، وإن تركت أو أهملت، فهي لا محال آخذة به إلى أمراض نفسية وعصبيّة عصيبة.

هل يمكن القول إن الفلسفة العيادية هي مرحلة جديدة من مسار الفلسفة عبر التاريخ، أم علم مستقل قائم بذاته؟

هي مرحلة عصرية من تاريخ الفلسفة، تردم الهوة التي تراكمت على مرّ الأجيال وشوهت جوهر الفلسفة كعنصر من الحياة وإليها، تلك التي حوّلتها إلى أداة تلقينية خبريّة منمّطة تفتقد النقد والبناء. أما من حيث علميّتها، فالفلسفة العيادية تعصرن مركزية الفلسفة كأمّ للعلوم وتستفيد من هذه العصرنة من خلال التداخل القائم مع العلوم الأخرى، وهو أبرز سمة للمعرفة العلمية والثقافة العالمية في أيامنا. كذلك يجدر التنويه بأنّ الفلسفة العيادية تحمل مقومات العلم من حيث آلية المنظومة التخصصية المتبعة فيها، التي لبلوغها تستوجب مهارات وسلوكيات وتميّزاً معرفياً شمولياً. يتبع المستشار الخطوات العلمية التالية مع مستشيره: الأعراض والتشخيص، ومفاتيح الفهم، وطرائق العمل، ورؤية جديدة لمعنى الوجود. وهذه النقاط مشروحة بإسهاب داخل الكتاب.

المشرق العربي

ما اهمية العيادة الفلسفية في مشرقنا العربي؟

يعاني شرقنا العربي أسوار الظلم والعبودية المتربصة بالفكر، وهو داء عضال يضرب النفوس ويعطِّل عمل الفكر والروح. وخير دليل على ذلك، ضعف الرؤية التي تسيطر على مجتمعاتنا وارتكاس فعل التفكير وإبطال عمل النقد، ما يجعل مجتمعاتنا نماذج منمّطة استهلاكية تفتقد إلى الإبداع. بالتالي، هي حرب منمقة لإلغاء تاريخ إنساني فكري، لطالما كان المنارة للعالم كله. الداء في الفكر والدواء في إعادة إعمال الفكر ومصالحة الذات مع ذاتها ومع الآخر، وإقامة حوار نقدي بناء معه. وهذه العناصر هي أسس المنظومة الفلسفية العيادية.

تدعين في كتابك إلى «طب فلسفي»، فهل مردك في ذلك إلى مقاربة نوع جديد بعيد عن المتعارف عليه في الطب التقليدي والنفسي؟

طبب أي عالج وداوِ. في الطب التقليدي، يعالَج المريض من مرض أصابه. وفي الطب النفسي يعالَج المريض من داء أصاب نفسه وهي مركز الانفعالات في الإنسان. وعبارة الطب الفلسفي تبرز المنحى العلاجي ذاته لداء أصاب الروح وهي مركز الفكر والتعقّل. وبالتالي، كما ينغمس الطبيب في التخصصات الجسدية ودقائقها، وكما يتخصص المعالج النفسي بدراسة حذافير الانفعالات والأعراض النفسية، كذلك يعنى المعالج الفلسفي، بمعالجة الروح وانخراط الذات في جوهر تكوينها المتعقّل والمتوازن والحواري، فتصح عبارة أفلاطون الشهيرة:» يعالج الفيلسوف الروح، كما يعالج الطبيب الجسد».

منحى تطبيقي

رداً على ســــؤال حول جديدها الذي تعمل عليــــه راهنــــا توضــح د. كارولينا الخوري أنه: «بعد صدور كتاب» الفلسفة العيادية حوار علاجي لهموم يومية»، الذي يعد التمهيد للفكر الفلسفي العيادي، أتطلع إلى المنحى التطبيقي العملي أي إلى الانطلاق بالعيادة الفلسفية واستقبال كل متسائل أو مهموم بهموم يومية أو وجودية وهي كثيرة وتتزايد مع هموم العصر ومتطلباته».

وتضيف: «على أن تكون الخطوة التي تواكب العمل العيادي، إصدار كتاب آخر لاستجلاء نماذج عيادية وفقاً للدراسة المعمقة التي قمت بها عن التأويل وأفق الإفادة منه في الفلسفة العيادية، مركزة على نموذج بول ريكور وأوسكار برينيفييه، وهو البحث الدكتورالي الذي قد يكون يوماً مرجعاً في لبنان والبلاد العربية في التخصص الفلسفي العيادي. وأنا سعيدة أن يكون لبنان رائداً في هذا الخضم.

الحياة المعاصرة تستدعي استنباطاً سريعاً للطاقات الجوهرية وعصرنتها

الداء في الفكر والدواء في مصالحة الذات وإقامة حوار نقدي مع الآخر
back to top