الجمال الهندسي يتجلى في «كولومبوس»

نشر في 20-09-2017
آخر تحديث 20-09-2017 | 00:00
مشهد من الفيلم
مشهد من الفيلم
يشير عنوان الفيلم إلى مدينة إنديانا (يقارب عدد سكانها 47 ألفاً، فضلاً عن أنها مسقط رأس نائب رئيس الولايات المتحدة مايك بنس) التي تضم مجموعة واسعة من المباني، التي تتراوح بين فروع المصارف ودور العبادة. وقد صمم هذه الأبينة عدد من كبار المهندسين، مثل آي إم بي، سيزار بيلي، إيرو سارينين، هاري ويز، وكثيرين غيرهم. وهكذا يستمتع كوغونادا في محيط ابتكره أسياد البناء هؤلاء. لكن «كولومبوس» يتخطى عالم الجولات الهندسية التقليدية. بعبارة أخرى، يؤدي الممثلون أدوارهم بإتقان أيضاً.

يبدو تأثير ثلاثية ريتشارد لينكلاتر Before Sunrise/Sunset/Midnight واضحاً في هذا العمل. في عمله كمعدّ أفلام قصيرة، يكرّم كوغونادا لينكلاتر (يمكنك العثور على الجزء الأكبر من عمله المؤثر الغني على موقعه الإلكتروني). وكما في Before Sunrise، يلتقي غريبان صدفة، مع أن لكل منهما في «كولومبوس» قصة طويلة قبل هذا اللقاء.

يؤدي تشو دور جين، ابن مهندس مشهور يعمل مترجماً. في المشهد الأول الذي لا تظهر خلاله اللحظة الحاسمة على الكاميرا، ينهار المهندس ويدخل بعيد ذلك في غيبوبة. فيأتي ابنه من سيول من دون أن يعلم كم ستطول إقامته في كولومبوس. ونلاحظ أنه يتخبط وسط مشاعر متضاربة تعذبه عما يتمناه بشأن تعافي والده الذي هجر عائلته.

في هذه الأثناء، نتعرف إلى كاسي (ريتشاردسون)، التي تعيش في كولومبوس. لقد تخرجت لتوها من المدرسة الثانوية لتعمل في مكتبة محلية. تنسى كاسي، وهو مختصر كاسندرا، كل خطط عن الجامعة أو السفر لتؤدي دورها كراعٍ غير رسمي لوالدتها التي تتعافى من الإدمان (ميشال فوربس).

كاسي بطلة وخبيرة غير محترفة تملك معلومات واسعة عن الهندسة المحلية. وعندما تلتقي بجين، يمهّد المخرج الدرب أمام علاقتهما بذكاء من خلال دردشة تتبادلها الشخصيتان أثناء سيرهما وبينهما سياج فاصل. يرسم «كولومبوس» هذه الخطوط المتقاطعة، التي تُدعى أيضاً شخصيات، في سلسلة من المحادثات المحددة إنما السلسة التي تتبع النمط ذاته كما في أعمال لينكلاتر. أما من الناحية البصرية، فتذكّر صرامة التراكيب بأفلام ياسوجيرو أوزو، كما لو أن أوزو انتقل بطريقة ما إلى وسط إنديانا.

فيما يحاول جين حل ألغاز علاقته بوالده، تُضطر كاسي بدورها إلى التعاطي مع التزامها تجاه أمها. وتنجح باركر بوزي بمهارة في تبني نبرة هذا الفيلم البسيطة، مؤديةً دور شريكة المهندس المريض القديمة (نكتشف أنها كانت أول حب لجين). ينظر جين بريبة أو حتى باحتقار إلى تكريس والده الجزء الأكبر من حياته لعمله. يقول لكاسي: «للهندسة القوة على الشفاء، هذا ما يسعى المهندسون لإقناع أنفسهم به». لكن كلماته هذه تتداعى أمام كل مشهد تقريباً من مشاهد «كولومبوس».

هذا الفيلم جميل من دون أن يضيّع وقته على الجمال المستهلك. تعاون كوغونادا، الذي حرر هذا العمل فضلاً عن كتابته وإخراجه، بطريقة عفوية مع المصورة السينمائية إليشا كريستين، التي تبرع في تصوير الوجوه كما يتقن هو نقل معالم الحداثة الحادة المنحوتة في الإسمنت.

علاوة على ذلك، يقدّم تشو وريتشاردسون أداء مذهلاً. يعكس كوغونادا انجذاب شخصيتيهما المتبادل، فضلاً عن الاختلاف الكبير في سنهما، دافعاً في الوقت عينه بهذه الرواية المختزلة بعيداً عن التطورات المتوقعة. وهكذا يبرز أداؤهما بين لحظات من الجمود، حين تقول إحدى الشخصيتين أمراً (على سبيل المثال، تدافع كاسي عن الأسباب التي دفعتها إلى البقاء في كولومبوس) فيما توحي بأمر مختلف من دون التفوه به (ريتشاردسون ممثلة معبّرة إلى أبعد الحدود تقدّم أفضل أداء لها حين تكتفي بالقليل). أما تشو، فيتفادى البروز بطبعه، إلا أنه يتحلى بمهارة فريدة تتيح له إظهار كل لحظة بطريقة مختلفة بما يتماشى مع متطلبات المشهد. صحيح أن جين رجل صلب وكثير الانتقاد، حتى في تعاطيه مع نفسه، إلا أن تشو يحوّله إلى شخصية مثيرة للاهتمام.

يعمد المخرج من حين إلى آخر إلى اقتطاع الصوت الطبيعي في مشهد حواري، تاركاً للمشاهد مهمة ملء الفراغ. يحتوي «كولومبوس» أيضاً على لحظات تستحق فيها اللقطات، التي ينتقل فيها كوغونادا بين المواقع المختلفة، التكرار (مثل المونتاج نحو نهاية الفيلم). تتبع أفلام أميركية معاصرة قليلة هذا المستوى من الدقة الجمالية، فكم بالأحرى في الفيلم الأول؟ تقول كاسي لجين مازحة إن في كولومبوس ميزتين: «الميثامفيتامين والطابع العصري». أما فيلم «كولومبوس»، ففيه ميزتان، حتى ضمن الإطار الجمالي التعبيري الصارم الذي يحافظ عليه كوغونادا: تشو وريتشاردسون، اللذان تحدد الأبنية المحيطة بهما، بطرق واضحة وغامضة على حد سواء، علاقتهما التي تُبنى ببطء.

back to top