الفكاهي... ما قدره؟

نشر في 30-09-2017
آخر تحديث 30-09-2017 | 00:04
 جري سالم الجري "مدرسة المشاغبين" شوهت سمعة التعليم، وبعض المسلسلات الخليجية الساخرة على الأخضر واليابس استفزتنا، فالإعلام يتلذذ بالضحك على الناس لا الضحك معهم، فوجب قمع الضحك ولمَ لا وهو طارد لخيلاء الرجال ومُذيب للكبرياء؟ أولم يقولوا إن المزح مجلبة للبغضاء بين الأصحاب؟ ومضعفة لحشمة المجالس؟ ولكن كيف اشتهر أينشتاين بألعاب طفولية؟ وكيف أحب الشافعي المداعبة؟ كما أن أشرس المفكرين مثل الجاحظ خصص كتاب "البخلاء" لجمع الفكاهة، إضافة إلى ابن القيم في كتابه "الأذكياء"؟

لماذا نشر أطباء النفس وعلماء المخ أبحاثا مفادها أن الكوميديا تحتاج إلى درجات ذكاء عالية لاستيعابها، وأنواع عبقرية لإنتاجها؟ بوصفهم أن الفطين تتفرقع في دماغه نكات ذات تفاصيل دقيقة، سواء طبية أو فيزيائية أو فقهية، لا يدركها الكثير، وتكون هي الألذ! ولكن هل هي لذة قليلة الأدب؟ وقد قال أحدهم وهو عابس بزاوية المجلس محافظا على شخصيته الثقيلة: "الضحك بدون سبب قلة أدب".

إذا جئنا بزوجين في المختبر، ريهام وحمدي مثلا، وضعنا على رأس ريهام خوذة مليئة بالأسلاك لقراءة النبض الكهربائي في دماغها حينما يلقي حمدي طرفة، وهو يقول "عيان طبطب على صدره الطبيب، وقال له ما تخفش يا بني، هو فعلاً إنها أول عملية ليك. بس افتكر، إنها كمان أول عملية ليّ!"، ستدخل موجات الصوت إلى طبلة أذنها لتحمل معها النبرة الفكاهية التمثيلية في آخر جملة من النكتة، وسيلتقط بؤبؤها التقلص العضلي في وجه حمدي أثناء مزاحه، لتنبيه أعصابها إلى عدم جدية هذه "الحدوتة"، مما سيجعل جهازها الحُوفي في مخها متفاعلا، وهو موقع تشكيل العواطف بالدماغ، علما أن فيه آلة ربانية صغيرة جدا، بحجم 1.24 سم، مسماة باللوزة.

اللوزة مشهورة بأنها أم المشاكل، فهي التي تشتغل في حالة التوتر لتجعلنا نسأل أنفسنا السؤال المعادي للمجتمع "أقاتل من حولي الآن أم أهرب حالا؟"، فحينما يتعرق الإنسان من التوتر، فليتذكر أن الضحكة ستخمد اللوزة وترفع الهرمون القاتل للألم النفسي والجسدي (الأندروفين). فهل الضحك هو "الخمر الحلال" للضعفاء والجبناء؟ وهل هو لمن ماتت بصيرة قلبهم؟ قال رسول الله صلى عليه وسلم "لا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب". من الغرور والكبرياء الرجعي ظن الإنسان استغناءه عن الماء والهواء اللذين بزيادتهما الهلاك، ومن التخلف الزهد عن الهرمونات النافعة للنفس، فكما أن الفتى قوي بعضلاته، فالشجاع مطمئن بهرموناته، أولم يقل، صلى الله عليه وسلم: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقةٌ" و"أحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلم"؟ فلم لا يكون الإحسان في طرح النكتة مطلوبا؟ وبما أن الحياة ممر فعِلّة مرورنا فيها هي عبادة الإسعاد، لمَ لا نعبرها بضحك وسرور؟

سأميط اللثام عن فروق فنون الفكاهة، ابتداء من آليات النكتة، من حيث حرارة الانفعال والنبرة الهزلية والتركيبة الذهنية، إلى توضيح مدى حب الرسول، صلى الله عليه وسلم، للفكاهة وممارسته للدعابة، مع شرح كيف أصبح للأدب مجال كوميدي يصفّ مع التراجيديا والدراما، في المقالة القادمة بإذنه تعالى.

back to top