حبر و ورق

نشر في 26-08-2017
آخر تحديث 26-08-2017 | 00:02
No Image Caption
بزوغ الفجر

الخميس، 21 أيلول 06:10 في بقعة نائية من منطقة دالاسيسلا الغربية، يجلس صياد وحيد محتمياً خلف جدار صخري، من بقايا كوخ قديم منهار، يتطلع إلى مياه هفامسفيوردر في اتجاه فيلستروند، حيث كانت أولى أشعة الشمس تخترق الغيوم الشرقية، لتلقي بضوئها على قمم الجبال، بينما كانت الظلال المعتمة لا تزال تخيم على السفوح والأراضي المنخفضة ومياه الفيورد.

كان الرجل في الأربعينات من عمره، وضعه الصحي جيد، وقسماته حادة. يرتدي ملابس تمويهية عالية الجودة، ويعتمر قبعة سميكة، وكانت الأجزاء الظاهرة من وجهه مموّهة بألوان ملابسه. وكان بوسعه، وهو جالس على مقعد مريح، أن ينتظر من دون أن يلاحظه أحد بين الظلال. وكانت بندقيته داخل كيسها البني والأخضر تستند إلى الجدار أمامه.

رقد كلب أسود اللون على الأعشاب بالقرب من الرجل، واضعاً رأسه على قائمتيه الأماميتين، في حالة سكون تام باستثناء حركة أذنيه وأنفه السريعة. كان الرجل يميل بين فترة وأخرى نحو الكلب ليمسد ظهره برقة منتظرين أول مجموعة صباحية من الإوز.

وكانت خلف أنقاض الكوخ مساحة صغيرة مسوّرة مخصّصة لزراعة البطاطس، التي كانت تختبئ بينها أربع عشرة إوزة، ثمانٍ منها تلتقط طعامها، وأربع مستريحة، واثنتان في وضعية حراسة. وباستثناء أصحاب الخبرة، ما كان أحد سيدرك أنها طيور اصطناعية تمويهية، وضعها الرجل في مجموعة صغيرة، تاركاً مساحة تكفي لهبوط مجموعة طيور في الحقل، كما كانت المسافة بينه وبينها مثالية، أي نحو ثلاثين متراً.

في الصيف تحتمي الخرفان خلف الجدار، حين تتجاوز حرارة الشمس قدرة تحمل الإنسان والحيوان خلال ساعات الظهيرة. أما الآن فدرجة الحرارة تقارب الصفر، والرجل يشعر بالبرد بالرغم من ملابسه الثقيلة، وهو ينتظر الفجر الجديد، ويتطلع إلى مياه الفيورد التي كانت لا تزال متسربلة بما بقي من ظلام.

فتح الكلب عينيه، واستنشق الهواء، في الوقت الذي رصد فيه الرجل أول أصوات طيور الإوز، في أول تحليق صباحي لها، قبل أن يرصدها بعينيه وهي قادمة من الغرب، تحلق ضمن مجموعات، فوق الأرض المنبسطة دون أن تتحرك في اتجاهه، ولكنه مطمئن لظهور طيوره صباح اليوم كما كانت تفعل دائماً. فقد كانت عائلات الإوز ذاتها تعود في الخريف إلى هذه البقعة من الأرض، لتتغذى وتستجمع قواها، تمهيداً لهجرتها نحو الجنوب عبر مياه المحيط الأطلسي. كان يعتمد على هذه الطيور التي تعود بحكم العادة، لكونها لم تتعرض إلى الصيد المفرط، فيصطاد بضعة طيور كل أسبوع، ولكنها تعود إلى حقل البطاطس مرة تلو الأخرى.

رفع الكلب أذنيه وأنفه، وشد جميع عضلاته دون أن يتحرك، فسحب الرجل بندقيته من كيسها وعبأها بالخراطيش من عيار 12 الثقيل.

ظهر رفّ آخر من طيور الإوز محلقاً على مقربة من الرجل، فرأى تسعة منها. وعندما تقترب منه لتصبح ضمن مرماه، سيتمكن من اصطياد حصته منها، بالخراطيش الثلاث المعبأة في البندقية، والتي ستكفيه ليتمكن من العودة إلى سيارته، وتناول قهوته الصباحية، وتلبية رغبته بتدخين سيجارة.

كانت طيور الإوز تحلق بمسار دائري حول صفوف نباتات البطاطس لتقييم الموقف، وكانت الطيور الاصطناعية توحي لها بأن الأرض آمنة، فبدأت تقترب بحذر.

