مشلين بطرس: المعرفة لا وطن لها والكتابة هي الحياة

«النقد محاولة لفهم الأدب لأنه إنشاء لغوي مستنبط من النص»

نشر في 16-08-2017
آخر تحديث 16-08-2017 | 00:02
مشلين بطرس
مشلين بطرس
بين دمشق موطنها الرازح تحت الآلام والأحزان، وبيروت المدينة التي عانت في ما مضى حروباً وأحزاناً وعادت مجدداً بقوة إلى المشهد الثقافي، يتنقل قلم الأديبة مشلين بطرس، متأملاً الياسمين الحزين في دمشق وضجيح الحركة في بيروت التي تقيم فيها في الوقت الحالي، ويسجِّل ما يراه بصرها وبصيرتها، وينثره على صفحات القلب والوجدان جرحاً لا يكفّ عن النزف.
رغم أنها ناشطة إعلامياً، فإن مشلين بطرس لم تنشر إلى الآن أية مجموعة قصصية.
ومشلين عضوة في اتحاد الكتاب العرب في سورية، لا تترك مناسبة ثقافية إلا يكون لها حضور فاعل لا لشيء إلا لترفع الصوت عالياً، صارخةّ وجعها على بلد وشعب سلبت منهما إرادة الحياة وحلّت مكانها إرادة الموت والهجرة والتهجير.
تجمعين في شخصيتك بين ثقافتين، إذا صحّ التعبير، لبنانية بحكم هوية والدتك، وسورية بحكم هوية والدك. كيف تفاعلت هاتان الثقافتان في كتاباتكِ؟

ينطلق كل شيء من التبادل المستحيل، كما يقول جان بودريار. لذا لا يمكننا الحسم بأن الثقافة نتاج عن الشخصية، أم أن الشخصية نتاج عن الثقافة، وذلك بغض النظر عن دور كل منهما وتأثره بالآخر. ولا أعتقد أن مجتمعاتنا العربية ككل تختلف في ثقافتها عن بعضها البعض، فثقافة الدين هي الثقافة التي تسيطر على مجتمعنا العربي، والتنوع الثقافي داخل الدين الواحد لم يستطع سوى أن يشرذم الناس ويرمي بهم أشلاءً على أرصفة الطائفية، فكل ثقافة ترى أنها الثقافة المثلى التي تريد أن تمحو بقية الثقافات وتتفرّد بالفكر وحدها، لتبدأ الحروب، ويعشش الدمار صوراً في ذواكر التاريخ البشري المقيت. وتبقى سورية ولبنان بلدين شقيقين وما يجمع بينهما من جمال ورقي وارتقاء، يبقى بعداً هاماً ومكوناً أساساً من أبعاد التفاعل الإنساني في كتاباتي.

إلى متى ترقى علاقتكِ بالكتابة؟

بدأت علاقتي بالكتابة من الفعل الأول للمعرفة والفعل الثاني للكتابة ألا وهو القراءة. كنت أقرأ ليس في الكتب فحسب، إنما أقرأ الأحداث التي تمرّ بها البشرية عبر شاشة التلفاز، أو عبر أثير الإذاعات المختلفة، وأدوّن ملاحظاتي وتحليلاتي وتساؤلاتي في ذاكرتي، وأبوح بها على الورق بإرهاصات لم تتعدَ مستوى الحكاية أو الخاطرة، إلى أن قرأت جبران، ثم عدت إلى الأديان وتمعنت في كتبها، قرأت فراس السواح من «لغز عشتار» إلى «جلجامش» إلى «حيونة الإنسان» لممدوح عدوان، وغصت غوصاً عميقاً في «الوجه العاري للمرأة العربية» للدكتورة نوال السعداوي، وما زالت القراءة تصقل موهبتي في الكتابة.

أنتِ كاتبة قصص قصيرة تنشرين نتاجك في الإعلام، ولكنها غير مجموعة بعد في كتاب، لماذا؟

نعم، أكتب القصة القصيرة والقصيرة جداً، ونُشرت الكثير منها في الصحف والمجلات العربية والمواقع الإلكترونية العالمية، كذلك تُرجم بعضها إلى اللغة السريانية، ولكنني لم أجمعها بعد في كتاب لأن دور النشر في هذه الآونة توقفت عن تبني الكتب والنشر على نفقتها، وتحوّلت إلى مجرد سوق تجاري لا يهمها سوى الاستهلاك ووجبات الثقافة الحديثة التي تُطبع على حساب المؤلف ذاته، ورغم أن وزارة الثقافة واتحاد الكتّاب العرب في سورية لم ولن يتوقفا عن تبني الكتب وطباعتها، فإن التوزيع في أسوأ حالاته، فالكثير من زملائي وأصدقائي في لبنان أو في سورية، طبعوا ونشروا واحتفلوا ووقعوا كتبهم ووزعوها مجاناً أو شبه مجاني لزملائهم وأصدقائهم، وما يتبقى من نتاجهم يتكدّس طعاماً دسماً لقملة الورق وغباره.

