صواب

نشر في 02-09-2017
آخر تحديث 02-09-2017 | 00:00
No Image Caption
كان أبو علي يكثر من الانفراد بنفسه. ينجو بها إلى حضوره الكثيف في ذاكرته، كأنّه يولد لتوّه. قال له ابنه عليّ ذات يوم عندما حاول مخاطبته ولم ينتبه إلى صوته إلا عندما علا فأيقظه صراخه:

-أنت رجل مغموس بالأمس ولا تستطيع أن تنجو من بلله.

-الأمس.. كأنّه جريمة يا عليّ.. تهمة تلصقها.. تلومني عليها..

ألستَ أنت ابن الأمس.. لولاه لم تكن موجوداً.

-أعلم أنك من بقاياه.. لا تجد إلا القليل ممن يشاركك فيه.. لأنه يكاد يموت.. لا أريد أن تكون أنت حياً ميتاً بيننا.. دنيانا كبيرة وواسعة.. فيها أشياء جميلة.. حتى أنّها أجمل من أيامكم.. دعك من الأمس. كفاك اجتراراً.. نحن في عالم يعفيك من الذكريات. يقدمها لك وأنت جالس في مكانك، فقط اضغط على مفتاح من مفاتيحه، وستستغني عن الكثير مما تحسبه جنّة يبست ولم يعد فيها لا أوراق ولا هياكل. حتى الأرض لم تعد هي الأرض، أصبح لها اسم آخر شديد الاختصار: قرية، هي غير القرى التي نعرفها، هي عالم كامل لا مجال فيه للخطو، للسير، كأنّها فضاء، طرقه مختلفة وعلاقات الناس فيه مختلفة، حتى النظرة إلى الدين التي كانت تغمر أرواحنا بتلقائيتها وعفويتها وصدقها لم تعد كما هي، كلٌّ صار له دين مختلف يفسّر كما يشاء، يقيس على هواه. هجر الدين الحقيقي، ذلك هو الجميل في أرواحنا، لا أعني الإسلام وحسب، أعني الأديان كلّها، تحوّلت إلى مصالح، إلى سياسة، فقدت براءتها الحقيقية، أديان جديدة ظهرت في العالم، ليست من الدين في شيء.

لاحظ عليٌّ إغماضة عينيّ والده، حسب أنّه يخاطب الجدران، آثر الانصراف، تركه في أحلامه.

لم يغب أبو علي، إنّما أعادته كلمة الأرض إلى عالم آخر، قبل مئة سنة، يقف فيه، لا يرى ما يحدث أمامه، وكأنّ الذي يحدث مستقبل لم يصله بعد، قال في نفسه:

«لا سبيل إلى إلغاء الدم... الأمس هو الدم الذي يجري في العروق، كيف نحيا بلا دم...».

حمله التداعي إلى الأيام الخوالي... إلى السنتين اللتين قضاهما في الكتّاب. خرج منه مفعماً بالإيمان. تزكم أنفه روائح البخور في المسجد العتيق.. وفي مقام الشيخ محمد الديماسي... حيث كانت خطواته الأولى الحثيثة نحو الله قد بدأت ترتسم.. ليس على الأرض بل على روحه وعالمه الصغير، محتفياً بتلك الرهبة التي تختلط بأمواج مقبلة بطراوتها على جسده النحيل، والمرتدّة إلى أعماقه، إلى شاطئ نفسه الذي كانت تلك الأمواج تصله لأوّل مرة. يشعر ببرودتها، تمنحه أماناً غريباً فيخرّ ساجداً مقلداً والدته الحافية القدمين، الرافعة اليدين، يتدفق من فمها سيلٌ من الأدعية والابتهالات التي تنامى إلى مسمعه منها ذكر الله عشرات المرات واسم النبي محمد (ص)، واسم الوليّ محمد الديماسي في موقع التبجيل والثناء والرفعة. وهو لا يزال طريّ العود، تلتصق الكلمات بذهنه الذي يكاد يتفتح، وروحه التي تتلمس في هذا الوليّ قدوة تريه السرُج الزيتية في الزوايا، تتلاعب بها الرياح، تحني ألسنتها وتنتصب، وغمامات البخور المنسكب من بعض الأركان يغمس روحه قبل أن يغمس جسده. ولا يلبث إلا أن يمدّ يديه الاثنتين إلى الضريح الحجري، كما فعلت أمّه، أحسّ بالنيران غير الحارقة بين أصابعه، رآها كمشكاة نور، عشرة ألسنة يراقصها النسيم العابر إلى الداخل، داخل الحجرة الصخرية، وداخل الطفل الغارق في دهشته حتى الذوبان في أمواج البخور، وتلؤلؤ قطرات الزيت في السُرج.. حالة لم يصحُ منها إلاّ على تربيته أمّه على كتفه اليمنى.. تقبض على يده وتلف حول معصمه شريطاً أخضر اقتطعته من ستار مدلّى في أحد الأركان بعدما طلبت الإذن من سماحة الوليّ قائلة:

