في وداع فنان قدير

نشر في 17-08-2017
آخر تحديث 17-08-2017 | 00:14
 خليل علي حيدر لماذا أثار رحيل الفنان الكبير عبدالحسين عبدالرضا كل هذا الحزن في نفوسنا، وجعل معظم العيون تدمع والنفوس تتألم؟ ربما لأننا شعرنا بتوديعه إنما نودع جانبا أحببناه من حياتنا وتاريخنا ومسرحنا وثقافتنا الفنية، والتي تجسدت كأروع ما يكون التجلي، في مجمل الأعمال التي أنجزها "أبو عدنان"، الفنان عبدالحسين عبدالرضا مع من زامله من كبار المسرحيين.

عايش الفنان الراحل وبعض رفاقه بدايات الكويت وهي تتغير عاما بعد عام، وعرف معهم أواخر مراحل الحياة القاسية في البيئة الفقيرة التي عاشها الكويتيون قبل زحف الرفاهية. وما لم يعشه منها لمس تأثيراتها وبقايا ذكرياتها وثقافتها في حياة أصدقائه ومجتمعه وحيّه، بما تركت تلك المرحلة من أمثال وحكايات ومواقف.

وعاصر هؤلاء الفنانون في حياتهم بعد ذلك بعض الأحداث المحلية والعربية الجسام التي غيرت الكثير من المسارات مثل نكسة حزيران عام 1967 وأزمة المناخ المدمرة وقصص الفساد ثم عدوان 1990 والاحتلال والتحرير. وقد نجح عبدالحسين عبدالرضا وجيله من الفنانين والفنانات الكبار في استيعاب هذه الأحداث الهائلة وتحويل بعضها إلى أعمال فنية درامية رائعة، مضحكة مبكية، ستبقى في الذاكرة الوطنية لسنوات طويلة قادمة.

تحولت وفاة "بوعدنان"، رغم أنها كانت متوقعة بعد كل هذه المعاناة من المرض وهذه السنوات الطوال التي كرسها للعطاء الفني، إلى محور استقطاب من الحزن الشعبي العام! حزن عميق على رحيله ورحيل عصره، الذي لا نزال نتعلق بأهدابه وأستاره محاولين إيقاف الزمن، متمنين بقاء تلك الأشياء الطفولية الحالمة القائمة، التي أحببناها من ذكريات عزيزة غاربة.

عصر استطاع الفنان التشكيلي الراحل "أيوب حسين" وآخرون تجسيد بعض ملامحه ومكوناته في لوحاتهم، وتفوق عبدالحسين ورفاقه في إحيائها على خشبة المسرح وشاشة التلفاز، ومن حسن حظ عبدالحسين ومن معه من الفنانين بروزهم في هذا العصر والمرحلة، في زمن تقدمت فيه التقنية والتصوير وسهل تسجيل وتوثيق الأعمال الفنية من تمثيل وغناء وغيره، فكم من فنان كبير وكم من مغن وموسيقار بارع في الأزمنة السابقة كان يملأ عصره مرحا وسرورا، ويجول في أروقة أيامه وسنين زمانه، غدا اليوم مجرد اسم وخبر بعد رحيله، بسبب عدم وجود هذه التقنيات العظيمة والأوعية الإلكترونية والرقمية لحفظ تمثيله أو ألحانه وصوته الشجي!

ولعل في هذا الحفظ شيئاً من العزاء لنا ولكل الفنانين والفنانات، وتذكيراً بأن المبدع إذ يرحل بجسده في نهاية حياته يبقى دائما في ذاكرة التاريخ وثقافة الشعوب، بفضل هذه التقنيات المذهلة.

وقد أدى تلفزيون الكويت دورا فائق الجودة في تغطية الحدث المؤثر وبخاصة البرنامج المباشر لمقدمة البرامج المذيعة "إيمان نجم" التي غالبت الدموع والحزن الشديد وأنجزت بكفاءة المقابلات والاتصالات والإشادة بالفنان الكبير.

