إعلام «ابني على كتفي»!

نشر في 17-09-2017
آخر تحديث 17-09-2017 | 00:12
 ياسر عبد العزيز يقول المثل المصري السائر: "ابني على كتفي، وبادور عليه"، ويعني هذا المثل ببساطة أنه أحياناً ما يكون ما تحتاجه وتهتم به في يديك، لكنك تذهب بعيداً لتبحث عنه.

يبدو أن القائمين على معظم الأنظمة العربية يقدرون هذا المثل، ويحاولون تفادي "الخطأ" الذي يشير إليه، حينما يتعلق الأمر بالإعلام، ويبدو أيضاً أن عدداً كبيراً من الأنظمة الشمولية في منطقة الشرق الأوسط وخارجها يسير على النهج نفسه.

مع بزوغ الدولة الوطنية في عالمنا العربي، أدركت هذه الدولة أن الإعلام صناعة خطيرة، ولذلك، فقد حرصت على أن تكون وسائل الإعلام الجماهيرية أدوات في أيديها... تمتلكها، وتعين قياداتها، وتختار خطها التحريري، وتحولها أدوات دعاية تتغنى بأمجادها، وتهاجم أعداءها.

لقد سوغت تلك الأنظمة لنفسها ذلك بداعي "حماية الأمن القومي"، والمشاركة في خطط التنمية، قبل أن نعرف أن هذا الأمن لم يكن منيعاً أبداً، ولا التنمية ناجعة، خصوصاً بعدما استكانت تلك الوسائل لوظيفتها الدعائية السياسية.

في مرحلة لاحقة، بدأت قدرة الدولة على فرض سيادتها على مجالها الإعلامي تتراجع، خصوصاً بعدما ظهرت الإذاعات العابرة للحدود، والصحف الإقليمية والدولية، ومراكز النشر الإقليمية، التي أدت إلى تسرب أنماط أداء إعلامي لا ترضى عنه الدولة.

بعض الدول العربية الغنية، التي ظهرت طموحاتها السياسية، أو بدأت تعاني من تضرر صورتها، وكشف أسرارها، وتثوير جمهورها، راحت تدافع عن نفسها عبر المزيد من إحكام السيطرة داخلياً، وشراء المنابر خارجياً.

ولذلك، كانت تلك الدول تحاول أن تشتري ولاءات بعض وسائل الإعلام النافذة في لندن أو قبرص أو بيروت، أو تؤجر أقلاماً تدافع عنها في القاهرة أو الخرطوم أو بغداد، لكنها اكتشفت بعد حين أن هذا الأمر يكلفها الكثير، ويبقيها عرضة للابتزاز، في كثير من الأحيان.

لذلك، فقد قررت هذه الدول أن تنشيء منابر تابعة لها، وأن تزعم استقلاليتها، وأن توفر لها موارد ضخمة، وترفدها بأحدث التقنيات، وتوظف فيها أفضل الكوادر، لتعمل كأدوات دعاية لها، ودروع حماية في آن.

وبدلاً من الأموال التي كانت تتدفق على العواصم المهمة، وتدخل إلى جيوب الكتاب ورؤساء التحرير ومقدمي البرامج، قررت هذه الدول أن "يكون ابنها على كتفها"، أي أن تنطلق رسائلها الإعلامية من منصاتها ومنابرها.

مر عقدان على هذه الحقبة، قبل أن يأتي عالم جديد، تظهر فيه "الإنترنت"، وتتوغل، ويبلغ مولودها الأهم (وسائط التواصل الاجتماعي) ذروة انتشاره وتأثيره، وتتغير قواعد اللعبة.

أُسقط في يد الدولة غير الديمقراطية، لأنها باتت عاجزة عن فرض سيطرتها على مجال الرسائل الإعلامية، وبالتالي باتت عاجزة أيضاً عن صياغة التصور العمومي، وقيادة الجمهور.

لكن قطاعاً من الجمهور العربي ما زال يتزود بمعارفه من وسائط الإعلام التقليدية، خصوصاً عندما تتفشى الأمية، ويتراجع الوعي، ويتردى التعليم، كما أن كثيراً من المحصول الإخباري والتحليلي الذي يتم تدويره عبر الوسائط الجديدة يأتي من تلك الوسائط التقليدية نفسها.