«يردّ هذا الشريط عنك الأذى ويجعلك مباركاً وحبيباً لله بشفاعة محمد رسول الله وحماية الوليّ محمد الديماسي وليّ الله».

ولتبقي يده في قبضة يدها.. وترمي بالأخرى قطعة نقود في صندوق خشبي مليء بأمثالها.. ويخرجان من المقام.. قلبه يأبى الخروج.. يبقى معلّقاً في الجدران.. أو يسبح على سجاد الأرض الذي يتحوّل في ذاكرته إلى بحر نور... كما حمله التداعي إلى خارج البلدة.. إلى مكان آخر لم يزل في خاطره.. تلّة صغيرة، كومة من الحجارة ظلّت تكبر شيئاً فشيئاً.. يكبرها الناس برميهم الدؤوب للحجارة فوقها، من دون أن يمسّوا القماش الملقى عليها أو المربوط في وسطها، وسنديانة عظيمة تعلّق عليها المناديل وبقايا الثياب لتصبح ذات شأن عظيم يطلق عليها الأهالي اسم «سنديانة أمّ شراطيط».. بقي لغزاً لا يحمل إلا لفظة «نذور».. لكنّه يثير الرهبة.. أهو رجم الشيطان.. أو إحراق له.. وما هذه النذور؟ وهذه الملابس المعلّقة لملاعب الهواء؟ ولم الحجارة؟ أسئلة بقيت من دون إجابة.. لكن لا بدّ من النظر إليها عند المرور بها... سألته أمه عن إلحاحه في اصطحابه إلى زيارة ضريح الديماسي.. قال لها:

-أحببت ذلك المكان... إن لم أزره في الحقيقة يأتني في الحلم.

نور يمسكني من أصابعي.. يطير بي حتى يشفق على قلبي الصغير فيعيدني إلى مكاني.. أفتح عينيّ فأرى الأضواء تملأ الغرفة.. ثم لا تلبث أن تخرج رويداً رويداً من النوافذ والشقوق.. أتابعها بحدقتيّ عينيّ اللتين سرعان ما تبدآن بالضيق حتى تطبقا فأعود إلى إغفائي وكأنّ شيئاً لم يكن.

كان يغلق عليه نفسه، تلك النفس التي كان يخاف العودة إليها.. يحسّ وهو يعود كأنّه يقبل على حرب يخافها.. كان لا يخاف الحرب والمواجهة بقدر ما كان يخاف من نفسه.. وقفت له بالمرصاد.. تحاسبه.. تعاتبه.. تتخذ قراراً بلومه أو تحجيمه.. يبدو صغيراً أمامها.. حيّاً لأنّه أخطأ في مكان ما أو قال كلاماً كان لا ينبغي قوله... أو صدرت عنه هفوة أغضبت أحداً من الناس.

حتى وهو وسط الناس.. كانت تلك النفس تحضر.. زرقاء كلون السماء.. تسحبه إليها.. تطيل المكوث في وجدانه. تطغى على تفكيره.. يظنّ الحاضرون به الظنون.. يهيلون التسميات عليه.. صامت.. يفكّر كثيراً.. غائب عن الحضور.. متأمل.. صوفيّ.. نهره أحد أترابه ذات يوم، وهو في السابعة والأربعين من عمره.. أجاد التسمية التي ناداه بها قائلاً:

- أنت تمارس صوفيتك في ما بيننا يا صواب. أعرنا حضورك.. في مخبئك تستطيع أن تتصوّف.. أن تكون وحيداً.. أما الآن فشاركنا الحديث.. نحن نتحدّث عن هيروشيما.. عن نهاية الحرب العالمية الثانية... أعاد صواب تلك الخبايا في نفسه.. مكث في إحداها.. حملته الذاكرة إلى الكتّاب.. إلى ملاعب الصحوات الأولى.

back to top