حبر و ورق ...

نشر في 12-08-2017
آخر تحديث 12-08-2017 | 00:02
No Image Caption
أوف لاين

كيف السبيل لأن نُخلّد شعوراً نعلم يقينا أنه يجب علينا ألا نخلّده؟! كيف السبيل لأن نبوح بحديث نعلم أن بختامه قد تكون نهايتنا؟! وكيف السبيل لأن نفرغ تلك الحمولة التي تثقل صدورنا بعبئها؟

أعلم أن إحساسي بك غير كل الأحاسيس، والحديث عنك لن يكون مبتذلا كما هي حكايات العشق والغرام، لا أعلم كيف أبدأ بالحديث عنك لكنني سأحاول، وإن كان حديثا صامتاً لن يسمعه أو يراه أحد غيري وغيرك. حديث من القلب وللقلب سيكون مآله، شيء احتفظنا به في سجلات الذاكرة ودسسناه بين أرففها التي أغبرّت بكل ذكرى أخرى لا تخصنا، ولم نعد نتشبث بها بعد أن كانت مهمة لنا، فقد جاء الأهم وإن لم نعترف بذلك.

شيء ما هزّ استقراري العاطفي الذي لم أنله إلا مؤخراً، برفقتك أيها الاستثنائي، شيء جعلني حقا أفكر أن أخلّدك بين أوراق الطباعة، لأتأكد أني لم أكن أهذي يوماً بك، وبأن شخصا ما تعرفت عليه بأغرب الطرق وأكثرها عشوائية يوجد حقاً في هذا العالم، لكني عدلت عن ذلك وأنا أخربش على ورق الطباعة بينما ابتسامة حمقاء تتسع على شفتي، ابتسامة بلهاء لم أكن أعلم أنها توجد في قواميس الابتسامات والحركات اللاإرادية، وبدلا من تخليدك على ورق الطباعة اخترت ورق الذاكرة وحديث الروح الذي قد يصلك شيء منه من حديثي معك، وما أجمل من ورق الذاكرة الذي ملأت به رفوف ذاكرتي التي اعتلتها الوحشة والوحدة، الآن أصبح كلي مجلدات، لك في كل من بعضي مجلد، في قلبـي لك مكان وفي عقلي لك مكان، بين أنفاسي وفي ابتساماتي البلهاء تلك التي تزين شفتي الآن، وحديث الروح هذا ينساب مني. أصبحت كل التفاتة مني تشي بك بهمس خجول، ربما وجب عليّ أن أكتب عنك على الورق، أخاف أن يغرقني طوفان مشاعر ليس لديّ قدرة السيطرة عليه، فتتسرب مني وتضيع، لأضيع أنا الأخرى.

توقفتُ عن السرحان في عوالمي الخاصة عندما أعلن برنامج المحادثة عن رسالة أتتني في وضع الظهور دون اتصال، الذي أنتهج وضعه عندما لا تكون موجودًا، لتتسع الابتسامة وتصدر مني ضحكة خافتة عندما قرأت ما كتبت:

- تخيلي أين أنا، في محل بيتزا آكل باستا ومن حولي هجوم على البيتزا من أصحابـي، أنقذيني!!!

لم أستطع أن أكتم ضحكتي الخافتة أكثر عندما أنهيت آخر كلمة في الرسالة، عدتُ إلى الخلف وأنا أستند إلى كرسي مكتبـي الصغير في غرفتي وأعيد قراءة الرسالة وأتأمل كلماتك التي تزيد من اتساع ابتسامتي أكثر فأكثر ومعها تزيد تنهيداتي التي لا أعلم كيف أصف ماهيتها، أهي تنهيدات حبيبة؟ أم تنهيدات صديقة؟ هززتُ رأسي وقد أغمضت عيني أطرد انغماسي في إيجاد تسميات لما بيننا. لم نهتم دوماً بإيجاد وصف معين وتسميات لما يحصل معنا في الحياة! أهي رغبة منا في طرد صفة المجهول عما يدور في حياتنا، رغبة منا في إيجاد موضع قدم ثابت، لننتشي بشعور السيطرة الذي ننتهجه على أسلوب حياتنا، لا أريد أن أكون مسيطرة، أريد أن أضيع، أجل، الضياع التام في بحر من المشاعر التي لا أفهمها والتي كنت أعلم يقينا أنها لا يمكن أن تكون بالطريقة التي اتخذتها معك، لكنها ولسبب ما كانت معك أنت بالذات، لم أنت؟ لِم لم يكن أي شخص آخر؟ ولِمَ بهذه الطريقة اختار القدر أن أختبر مشاعر دافئة أخاف أن أجد لها مسمى معينًا فأضيع مرة أخرى في متاهة التسميات المقيتة. ضياع! أجل أريد أن أضيع.