لذلك، سنجد أن دولاً عربية غنية ما زالت تقصر ملكية وسائل الإعلام على المقربين من النظام فقط، أو تقوم هي بتوفير التمويل اللازم لإنشاء تلك الوسائل وتشغيلها، عبر استخدام أشخاص محسوبين على النظام لتأدية دور المالك والممول.

دول أخرى في المنطقة ذهبت إلى نقطة أبعد؛ فمصر مثلاً تعيد صياغة ملكية وسائل الإعلام الخاصة بها بشكل منهجي.

عرفت مصر وسائل الإعلام الخاصة في العقد الأخير من القرن الفائت، وهي وسائل بدأت باحتلال مكانة في المنظومة الإعلامية على استحياء، قبل أن يسمح "الانفتاح المحسوب"، الذي عرفه عقد مبارك الأخير في الحكم، لها بأن تتسيد المشهد تماماً.

وفي هذه الأثناء، كان رجال الأعمال المقربون من النظام يهيمنون على معظم تلك الوسائل الخاصة، لكن الهامش المتاح كان يسمح لرجال أعمال وتكوينات معارضة بامتلاك بعض المنصات، وبث رسائل مناهضة.

يُعتقد بين أوساط الحكم المصرية الحالية أن هذه السياسة هي التي بلورت الشعور الغاضب لدى الجمهور إزاء مبارك وعصره، ويسود انطباع بين هذه الأوساط أيضاً أن ذلك كان سبباً رئيساً في الانتفاضة التي اندلعت في يناير 2011، وقوضت حكمه.

لذلك، تم تطوير السياسة التي ذهبت مؤسسات حكومية من خلالها إلى امتلاك وسائل الإعلام الخاصة بصورة مباشرة، بحيث بات المجال الإعلامي التقليدي مقتصراً على بث رسائل الموالاة بنسبة غالبة، لا تترك للرسائل المعارضة سوى هامش شديد الضيق والمحدودية.

لم يحدث هذا في مصر فقط، لكن دولاً أخرى في المنطقة نفذته أيضاً؛ مثل إيران، وتركيا، وتلك الأخيرة طور فيها الرئيس أردوغان سياسة محكمة، استهدفت التضييق على وسائل الإعلام الخاصة المعارضة، وصولاً إلى تعظيم الضغوط عليها، ونزع ملكيتها لمصلحة أشخاص ومؤسسات مؤيدة له.

السودان أيضاً شهد السياسة نفسها، فقد عمدت الحكومة إلى الضغط على بعض وسائل الإعلام المعارضة، في الوقت الذي شجعت فيه المحسوبين عليها على امتلاك وسائل إعلام جماهيرية، ووفرت لها الدعم والتمويل أحياناً.

وبحسبة بسيطة، لن تجد في المنطقة سوى نقاط محدودة جداً ما زالت تترك المجال سانحاً لامتلاك الكيانات أو الأشخاص المعارضين وسائل إعلام خاصة يمكن أن تبث رسائل معارضة بانتظام، إضافة بالطبع إلى لبنان، الذي تبقيه قابليته الكبيرة للتدخل الخارجي عرضة للسماح بنقاط ارتكاز إعلامية لمشروعات سياسية داخلية وخارجية متضاربة.

ثمة خبر جيد للأنظمة الشرق أوسطية التي تعلمت من المثل المصري السائر ووعت أن "ابنها على كتفها"؛ فقد نجحت هذه الأنظمة بالفعل في تضييق مساحة المعارضة في وسائط الإعلام التقليدية إلى أقصى درجة ممكنة؛ بحيث باتت منظوماتها الإعلامية عبارة عن "وسائل إعلام عمومية" مخطوفة لمصلحة النظام بالكامل، ووسائل إعلام خاصة يمتلكها النظام أو تديرها كيانات وأشخاص من معسكر الموالاة.

لكن هناك خبر سيئ أيضاً لتلك الأنظمة، فقد تغيرت بيئة الاتصال، وبات أكثر من 80% من شباب المنطقة يتزودون بالأخبار والصور والآراء من وسائط "التواصل الاجتماعي"... وتلك بالذات ما زالت عصية على التطويع والسيطرة.

* كاتب مصري

back to top