انتحار ميت

نشر في 01-10-2017
آخر تحديث 01-10-2017 | 00:00
 ناصر الظفيري كان التعليق المقيت يقول "كان يأكل ويشرب ويعيش، فلماذا ينتحر؟".

لن أكتب عكس قناعتي، وأقف مؤيدا لانتحار الشباب البدون المحبط والمضطهد. فأنا أؤمن بأن الحياة أثمن بكثير من أن نضحي بها من أجل لا شيء. لكنني أؤمن أيضا بأن التضحية بهذه الحياة من أجل أهداف سامية، كالدفاع عن الأرض والعرض، أمر مبرر، حتى وإن كانت تلك التضحية أقرب إلى الانتحار، حين يعرف الإنسان نتيجة نهايته.

حالة انتحار الشاب البدون أخيرا، والتي تفاعل معها المجتمع لفترة من الوقت، وسينساها أو يتناساها بعد فترة وجيزة، وبعد أن تحل محلها حادثة أخرى، هي حالة صراخ جسدي، لكنها ليست حالة صراخ فردي. إنها محاولة لاستنهاض ضمائر إنسانية أوغلت في العداء لفئة لا تمتلك وسيلة للدفاع عن نفسها سوى أن تلجأ إلى النيران، لإنهاء الوجود الجسدي، وتخليصه من هذه القيود.

لجأ بعض شباب البدون من قبل إلى شنق أنفسهم، للتخلص من عبء الوجود المذل. هذا الوجود المهدد كل يوم، سواء من المؤسسة الرسمية، أو الشعبية. في فترات سابقة كانت السلطة تقف ضد حقوق البدون، لكنه يجد متنفسا لدى قطاع كبير من الشعب، الذي يرفض قرارات الحكومة الجائرة. اليوم لا يجد إلا قلة قليلة من أصوات تناصره وتقف معه. فيجد نفسه أكثر عزلة وانعزالا، وربما اتهاما، بعدم أحقيته في الحياة. وهو ينتحر كإنسان ميت، لا كإنسان حي.

حين يُحاصر الإنسان، ويواجه الرفض من السلطة والشعب، وتضيق به سبل العيش، ويتحول إلى شبه إنسان، فليس أمامه سوى البحث عن وسيلة للخلاص. والخلاص هو الخروج من هذه الدائرة التي تحيق بحياته، لكنه أيضا خلاص مستحيل، فليس بإمكان رجل معدوم الوثائق، أي معدوم الوجود، أن يجد سبيلا لهذا الخروج. الحل الوحيد هو الخلاص الجسدي، وهو الحل الأخير لانتفاء جدية الحياة ولعبثية هذا الوجود وقلقه، الذي لم ولن ينتهي كما يبدو. لكن السؤال الأهم؛ لماذا يلجأ المحاصر إلى النار كوسيلة للخلاص؟ لماذا لا ينتحر بهدوء في بيته؟

الإجابة عن هذين السؤالين بكل بساطة، هي: أن يكون الخلاص مناسبا لسبب هذا الخلاص. النار رسالة قاسية يوجهها المنتحر لمحاصريه، رسالة ترعبهم وتذكرهم ببعدها الديني، وأن ما حدث كان فعلا أرغموه عليه، وكأنهم هم مَن أشعل النار بجسده.

هذه الرسالة المفزعة يتوقع منها الشاب الذي ضحَّى بحياته من أجلها أن تصل لفك الحصار عن كثير من الشباب الذين يعانون مثله تحت وطأة هذا الحصار.

ما أزعجني في هذه الحادثة، هو ردة فعل المؤسسة الأمنية، التي كانت تبحث في توجيه التهمة له، لأنه عمد إلى إنهاء حياته بيده. وتلك حالة تشبه إلى حد ما حالة هروب الزنوج وأبنائهم من السيد الأميركي في زمن العبودية، والتي تعتبر العبد تعمد التعدي على ملكية السيد الأبيض، ويجب أن يُشنق، كي لا يسلك هذا المسلك عبيد آخرون. وردة فعل المؤسسة الدينية التي تحكم مباشرة على المنتحر بنار أخرى في الآخرة، دون النظر في أسباب هذا الانتحار. أما الجملة الأولى في المقال، فهي ردة فعل الشارع، وهي أقرب إلى الإحساس بالبلادة، كي لا نقول شيئا آخر.

back to top