لماذا اخترتِ القصة القصيرة والقصيرة جداً وسيلة تعبير لكِ؟

كتبتُ القصة القصيرة جداً، ثم القصة القصيرة، بالرغم من وجود آراء تقول إن الققج (قصة قصيرة جداً) تولد من القصة القصيرة، كما تولد القصة القصيرة من الرواية، وبهذا لم أكن أنا من اخترت الكتابة بهذا النوع الأدبي الجمالي والمعقد في آن، إنما الققج اختارتني لتولد منها القصة القصيرة، وها أنا أكتب النصوص النثرية، وبعضاً من الحكم الإنسانية، فهل ستولد الرواية؟ أم ماذا سيولد بعد؟ 

مفهوم الوطن

نلاحظ أنكِ، في كتاباتك، تحملين همّ الإنسان والإنسانية المسحوقين تحت ضغوط المآسي والمؤامرات، فإلى أي مدى تؤثر البيئة المحيطة في توجيه أفكارك نحو قضايا معينة من دون غيرها؟

الفن عموماً إعادة توجيه للبيئة أو للتكيف معها، والكتابة هي تدمير واعٍ للواقع وإعادة بناء واقع جديد يعيش في مخيلة الكاتب عبر صيغ وأشكال تجعل القارئ يشعر بالغبطة والانسجام مع الواقع الجديد، ومنه فإن التأثير والتأثر متبادلان في توجيه التفكير، كما أن للبناء السردي لفن القص تأثيراً مباشراً وكبيراً في توجيه أفكاري نحو قضايا معينة، وما قضية الإنسانية إلا قضية تحمل قضايا الإنسان كافة من دون غيرها.

كيف تحددين مفهوم الوطن في قصصك، هل هو مكان أم حالة مرتبطة بالظروف، لا سيما أن ثمة من يقول إن الوطن حيث يعيش الإنسان بكرامته وليس في أرضه؟

المعرفة لا وطن لها، والكتابة هي المكان الذي أعيش فيه، والورقة أرضي، والقلم زادي وزوادتي... ويضوع حنيني من سورية إلى الكون بأسره.

هل تنطلقين في قصصك من الذكريات، أم تبتكرين حالة جديدة لم تعايشيها بالضرورة؟

يتوقّف ذلك على البناء السردي للقصة التي أكتبها في مخيلتي أولاً ثم أرسمها على الورق، فتتنوع قصصي القصيرة والقصيرة جداً ما بين الابتكار وبين الحالات الجديدة التي ليس بالضرورة أن أكون عايشتها، ومن هنا يولد الفن ليحدِّد مساره بالتبادل ما بين المعيش والمتخيل في السرد أو النثر، والكتابة عموماً.

بناء سردي

ما هي أبرز معايير القصة القصيرة جداً، وكيف يمكن التعبير عن تجربة ما ببضع كلمات؟

حسب ما حدّد النقد والحركة النقدية في الآونة الأخيرة وبعد ولادة الققج، هذا الفن الأدبي الجديد، ثمة معايير عدة تحدّد الققج وتعطيها أحقية الأجناسية في الفن الأدبي، كالمعايير الكمية، حيث يتميز فن الققج بقصر حجمه وطوله المحدد، لتبدأ الذروة في جملتها الفعلية الأولى مع استيفاء جميع أركانها المكونة لها، وثمة المعيار الفني الذي يتجلى في أساسيات البنية السردية (الحدث، والشخصية، والبنية الزمكانية، وصيغ الأسلوب...) وجميعها يجب أن توظَف بشكل مكثف من خلال الانزياح والإيهام، بحيث إذا حُذفت منها كلمة واحدة تؤدي إلى خلخلة البناء السردي بأكمله.