أشعرنا رحيل "أبو عدنان" وما أثار من مشاعر مختلفة، كم هي مؤثرة عطاءات المسرحيين والفنانين عموما، وكم أثروا ثفافة المجتمع وساهموا في تقوية نسيجه، واكتشفنا من خلال الحديث عن الفنان الكبير أهمية الدقة والحرص على الالتزام بالوقت وإتقان العمل والتفاني فيه. وهذا ما كان يدهش الكثيرين في الراحل الكبير، حيث كان رغم مرضه لا يكاد ينجز عملا حتى يباشر غيره رغم مرضه، فكأنه في سباق مع الزمن.

وثمة جانب يحاول الكثيرون تجاهله بتأثير من الثقافة المتشددة التي حاصرتنا طويلا ولا تزال، وهو الدور الذي قام به الفن والمسرح والغناء وأشكال التعبير الإبداعية، في دعم الحريات الاجتماعية والثقافية في المجتمع الكويتي، حيث سمح فيه منذ وقت مبكر بانتشار الآلات الموسيقية وأجهزة عرض الأفلام السينمائية في بيوت الأهالي وتدريس الرسم والموسيقى والتمثيل، وإنشاء دور السينما والمسرح، وتأسيس جمعيات الفنون التشكيلية من رسم ونحت ومعاهد التمثيل والموسيقى. وقد أسدت الأعمال المسرحية والدرامية للمسرحيين رجالا ونساء، وأعمال الراحل عبدالحسين عبدالرضا وسعد الفرج وسعاد عبدالله ومريم الصالح والآخرون على وجه الخصوص، خدمة يشعر بها الجميع في مجال نشر الاعتدال والتسامح ونبذ التعصب، مقارنة بمجتمعات خليجية وعربية وإسلامية أخرى لا تزال تقيم ما بوسعها من حواجز ضد هذه الفنون وغيرها. وكان للعديد من الأعمال المسرحية التي برز واشتهر في تمثيلها "بوعدنان" دور معروف في هذا المجال. ولا عجب إن أثار نجاحه قوى التعصب والتشدد ضده حتى بلغ الأمر تهديده في حياته.

تحولت أيام الحزن برحيل الفنان بالمصادفة إلى لحظة تزخر بالعبرة الوطنية والمفارقة السياسية، فقد تقاطعت أخبار وفاته والحزن والتأثر والإشادة بدوره ومكانته مع أخبار إلقاء القبض على أفراد "خلية العبدلي" المطاردة أمنياً، فأتيحت الفرصة لكل الكويتيين لأن يلمسوا الفرق، شيعة وسنة، بين من أنجبتهم ثقافة الكويت المتسامحة والمتنوعة المدافعة عن الفن والمجتمع والقيم الحديثة، وبين من انخدعوا بالأفكار المغامرة والشعارات المتعصبة التي جعلت الكثيرين يدفعون ثمن الانجراف والانحراف من أيام حياتهم ومن أحزان أهاليهم ومن غضب المواطنين مما فعلوا.

لابد من الإشادة في الختام باللفتة الأميرية السامية والاحتفاء رسميا وباستحقاق بالفنان القدير "أبوعدنان"، واهتمام سموه الكريم وجهاز الدولة بالحدث، إذ كانت تلك رسالة بالغة التقدير إلى الوسط الثقافي والفني خاصة، وإشعارا للمجتمع بتقدير القيادة السياسية لدور الثقافة والفنون في إبراز الاهتمام بالمبدعين، وخصوصا بفنان رفيع المكانة عظيم الأداء مثل عبدالحسين عبدالرضا، الذي اجتمع الكل في حبه وتقديره والحزن على فراقه.

للفقيد الكبير الرحمة، ولأهله ومحبيه وجمهوره الكبير الصبر والسلوان.

back to top