حدّقت إلى السقف المزين بثريا بسيطة، والتوت شفتي بسخرية مريرة، أي ضياع هذا الذي أود أن أنغمس فيه؟! هززتُ رأسي وعدتُ أتطلع إلى شاشة الحاسوب التي ما زالت تضيء بذلك الصندوق الصغير وبتلك الجملة التي أفلحت في طرد أشباح لا أريد أن تطاردني في هذه الساعة التي أخصصها لك وحدك، اقتربت من لوحة مفاتيحي، وبدأت أطبع بعد أن سجلت خروجك من المحادثة وقلبـي يرقص رقصة خوف وتردد لم ينسها منذ تعارفنا الأول.

- لم تصدقني عندما قلت لك إنك فريد من نوعك، من يكره البيتزا إلا أنت؟!

أنهيت جملتي بطباعة ضحكة تتكون من أربع هاءات، تماماً كما تحبها، إن زادت فلا أكثر من هاء زائدة. فريد من نوعك كما قلت ولم تصدقني عندما قلت هذا، ضحكت في الحقيقة وقلت لي *ولووو* تضحكني هذه الكلمة كثيراً، وأتخيلك وأنت تنطقها بلهجتك المميزة التي لم أكن أتوقع أن أقع أسيرة لها.

لم أكن أجد معنى للعودة إلى البدايات، ما زلتُ في الحقيقة أجد هذا مضيعة للوقت لكن معك، أتمنى لو أتذكر بالضبط ذاك اليوم الاستثنائي الذي دخلت فيه إلى حياتي، ربما كانت سنة كبيسة في حياتي لا تتكرر إلا كل بضعة ملايين من السنوات، أعتقد أنها حدثت للمرة الأولى معنا، أتمنى لو أتذكر التاريخ بالضبط لأدونه في بداية السجلات التي تختزن ذكرياتك، ربما لو أخبرتك أنني أبحث عن اليوم المحدد لتعارفنا الأول قبل انتقالنا إلى مكان أكثر خصوصية لقلت لي إنه ليس مهماً، وعندما أفكر فيها، إنه حقا غير مهم، لأنك معي الآن، وهذا كل ما يهم، أليس كذلك؟ ما يهون عليّ الأمر أنني أوجدت تاريخاً آخر له ذكرى عزيزة، وأعتقد أنه بداية العهد الجديد كما أحب تسميته. العهد الجديد، ها قد وقعت في فخ التسميات من جديد، ربما سأسمح لنفسي أن أقع فيه بين الفينة والأخرى.

حركتُ إصبعي لأتجول في ربوع العالم الافتراضي دون أدنى رغبة في اكتشاف أي شيء جديد، فقط شعور ممزق بالشوق يجتاحني، وأنا أتمنى لو أنك تركت أصدقاءك محبـي البيتزا وتحدثت معي نناقش سبب كرهك المريب للبيتزا.

إنه فقط الشوق، أخبر نفسي بهذا وأضيع مرة أخرى في التسميات.