توقف الرجل عن التفكير بالقهوة، وباشر بتصويب البندقية بكل دقة، بينما كانت الطيور تهبط نحو الحقل بعكس اتجاه الريح. وفجأة، وقبل أن تهبط بنحو مئة متر، ارتعبت، وعادت إلى الارتفاع في الهواء قبل أن يختفي الرف بأكمله باتجاه الشمال.

مدّ الصياد رأسه بحذر من مكان اختبائه ليتحقق من السبب، لكنه لم يرَ أية حركة في أي اتجاه، كما نهض الكلب واستنشق الهواء وهو يلهث بصوت منخفض.

قال الرجل: أحسنت يا كولور، بينما كان مستمراً في تفحص المنطقة المحيطة به. على بعد حوالى ثلاثين متراً من أطلال الكوخ، توجد ترعة ضحلة مليئة بأعشاب طويلة صفراء اللون، وعلى سفح تل كانت بعض الصخور الكبيرة التي جرفها انهيار أرضي في عصور سابقة. أما الأراضي المنخفضة فهي في ظل الجبال والرؤية فيها محدودة.

صدر فجأة صوت طلقة أصابت أحد الطيور الاصطناعية في حقل البطاطس وقلبته أرضاً.

قال الرجل منادياً: «هلو. من هناك؟». ثم تريث قليلاً بانتظار الرد، ثم نادى بصوت أعلى: «من هناك؟ هذه ممتلكات خاصة».

لم يسمع إجابة، فنادى ثانية بصوت عالٍ: «الصيد هنا ممنوع للغرباء».

كان الصمت تاماً، باستثناء لهاث الكلب الخافت.

«هلو!». نادى الرجل مرة أخرى ولكن لم يجبه أحد.

مد الرجل رأسه ثانية من مخبئه، وألقى نظرة حوله، ولكنه لم يرَ أثراً لمن أطلق النار، ثم سمع صوت طلقة أخرى ارتطمت بالأرض على بعد بضعة أمتار منه. أخفى رأسه بسرعة، وهو يتأمل الموقف مندهشاً، هناك أحد يطلق عليه خراطيش صيد ثقيلة، فمن هو الذي يلعب لعبة كهذه؟

«هلو». صرخ الرجل بأعلى صوته. «توقف عن إطلاق النار».

خلع الرجل قبعته وعلّقها على فوهة البندقية، وبدأ يرفع البندقية فوق مستوى الجدار متردداً وهو يلوّح بها. طلقة أخرى، ارتطمت بعض كرياتها بالقبعة وفوهة البندقية. عندها نفد صبر الكلب، وانطلق إلى الأمام وهو ينبح.

«كولور». صرخ الرجل، ولكن صوت رصاصة أخرى جعلت الكلب يصرخ قبل أن يصمت.

«كولور!» صرخ الرجل، ورفع رأسه فوق مستوى الجدار المهدم، فرأى الكلب ملقى وسط بركة من الدم في منتصف المسافة بين الحطام وحافة الترعة. ركع الرجل مرعوباً ثم تكوّر أسفل الجدار. «ما الذي يجري بحق السماء؟» كان الكلب أفضل صديق له طوال سبع سنوات، ولكن هاجسه الآن الحفاظ على حياته، إذ وجد نفسه في وضع خارج كلياً عن سيطرته، فثمة من يريد إلحاق الأذى به في وضح النهار.

خطر له أن يتصل طلباً للمساعدة، ولكنه أدرك أنه ترك هاتفه المحمول في السيارة، ناهيك عن افتقار هذه المنطقة إلى التغطية الهاتفية. حمل معه طلقات إنذار متوهجة قديمة، ربما لا تزال صالحة. سحب الرجل خراطيش الصيد من بندقيته واستبدلها بالوهاجة، فأطلق واحدة نحو السماء. تفجرت الطلقة على ارتفاع في الهواء وتوهجت بضع لحظات، ثم سارع إلى إطلاق الاثنتين المتبقيتين، إذ من المتعارف عليه أن ثلاث طلقات وهاجة تُعتبر طلباً للنجدة. أعاد تعبئة خراطيش الصيد الثقيلة بعد إزالة المسمار الذي كان يحد من استيعاب مخزن البندقية، فأصبحت تتقبل خمس خراطيش، واحدة جاهزة للإطلاق وأربعاً في المخزن. لم تعد قوانين الصيد نافذة الآن، فربما كان عليه أن يدافع عن حياته.

