صفاء

نشر في 02-09-2017
آخر تحديث 02-09-2017 | 00:00
No Image Caption
آه. هربت التنهيدة من حنجرته، ورغم ذلك كانت متحشرجة، مرهقة وحزينة، تصف حالة لا يستطيع التعبير عنها، أو لا يجد سبيلاً للتعبير عنها. على تلك العتبة الإسمنتية، خلف المنزل يقبع، يظلله غصن شجرة، رغم سوادِ الليل، وعبثِ الهواء البارد بشعره المبعثر. الجو بارد، والناس متدثرون رغم الفقر، لكنه يشعر بالحرارة داخله، تنبعث من مساماته، تخرج مع أنفاسه، ما المرض الذي أعانيه؟

يتساءل من دون إجابة عقلانية...

يمسح بكفيه على وجهه صاعداً نحو شعره مخللاً أصابعه بين خصلاته حتى تستقر يداه على رقبته. ينظر إلى الأعلى متوسلاً، ربما إلى الخلف، لا يعي ذلك. هذه الليلة لا يعي شيئاً، يعلم شيئَين فقط، أعصابه مرهقة، ولو أنه يعرف طريقة ليستبدل فيها دماغه لأتّبعها. ومزاجه سيئ إلى الحد الذي يمنعه حتى من نفث سيجارته المعتاد؛ ما الذي تغير تلك الليلة؟

لا أحد يعلم!

ربما هي بوادر ألمه، ذلك الصداع المخيف، الذي - ونتيجة لقناعة خاصة ترسخت في ذهنه منذ كان يافعاً - يجعله راضياً عن نفسه، فخوراً بها. صوت مزعج رن في أذنيه وربما داخل رأسه، أكان عالياً لتلك الدرجة؟

نهض من دون أن يجيب على محموله، دلف إلى المنزل المتآكل الجدران، تجاوز السامرين في الصالون، غاب لثوانٍ في غرفة لا تقل سوداوية عن أفكاره، ثم خرج بمعطف متواضع جلدي، وقبعة صوفية على رأسه. نظرات الاستنكار لاحقته حتى سأله أحدهم عن مقصده في تلك الساعة، فأجاب أنه يريد الاختلاء بنفسه!

لا يدري كم من الوقت سار من المنزل حتى تلك الساعة، لكنه ابتعد عن المنطقة المأهولة، ها هو يقف وحيداً أمام ربه، تحيط به جنوده، ومخلوقاته، شعر بالتجرد، بالضعف، لكنه لم يرضخ ولم يعرف الاستسلام، كل شيء محل تأمل ولا أصفى من الذهن في مثل تلك اللحظة!

جلس على حافة الطريق، مولياً ظهره له، مستقبلاً تلك الغابة أو مجموعة الشجيرات والحشائش، تبا! ولمَ يستهلك طاقته الضعيفة في اختلاف مسميات؟ ذلك العالم الأخضر الممتد إلى ما لا نهاية في الليل، تلك الرياح وذلك القمر الذي ينير السماء، مانعاً إياها السواد، ألأَن عرش الخالق فوقَها تزينت، وأضاءت بكل تلك النجوم؟ أم تعاليا على الأرض التي دنسها بنو البشر بخطاياهم!

فجأة، غلبه شعور لذيذ، تملكته حالة صفاء مع الروح، مع الطبيعة، مع الفطرة، ربما لحظة اندماج بين المخلوقات وروحه الهاربة. استلقى على الأرض الباردة، لاح له في الأفق ما ظنه ابتسامة، كأن سكانها الذين أحبهم يرحبون به تلك الساعة.

كان هناك صوت ما.. ابتدأ خافتا، لكنه يزداد علواً وحدّة. إنه يشعر بشيء على ذراعه، فتح عينيه وهاجمه ضوء ما. برد فعل قوي أغمضهما ورفع ذراعه فوقهما.

«كم الساعة؟».

كمنتظر لموعد، أتى سؤاله مندفعاً، هو يشعر بالضياع الآن.

بدأ ذهنه يفهم ما حدث، قضى ليلته هناك، أو ما كان باقياً منها. الأرض تحته تزداد حرارة، وجسده رطب، بل يتصبب عرقاً. شعر بلا شيء!

صوت الرجل عنده لا ينفك عن السؤال، جلس وفتح عينيه ببطء. نظر إلى الشيب الذي غطى رأس محدثه، وانحناءة ظهره، عكازه ونظرته الأبوية أكانت للشفقة؟ فتح فمه ليبرر، لكن هل هو حقاً بحاجة إلى تبرير نفسه؟

أجاب فقط أنه بخير، وشكر الرجل على لطفه، تركه بينما واصل الالتفات بين حين وآخر. أما هو فاستقام على قدميه، وتلفت في الأرجاء، وسار في الاتجاه المعاكس لاتجاه الرجل.