***

أصدقاء افتراضيون، هكذا كنت أتعامل مع من التقيت به على هذه الشبكة الافتراضية، لم يستطع أحد أن يكسر هذه الصفة الافتراضية المتباعدة والتي وإن تفاعلت معها لن تكون أكثر من نشوة فرحة بفيلم خيال علمي، أعلم تمام المعرفة أنه لا يمكن أن يكون في هذه الحياة، وأن الشرارة سرعان ما ستنطفئ وتخبو تاركة رماد اللامبالاة خلفها، هكذا كنت أحاول أن ألصق بك هذه الصفة، لكنها لا تلبث أن تقفز من لوح الافتراضية إلى ركب الواقعية. لتمتزج بين دواخلي وتغدو جزءا مني. لم يكن من المفترض أن أشعر هكذا، من المفترض أن تكون رحلتي الافتراضية سحابة صيف لا تلبث أن تختفي، لكنها معك امتدت لتتحول السحابة الافتراضية الصيفية إلى سماء شاسعة من الواقعية الربيعية الممتزجة بشيء من الأمنيات والكثير مما لا يمكن أن أصفه، كان يجب عليّ أن أكتب عنك، لِمَ لا أكتب؟

لطالما كانت الكتابة وسيلتي الوحيدة في التعبير، هكذا التقينا، بالكتابة التي بها التقت طرقنا كما تتلاقى الأحرف لتكون كلمات كنت دوما أجدها سهلة في التكوين، لكنها صعبة البوح، آه كم هو صعب البوح بها.

في دواخلي مدينة تزدحم فيها براكين خاملة من الأحاسيس التي أخاف أن تنفجر يوما ما، هذه المدينة المزدحمة تناقض الصمت الذي يخدع الناظر إليّ، لم يعلم أحد ما هي حقيقتي إلا أنت، كنت دوما القبلة التي بها تهدأ ضجتي وتترتب بها بعثرتي، عندما نلتقي في أرض ليس لأحد فيها مكان سواي أنا وأنت، ننفض عنا ما نحن عليه، ولا يبقى إلا إنسانيتنا، فقط اسمك واسمي، وخليط من مشاعر تتلون بألف لون.

إن ما بيننا وصفة مميتة إن بحتُ بها، بعض الأسرار والتجارب قدر لها أن تكون طي الكتمان، ليس لأنها اكتسبت صفة السرية بل لأن أحدًا لن يفهم حقًا ماهيتها، ما بيننا ليس بشيء اعتيادي، ولا بشيء مبتذل، ما بيننا صفحة من كتاب ليس له اسم بعد، ما بيننا كتاب ليس ككتب العرب ولا الغرب، انتماؤنا بعضنا لبعض، فهمنا بعضنا لبعض شيء يكاد يجعلني أظن أنني أحلم، أو يجعلني أعتقد أنك مجرد شبح يستخدم العالم الافتراضي تماما كالبشر العاديين، ذلك العالم الذي أوجدت لنفسي فيه قوانين لا أستطيع ولا أقوى على خرقها وإن أردت، قوانين كانت هي تعويذة الحماية لسنين طويلة، حتى أتيت أنت وكسرت تلك القوانين وأبطلت تلك التعويذة، كل هذا برضى مني، برضى مني.

حاولت أن أقاوم ذلك الشيء الذي يدفعني دفعا نحوك، كنت كسمكة تتخبط في صنارة الصياد، لكنك لم تكن صيادًا، بل كنت شيئًا لا أكاد أستطيع إلا التخبط في إيجاد تسمية له، وقد وبخت نفسي لبحثي المستميت عن التسمية في كل ما يخصك.

عندما أعطيتك بريدي الإلكتروني - وهو الشيء الذي لم أقم به مع أي أحد آخر - شعرتُ كأن روحي ارتفعت إلى السماء، إحساس بالخفة راودني وكأني أطير في السماء، كأن الأرض نفت حقي في التمتع بجاذبيتها بعد فعلتي فلم أجد إلا التحليق، كنتُ أنظر إلى نفسي من علٍ وكلي ينتفض جزعًا مما فعلته، لم أقم أبدا بإعطاء شاب بريدي الإلكتروني، وإن كنا نتبادل الرسائل في الموقع الذي تعارفنا فيه، كان هذا أول بند من بنود الحماية في عالم افتراضي يشع بضبابيته وبريق غموضه، لا تقومي أبدًا بإعطاء بريدك الإلكتروني لشاب أيا تكن الأحوال، والأسباب.