توازنين في قصصك بين جمالية اللغة وفرادة الفكرة، فهل تعتبرين أن الشكل والمضمون يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب، بمعنى أن الكتابة بالنسبة إليكِ ليست صناعة فحسب؟

للبناء السردي في قصصي تمازج في وجهي القصة (الشكل والمضمون) ليكونا وجهاً واحداً لفن القص، فالشكل الفني ليس مجرد قالبٍ أصبّ المضمون فيه، كذلك لا وجود لشكل فني مسبق محدّد يمكن فرضه على أي عمل فني آخر، وتختلف الأشكال الفنية باختلاف بصمات الأصابع، ومن هنا يبرز وعي الفنان بمضمونه، وبما أن الكتابة بالنسبة إلي ليست صنعة فحسب، فغالباً ما أترك لعملي الفني حرية أن يشكِّل نفسه بنفسه مع مراعاة التسلسل المنطقي والتلاحم الدرامي بين جزئيات المضمون، فيكون الجزء في ضوء الكل .

النقد الأدبي

ما هي أبرز أسس عالمك القصصي؟

من الصعب جداً أن يتحدّث الكاتب عن الفن الذي يعمل فيه، ولن أقول سوى إن الكتابة بالنسبة إليّ هي الحياة. لذا أحفر في الزمن بحثاً عن الحياة، وكي تكون مبدعاً عليك أن تأتي بقربة فارغة وتنفخ فيها وتنفخ وتظلّ تنفخ، حتى تتشكل من أبخرتك غيوم تمطر ماءً يملأ القربة ويروي الحياة.

إلى جانب كتابة القصة، تكتبين النقد الأدبي. إلى أي مدى يغني تعمّقك في نتاج غيرك تجربتك الأدبية؟

قد يغنيها وقد لا يغنيها، فأهمية القراءة لا تتوقّف عند تجربتي الأدبية، ولا أعتبر أن الكتابة تجربة لأنني لا أكتب لأعيش إنما أعيش لأكتب، وهذا حسب ما قاله يوسا في الأدب كنشاط، وأهمية القراءة ألا وهي الفعل الأول في بناء الإنسان الحق، تكمن باستمرارها والبحث المتواصل عن مكامن الحقيقة بين رفوف المكتبات، وبين طيات الكتب، ودائماً يؤرقني هذا السؤال إلى متى سنبقى ذاك «الشعب المثقف الذي يمسح الزجاج بالجرائد ويقرأ من الفنجان؟»، حسب نزار قباني.

ما المعايير التي تعتمدينها في كتابة النقد الأدبي؟

النقد محاولة لفهم الأدب، وكل محاولة لفهم الأدب تحمل في جعبتها قيمة ومجموعة من المعايير، وفي ضوء الدراسات البنيوية والأسلوبية والتفكيكية المعاصرة، لم يعد النقد مجرد ملحق سطحي للأدب، بل غدا على حد تعبير تودورف قرينه الضروري «ينشأ الخطاب حول الأدب مع نشوء الأدب نفسه»، وبذلك يكون النقد إنشاءً لغوياً عن إنشاء لغوي آخر هو الأدب.

ما الجديد الذي تعملين عليه؟

سأرسم في اللوحة/ أرنباً/ تستلقي على مائدة طعامه/ جزرة/ ذبلت ألوانها خوفاً من أفعى/ تلتفُّ كزوبعة/ ستبتلع البياض كله في لحظة قفص.

حركة مزدهرة

ترى الأديبة مشلين بطرس أن ثمة حركة مزدهرة في مجال الكتّاب الشباب سواء في القصة أو الرواية أو الشعر، باعتقادها، ولو شكّلت خطاً مستقلاً يسعى إلى فرض نفسه فلن تكون بمعزل عن حركة الأدب التي أرسى أسسها أدباؤنا الكبار، لأنها فعل تراكمي له علاقة «بالتناص» وهو مصطلح لباختين (فيلسوف ولغوي ومنظر أدبي روسي) أشارت إليه كريستيفا بدراساتها النقدية والأدبية بأن «التناص» تلاقي النصوص وأن كل نص هو قطعة فسيفسائية من الاقتباسات والاستشهادات، وكل نص هو امتصاص وتحويل إلى نصوص أخرى.

تضيف: ففي القراءة: «عندما يمتصّ القارئ النصوص التي يقرأها، يبقى القارئ ويكون أكثر «نصوصية» من النصوص».

الكتابة هي تدمير واعٍ للواقع وإعادة بناء واقع جديد يعيش في مخيلة الكاتب

أترك لعملي الفني حرية أن يشكل نفسه بنفسه مع مراعاة التسلسل المنطقي
back to top