بعد برهة، دخل المنزل منقطع النفس، بدا مهجوراً، وسامروه لا أثر لهم. حدق إلى الحائط يفكر بأمر لم يتبينه بعد، ثم لاحظ الساعة الحائطية، العقارب تشير إلى السابعة والنصف، لديه أقل من نصف ساعة ليذهب إلى منطقة العمل وإلا التقى بذلك البدين الذي لا يطيق حتى سماع أنفاسه.

تحت الماء تدافعت أسئلة في ذهنه، تجاهل بعضها وفكّر في الآخر، لكنّ سؤالاً واحداً ألحّ عليه، باستماته بحث عن الجواب وفشل!

خرج وشعره يقطر ماء، وقف أمام مرآة تزين جزءاً من حائط مهترئ قرب الحمام، تأمل وجهه، بدا له غريباً، هو لا يعرفه، طال شعره، ونمت لحيته، ابتسم، للمرة الأولى منذ زمن يشعر أنها ابتسامة قلب لا شفتين!

تذكر ليلته الماضية، كانت غريبة، مع ذلك يشعرُ بالرضا، أدرك أن مزاجه جيد، بل فوق الجيد، أنه قابل للحياة هذا الصباح! ولِد من جديد ليلة الأمس، أكانت السماء هي أمه أم الأرواح التي كانت تبتسم له!

سمع حركة في الخارج، تمتم بضع كلمات حانقاً على الذي تجرأ على سكونه وسكرته الخاصة، تتبع الصوت حتى وجد نفسه أمام غرفة اعتاد آل المنزل أن يسموها غرفة الضيوف، تردد في دخولها وحين اتخذ قراره استقبله أحد ما بـــ..

«أين كنت؟».

كان السؤال يعبر عن غضب دفين، وربما قلق، لم يتمكن من تحديده.

مخالفا للعادة والعرف والذوق انفجر ضاحكاً، واتسعت حدقتا عيني أخيه. كاد يعنفه لكنه أشار بإصبعه أن أمهلني ثانية، ثم قال:

«حدث أمر خارق، جنوني، لن تصدقه!».

سار معه إلى الصالون:

«سأحضِّر لنا بعض الشاي، القصة لا تحلو إلا بكوب منه».

«أتعتقد أني متفرغ لك يا عمر، لديّ عمل».

«إذا عد في المساء وستكون القصة أجمل مع كثرة التوقعات».

خرج أخوه وسمعه يتمتم، لا بل كان يعلي صوته عمداً ليسمعه؛ طالباً منه أن يذهب إلى عمله ويكفّ عن طقوسه التي اعتادوا تسميتها بأمور مختلفة، رغم أنه أخذ بنصيحة أخيه إلا أنه تساءل عن سبب عودة أخيه في تلك الساعة. يفترض به أن يكون في المدرسة التي يعمل فيها مربياً! أليس وصفاً مضحكاً؟ لكنها الحقيقة، هو مدين له كونه أخاه الأكبر فقط.

بعد الثامنة بقليل، وصل إلى موقع البناء الذي يعمل فيه، ارتدى خوذته الصفراء وسار مع الزملاء، يا لهذا العمل المضني! تعتريه مخاوف منه، لم يشهد حتى اللحظة أحداً دفع حياته ثمناً لعمله... هو لا يرغب بمعاينة أمر كهذا.

البتة!

يطرح على نفسه سؤالاً عن سبب اختياره هذه المهنة، عن سبب شعوره بالرضا عنها، فيضيع بين جنبات الأسئلة! كل سؤال يؤدي إلى آخر، ولا جواب لأي منها! قبل أكثر من سنتين ابتدأ العمل في هذا المشروع الضخم، بناء منازل ومتاجر ومستشفى بالإضافة إلى تصميم حديقة عامة وتعبيد شوارع رئيسة وفرعية في الحي الجديد! ليس جديداً... لكنه يكاد أن يكون بعدما سوّته الحرب بالأرض.

نظر إلى الأعلى حامياً الشمس عن عينيه، الإنجاز مذهل. انتهوا من تأسيس البناية السكنية والتي يفترض أن تأوي ما يصل إلى ست عشرة من الأسر البسيطة والفقيرة وربما الغنية! من يدري فالحرب هنا قضت على كل شيء في السنوات الخمس الفائتة.