أطلقت خرطوشة أخرى من اتجاه مختلف تماماً، من خلفه باتجاه أحد جانبيه، فشعر بالكريات وهي تنهال على ظهره، فدفعته غريزته إلى القفز إلى الجانب الآخر من الجدار. كان مصدر النار بعيداً عنه فلم تخترق الكريات سترته السميكة، إلا أنها لسعته بقوة تشبه لسعة السوط.

أدرك أن عليه الهروب من هذا الكمين، فارتبك مراجعاً خياراته. ربما كان سينجو لو جرى مسرعاً عبر حقل البطاطس نحو حقل الأعشاب المجاور، ولكنه في هذه الحالة سيترك نفسه مكشوفاً بلا غطاء. وربما من الأفضل له الرد على مصدر النيران ليرى رد فعل الطرف الآخر. ثبت بندقيته على الجدار، وأطلق النار باتجاه مهاجمه المخفي الذي رد فوراً بإطلاق خرطوشتين، لم يرَ الرجل مكان هبوط كرياتها، ثم مدّ البندقية ثانية من فوق الجدار وأطلق خرطوشة، فخيم الصمت على المكان.

بقي ينتظر وسط الهدوء قبل أن يسمع دوياً من جهة جانبية، وأحس بالكريات وهي تضرب سترته، كما شعر بشيء يضرب خده. ألقى بنفسه على الأرض وظل دون حركة. كان الألم في خده حاداً ولكنه سرعان ما خف. مد يده إلى خده ليجده نازفاً، كما كان يحرقه ولكنه ليس سيئاً جداً. انطلقت خرطوشتان إضافيتان فأصابتا الأرض أمامه، يبدو أن ثمة رجلين مسلّحين أو مسلحاً واحداً سريع التنقل بين موقع وآخر.

أطلق الرجل الخراطيش الثلاث المتبقية باتجاه مصدر إطلاق النار الأخير، ثم حاول الاختباء خلف الجدار المنهار ليعيد تعبئة بندقيته، فانطلقت ثلاث طلقات جديدة أصابت كرياتها سترته كما لو أنها مطر جليدي مدفوع بعاصفة هوجاء، ولكن بعد المسافة أتاح لملابسه أن تحميه.

تدفق الأدرنالين في كل جسمه فاختفى خوفه وغضبه وعزم على منع خصمه من التحكّم حتى النهاية.

انطلقت ثلاث خراطيش أخرى، وجاء ارتطام الكريات حاداً في أسفل ساقيه، حيث كانت حماية ملابسه أقل فشعر بألم شديد. لا بد وأن المسلح يقترب منه، ما يعني نهاية سريعة ما لم يتصرف.

فكّر. أن الخراطيش تطلق على شكل مجموعات ثلاثية، وكان هذا يعني أن بندقية المهاجم لا تتسع لما يزيد عن ثلاث خراطيش يضطر بعد إطلاقها إلى إعادة تعبئة البندقية، قد تكون تلك فرصته. أطلق الرجل خرطوشتين ثم أعاد تعبئة سلاحه على الفور وأطلق خرطوشة واحدة. أطلق الخصم ثلاث خراطيش أصابت الأرض المحيطة بالرجل، ما يعني أنه الآن يعيد حشو بندقيته. قفز الرجل من مكانه وجرى مسرعاً باتجاه الترعة، وأطلق النار مرة واحدة أثناء توجهه إلى الأعشاب العالية الذابلة. لم يبق أمامه سوى بضع خطوات ليصل إلى هدفه حين سمع صوتاً قوياً، وشعر بشيء يصطدم بالجزء الأمامي من فخذه الأيسر، فوق ركبته بقليل. بدت خطوته التالية وكأنه يخطو داخل ثقب عميق. سقط على صدره ووجهه وسقطت بندقيته أيضاً. رفع رأسه بصعوبة بالغة، وألقى نظرة نحو الخلف، فشاهد على بعد مسافة ساقاً واحدة. تلمس ساقه مذهولاً حين وجدها تنتهي بجرح مفتوح يتدفق منه دم دافئ، ثم شعر بوجود أحد ينحني ليأخذ البندقية التي كانت قد سقطت منه.

«من أنت؟» سأل الرجل.

«لم.. لم.. لماذا؟».

لم يسمع أية إجابة، كما لم يسمع صوت الخرطوشة التي استهدفت رأسه.

ترنيمة امرأة... شفق البحر

تعرفت إليها على ساحل سوسة في تونس. يومها دارت بنـا موجـة عنيفة، ومباغتة، وقرّبتنا من بعضنا، ونحن في عرض اللجّة. ألفيتها، على حين فجأة، إلى جانبي. للوهلة الأولى تهيأ لي أنها صعدت مـن الأعماق القديمة المسحورة، أو قذفها مركب فضائي آتٍ من كوكب بعيد. هكذا انبجست، كأنما على حواشي حلم بهيج. ابتسمت:

- هاي...

