متاهة الإسكافي

نشر في 21-08-2017
آخر تحديث 21-08-2017 | 00:00
 فوزية شويش السالم متاهة الإسكافي مسار جديد لكتابة السيرة أوجدها وشكَّل عجينها النيئ المدهش الشاعر المبدع عبدالمنعم رمضان، وهو من كبار شعراء السبعينيات، ومن مؤسسي جماعة "أصوات" الشعرية، التي كان لها دور ريادي بذاك الوقت، له 8 دواوين ذات روح خاصة متميزة، نال جائزة كفافيس والمنتدى الثقافي في باريس.

متاهة الإسكافي، هي نتف تشكيلية مجتزأة كلوحات تشكيلية من طفولته وصباه وشبابه وأهل بيته وصحبته. إذن، هي سيرة، لكنها لا تخضع لشكل رواة السير المعتادة من حيث البناء التصاعدي المتكامل لحياة راويها، بل هي خفقات قلب مبعثر بطيرانه بين أزمنة غائرة بين دفات ذاكرة صبا وطفولة وشباب ودهاليز ممراتها السرية المدفونة بالكتمان والصمت، حتى جاء مَن ينكشها من غفوتها، ويرفع عنها غطاء وحجاب سترها وسريتها، ليبان عريها السافر أمام الجميع، هذا العري المتحدي للتابو المجتمعي الناصع الفاضح المتجلي البريء المنسكب بسيرة لم يُكتب مثلها، لا من قبل ولا من بعد، سيرة عبارة عن منسوجة حريرية لقطعة فنية أدبية إبداعية مغايرة لكل شكل من أشكال كتابة السيرة، رغم فضائحيتها الجريئة، التي هي محاولة للتطهر من وزر اختبائها وثقل حملها، بإخراجها على الورق، حتى تصفو النفس وترتاح من وزر كتمانها.

تنقسم السيرة إلى عناوين تتشكل تحتها صور لعلاقات مختلفة، بعضها يأتي من طفولة الشاعر، وبعضها لعلاقته بأهله ومدارسه وأصدقائه، وبعضها للطبيعة والحقول المترامية في أرياف ذاك الزمان المغلف بطيبته وبراءته، والجزء المتبقي كان لتأثير السينما والقراءات والكتب المختلفة، ودورها في تشكيل وعي وموهبة الشاعر، وهذه فقرة منه: "كأنها اعتقدت أنني مريض بالرومانسية، وأنا كذلك أحيانا، ظللت أتعثر مثل أعمى أو سكران، ظل رباط حذائي مفكوكا دائما، كنت أشتري كتالوجات الفن التشكيلي، وأُوثر التعبيرية والتأثيرية، وكانت هالة من السر تنفذ إلى وتلفني وأنا أحاول أن أفهم نفسي وأتعاطف معها، كنت أحس أنني لستُ متأكدا من اللحظة التي سأفعل فيها كل ما هو غير متوقع مني، وجدتني أبحث عما يثيرني ويدهشني".

الكتاب صادر عن دار الآداب بتغليف وإخراج فاخر وبشكل جديد، مقسوم إلى جزأين؛ النصف الأول تحت مسمى "متاهة الإسكافي" لسيرة الشاعر القريبة منه، والجزء الآخر عنوانه "سيرة الهجر" خصصه لوالد وأهل جدته لأمه المنحدرة من عائلة لبنانية عريقة لها دور تاريخي كبير في لبنان.

متاهة الإسكافي نثر سردي شعري شديد الرهافة مكثف في صوره الفنية، ليست ذات بنية تراتبية تقليدية، لكنها شُتت وبُعثرت في فصول؛ الأول النسب الضائع، والثاني فصل الساحرة، والثالث فصل الأب ومسز فاطمة، الفصل الرابع المعلم الأول، الفصل الخامس سين سينما شين شعر واو ولد باء بنت، الفصل السادس الحب الضائع، شكلت جوهر السيرة، معظمها مشاهد يتناول فيها حميمة علاقة الشاعر بوالده وأمه وأخته وجدته تتدفق برقة الحب والحنان، وهذا مقتطف من علاقته بوالده: "كان إذا مرضت جلس إلى جوار سريري، فإذا استيقظت في وسط الليل أو آخره، وجدته في مكانه، باسطا ذراعيه، مرة رأيته يبكي، لأن حرارتي ارتفعت وعاندت ولم تتراجع، كان أحيانا يغني لينميني، وأحيانا يجعل من فمه شجرة حكايات يصعدها، فأراه ولا أرى آخر الشجرة، ويحثني على الصعود خلفه، يحكي فأصعد، يحكي ثانية فأصعد، ومع كل صعود أقابل أشخاصا يحبهم، كان يحرضني أن أبحث عن الله".

جرأة عبدالمنعم رمضان تحررت من الخوف من رجم الكلام القريب والبعيد، المتشابكة خيوطه مع خيوط الآخرين، كل كاتب سيرة يجد نفسه مقيدا بتشابك تفاصيل حياته مع تفاصيل حياة الروابط العائلية والتابو الاجتماعي والأخلاقي الذي لا يسمح بطرح التفاصيل الجريئة والحميمة على الملأ، لكن عبدالمنعم رمضان خرج عن المألوف وتطهر من علائق ماضيه.

ولأول مرة أنتبه إلى أن حالة التطرف والعنصرية الدينية في مصر كانت من زمان، وليست حديثة وطارئة، لم تكن موجودة في الكويت بذاك الوقت، وليس الآن، وهو ما كان خلال فترة طفولته، وهذا مقتطف يدل على ذلك: "وبعد أن فرغنا، اكتشفت أننا في منطقة كنائس، أن إله المنطقة ليس إلهنا، إنه إله الآخرين، وأن الطعام ليس طعامنا، إنه طعامهم، وتقيأت ما أكلت".

وهذا مقتطف آخر: "من نافذة جدتي ألقيت بالكتاب المقدس، وغسلت يديّ أكثر من مرة، كانت الرائحة تطاردني".

back to top