إنها البناية الثالثة في غضون أربع سنوات وهو ينوي الاستمرار بالعمل فيها حتى ينتهوا منها تماماً. قد يستغرق ذلك وقتاً أطول مما يمكن أن يخطر على بال... فالخرسانات والإسمنت والرخام والزجاج والطلاء وكل ما يحتاجون إليه إما متوافر بكميات ضئيلة وإما غير متوافر.

أعاد بصره إلى الأرض وتمتم بقهر:

«ألا يكفي؟».

بهذه الرتابة تسير الأمور، يمل حينا ويعتاد الأمر حينا آخر. يعود مساء ليغلق على نفسه غرفته، ليقرأ كتاباً تركه صباحاً فوق سريره، أو يطالع صحيفة الأمس، أو حتى يخط بعض الرسوم.

تلك الليلة، قرر الخروج مع الأصدقاء والسمر عند الشاطئ. وما الأجمل من الجلوس خارجاً في ذلك الهواء العليل لتصفية الذهن. رغم الصخب حوله فهو غائب، كثير من الأسئلة تجول في الخاطر من مثل: ما الغريب فينا؟ ولم هذا المكان بائس إلى الحد الذي يجعلك تقف مكتوفاً؟ ما الذي يمكن أن يرجوه المرء ليعيش كما يحب؟ ما الذي يمكن أن أرجوه أنا؟

«عمر، أنت صامت كعادتك».

اتجهت الأنظار إليه، كان ينتظر هذه المقاطعة منذ بعض الوقت، أسعده تأخرها، أدرك أنه كان يتفاداها فهو لا يملك إجابة. أفكر! كيف ستبدو في نظرهم هذه الإجابة؟

لا يريد المزيد من الأسئلة التي تتعلق به أو تدور حول فلكه.

«من يمكنه مقاومة سوادين؟».

علامات تعجب واستفهام علت الوجوه...

«كل ما هناك أن التواجد أمام البحر في الليل له حضور قوي يمنعني من ممارسة شيء سوى الصمت».

استمرت الدهشة وزال التساؤل، هذا ما رغبه وقد حققه.

«بعض الشاي؟».

أومأ إيجاباً فقُدِّم له كوب منه، قال أحدهم ساخراً:

«كنت لأخبرك عن آخر ما قرأت لكنك لا تمارس سوى الصمت الليلة».

علت ابتسامة وجهه وقال مقتضباً:

«إذا لا تقاطع طقسي وتحدث، يمكنني السمع».

ضحك صديقه، وبدأ يثرثر حول كتابه المفضل في الأدب الروسي.

في اليوم التالي، حملت الصحف أخباراً غير جيدة، ستتوقف كل أعمال البناء في المدينة، فالحكومة لم تعد صالحة لفعل شيء سوى إبقائهم رهائن كما يقول البعض، والبعض يقول إنها مكبلة بالأصفاد. هو شخصياً يعتقد أن البلاد كلها لم تعد صالحة لشيء، ما الذي يُخطَّط له؟ أن يُقتلوا ببطء؟ ولكن ما ذنبهم؟

أبعد الصحيفة عن وجهه، ورشف من كوب قهوته، محدقاً إلى البعيد، ماذا لو قرر الناس فعل شيء؟ من سيقف في وجههم؟ ثورة عمال أو شعب، لا يهم المسمى، المسؤولون لا يهتمون إلا بمناصبهم، ثم ماذا يا عمر؟ سأل نفسه وأجاب:

«مزيد من الدماء تُراق، مزيد من الجثث في ممرات المستشفيات، وثلاجات الأموات، مزيد من الأيتام، مزيد من كل بؤس!».

«ماذا يمكن للناس هنا أن يفعلوا للنجاة يا عامر؟».

سأل أخاه، ليس باحثاً عن جواب أكثر من مواساة.

«لا شيء، سوى الموت!».

«هل تخبرني أن الموت هو سبيل النجاة؟».

«هل تعلم طريقة أخرى؟ انظر حولك، كل حياتك تُخطَّط لك من قِبَل مجموعة من الناس لا يسعدها سوى ما يُبْئِسُك».

لم يتوقع حديثاً مختلفاً...

عامر محق! ليس على نطاق خاص وإنما بشكل عام، الجميع يسيرون وفق خطة كونية، لكن هل هم ضمن الجميع؟ هم مجرد فئران تجارب، قررت الأمم الأخرى أن تعيش برفاهية أكبر، وتتطور ولأجل النجاح كان لا بد من إجراء بعض الاختبارات. لا يوجد خيار أفضل من بلدٍ يعاني الحرب منذ ولادته، كُتِب عليه ألا يحيا أبداً... وربما يحيا حياة لا طائل منها.

back to top