ولعبتْ بأصابعها تحييني..

من تلك النقطة تراءى لنا البشر والمظلات في غلالـة نحيلـة مـن ضباب مضطرب، فعرفنا أننا توغلنا أكثر مما يجب في عمق البحـر. وحين سـبقتني غائصة، تبعتها بلهفة ونزق، حتى إذا استلقينا لاهثين تحت مظلتها، أدركت أنها بفتنتها الطافرة تبدد ما طفا، طوال سنوات، فيّ، من زبــد الغربة. وإنني أحقق، في هذه اللحظة توافقاً وانسجاماً مع الناس والأشياء حولي.

إذ ذاك بــدأنا أول رحلة الكــلام. والكـلام مع كلوديــا مبتدأ الرواية ومنتهاها. تورط الذاكرة في لعبة اللغة ومكرها، ومأزق اللغة وهـي تتقـصى في متاه الذاكرة.

قالت إنها إيطالية. تتقن الإنكليزية جيداً، وتستطيع التفاهم مع مـن يفهمها، بالعربية، ولها شغف بالسفر، لا سيما إلى أصقاع الشرق. ترغــب بعبور صحارى أفريقيا، وسلوك طريق الحرير في مجاهل آسيا، على ظهـور الخيل والجمال أو مشياً على القدمين بصحبة فتى من الشرق صبور وشجاع.

تحلم أن يخرج لها من أغوار حكايات ألف ليلة وليلة. قالت أنها لم تعثر عليـه بعد، أو أنها لن تعثر عليه أبداً لأن نوعه انقرض منذ زمن بعيد.

لم تُعلمني باسمها، مثل تعوّد البشر في أثناء بدء أول لقاء بينهم، وكذلك لم أفعل أنا. رحنا نمشي على رمل الساحل، يغمر الماء الصاعد أقـدامنا الحافية. ننتشي بلسعاته الخفيفة الباردة قبل أن يتراجـع متهاديـاً، موشوشاً.

نبقى لدقائق صامتين. أحدس أنها مثلي، ربما تفكر بأي الأسئلة والتعليقات عليها استئناف الكلام، أقول؛

- سأخمن اسمك.. هذا الوجه يليق باسم يلوح الآن في خاطري.

- أي اسم؟

- روزاليا، روزاريا، روزالينا، روزماري، روز.. أي اسم فيه روز.

- لماذا روز؟

- وجهك يوحي بهذه الكلمة.. حين فوجئت بوجهــك أمام ناظريّ وأنت تبتسمين، هناك في وسط البحر قفزت إلى ذهني هـذه الكلمـة. وردة تتفتح للشمس والبحر والهواء.

- أتراك تغازلني؟

- أفصح عن انطباعي الأول.

تضحك... تباغتنا رشقة من هواء بليل فنمتلئ بعذوبته.

- وإن قلت لك إن اسمي ليس هذا.

- سأحتفظ بحقي في أن أناديك (روز).

تقف.. ترمقني بنظرة حائرة مندهشة.. تهز رأسها.

- ما اسمك؟ ‏

- كلوديا... أنا كلوديا.

- كلودروز.. روزديا.. روزكلوديا.. كلــوروز.. ديــاروز.. يمكـن أن أنحت لك مئة اسم من هذه الحروف.

- أنت إذن من أولئك المولعين باللعب في جسد اللغة.

- تستطيعين أن تقولي هذا.

تبتسم، الابتسامة ذاتها التي ستظل تفجـّر في روحي فقاعـــات المسرّة لأشهر سبعة أو ثمانية قبل أن تستحيل إلى طيف بعيد، قبلة حنين، حلم لذيذ غادرني وعلّي ملاحقته، استعادته، الاحتفاظ به وإن في هيئة صورة مشرقة في الذاكرة.

- قل لي ما اسمك أنت.. دعني أخمــن.. أحمـد؟ عـلي؟ مصطفى؟ سعيد؟

- لا، لا، لا، لا.

- كمال؟ عمّار؟ عبد الله؟ محيي الدين؟

- لا، لا، لا، لا.

- قل.. قل لي، ما اسمك؟

- سامر.

- سامر.

تلتقط خنـصري بخنـرصها ونحن نخطـو تـاركين آثار أقدامنا على الرمل.. أحسني موصـولاً، الآن، بقلـب العالم، بجــوهره الفــذ، الساطع.

بالقانون الأسمى للوجود، ذلك الذي يمنحنا الشعور بأن للحيـاة معنى سامياً، وإنْ كان غامــضاً وزلقاً، وأنهــا على الرغم مـن كــل شيء جديرة بالعيش.

أقول لها:

-إنك تبحثين عن فردوسك المفقود.

تقول:

-كلنا يا سامر.. كلنا نبحث عن فراديسنا المفقــودة.. إنه وهمنـا الـذي يساعدنا على الحياة.

أقول:

- ربما كنت تبحثين في المكان الخطأ، وبالطريقة الخطأ.

تقول:

- ولو... عندما أتأكد من الخطأ سأبحث في مكان آخر، بطريقة أخرى.

تمسكني من كفي... تقيمني، وتركض لتخبر دفء الماء قبلي.. ألحق بها..

نعوم.. تغوص هي.. تضيع في غموض البحر.

على قلق أبحث عنها في الجهات، فتنبجس أمامي، خارجة مـن تحتي.

أشتمها فتضحك. نخرج إلى الليل البارد. ننزوي في مقهـى. أشرب فنجـان قهوة، تشرب علبة عصير برتقال.. هكذا تلقيني بغتة في هذا الأفـق الواعد باللذة والألم.

أنّى لي أن أقول لها؛ إنني جئت، ها هنا، لألملم نثاري، وانتشل مـا تبقى مني، وأخرج من عبء موت شاسع إلى داخلي.

البحر لصق غربتي وعربي مبذول لشفق المـوج. ولنـزوة كلوديا، وكلوديا أغنية سخيّة تتدفق في هدأة الساحل..

- خمس عشرة شظية ناعـمـة، الآن، تحـت هـذه النـدوب التي تــداعبها أصابعك.

تحدق بي، فيأخذني سحر الليل المديـد بعينيهـا. وتحـت جلـدي يتململ الوجع القديم.. أستلقي على ظهري، وأعاين قوس السماء. أخالـه صــدفة جبارة تحتويني فأذعن للسكون الـذي يغمـرني. أو لعلّني أبتعــد، بما فيه الكفاية. بأفكاري، عـمّا حــولي. لكنهـا تباغتني وتـشرع بالغناء. تستغرق بكلمات ولحن أغنية غجرية معجونة باللوعة. صوتها الراعش الأسيان، مثل رذاذ من الحزن، يسقط على روحي.. أقول لها:

- كفّي عن هذا الغناء الحزين.

تكفُ، وتبقى تحـدّجني، كأنهـا تستدرج مـا أسكت عنه إلى حافة الفضيحة. أقول لها، ربما في سعي مني إلى تغيير مسار الكلام:

- أخشى كلوديا من الصورة التي رسمتها لي في ذهنك.

تقول:

- وماذا يهـم إذا كانت جميلة ومدهشة؟

أقول:

- إذن، ستضعين بيننا هوّة أخرى.

تسألني عمّا جئت أفعل، إذن، على ساحل الأبيض المتوسط.. أقول:

- لأكتب.

ترن ضحكتها... ضحكة قصيرة، صافية تفصح عن حيرة وشك.

- لتكتب؟!!

- أجل كلوديا... روايتي، رواية أناي في العالم... في مواجهة العالم.

تضحك ثانية.. أقول لها:

- لا تنظري إلي هكذا، كما لو أنني كائن غريب قدم من الأزمان السالفة.

تقول:

- في عينيك أرى غبش الصحراء.

وهذه المرة، أضحك أنا، وأقول:

- يبدو أنك سليلة رحّالة حالم من أولئك الذين غامروا في القرن الثامن عشر، أو التاسع عشر بالقدوم إلى الشرق.

تتقلب على رمل الساحل وهي تقهقه:

- كم أود لو أستلقي على الرمل القائظ هناك.

أقول:

- لن تتحملي حرّنا الكافر.

تقول:

- سأقسر جلدي على تحمله.

نعود إلى الساحل وقد خلا من الناس أو كاد... نتمدد على الرمل. نستمع للنشيج المكتوم للبحر... ملمس أصابعها يوقظ فيَّ ألماً مطّهراً ونشوة خاطئة.

أسمع قعقعة عربات الرغبة في دمي. أسمع رنين الأجــراس المعلّقـة على رقاب خيول تركض في صحرائي.

مأخوذاً بالغواية تجذبني كلوديا إلى مخملها. إلى الشبكة الناعمة الملساء الحادة.

back to top