كنت فخورة بنفسي لأنني حافظتُ على هذا البند. كان بندًا رسم التضاريس في حياة لم أستطع أن أتبينها حقيقة، لكنها كانت واضحة المعالم في ذلك العالم الافتراضي، في ذلك العالم وجدتُ نفسي، علمتُ من أكون وماذا بإمكاني أن أكون، كان صديقًا ذا عطاء سخي، كنت أسبح لساعات طوال مبهورة بما يقدمه لي من معلومات من شتى الأنواع، كنتُ أكتب وأسكب كل مشاعري التي تضج بها دواخلي، وأنتشي في كل مرة أجدني أتربع ملكة على ذاك العرش الافتراضي حتى أتتني رسالتك، وبعثرت كياني كله لتعيد بناءه من جديد، وأجد أن تلك الفقاعة من الكينونة التي تلحفت بها مبهورة لم تكن أبدًا، فقد بهت العالم البارق الغارق بافتراضيته ووجدتُ معك عالمًا واقعيًا بفرضيات لم يطرحها أحد من قبلك.

نساء كازانوفا

رفع أبي رأسه قليلاً. لا شيء تغيّر. دائماً الدخان الأسود نفسه.

- كازانوفا مااات . . . كازانوفا مااات . . . كازانوفا مااات . . .

اختلط صوت كابي الجافّ بهدير الرياح العنيفة التي ارتفعت فجأة، لدرجة أن غطّت سماء منارة سيتي بغبار أحمر. عندما علت بقايا الصحف القديمة، والنباتات الميّتة، وأوراق الأشجار التي التصقت بالأرض، وغبار المدينة الممزوج بالرمال الحمراء، أدرك كابي بحواسّ حيوان خائف، كم أنّ الخريف حلّ بسرعة غير منتظرة، بعنفه ورياحه.

ركن درّاجته الناريّة جنب الحائط القديم. ثبّت عجلتها الأماميّة بالقفل الحديديّ القديم، الذي علا الصدأ أطرافه. أخذ من المقطورة الطويلة التي يجرّها وراءه، كومة الصحف اليوميّة. وضعها على ذراعه اليسرى، محرّراً يده اليمنى كلياً. رفع رأسه من جديد. تأمّل بناية كازانوفا العالية، الدار الكبيرة كما يسمّيها جميع سكّان منارة سيتي.

مسحها بعينيه للحظات. توقّف بنظره عند خلوة لا غراند تيراس فوق الطابق الرابع، التي تشكل طابقاً مستقلاً، مفتوحاً على السماء، يكاد يكون منفصلاً عن بقيّة الطوابق التحتيّة لولا المصعد الخاصّ الذي ينطلق من وسط الدار، إلى لاغراند تيرّاس مباشرة. كانت تتدلّى من الخلوة نبتات اللبلاب، تنزل من الأعلى، في شكل خيوط خضراء، حتى تكاد تلامس الأرض ونوافذ الطوابق التحتيّة كلّها، بألوانها الكثيرة وزهراتها المتداخلة، مثل شجيرات نوّار الدفلى التي تملأ مدينة منارة سيتي.

لا دخان أبيض ولا علم أخضر، في خلوة لاغراند تيرّاس. منذ أن دخل الإخوة الستّة، بشير، عمر، مهدي، عليلو، يونس وهارون، في عزلة الخلوة لتعيين خليفة كازانوفا، وكلّ المارّة ينتظرون علامة الدخان الأبيض التي تقول إنّ الإخوة اتّفقوا أخيراً على من يرأس إمبراطوريّة كازانوفا الكبيرة والمتشعّبة.

ثبّت كابي الجرائد بشكل جيّد على صدره، ثم انطلق وهو يصيح في شارع منارة سيتي الخلفيّ الذي احتلّه باعة الخضر والفواكه والبضائع المهرّبة من الحدود، وما يصلهم من الصين وتايوان والفيليبين، وحتى سوريا، التي كان بعض المغامرين يصلون إلى عاصمتها، على الرّغم من حرائق الحرب الأهليّة التي نُسيت في زحمة الحروب الأخرى.

صاح كابي بصوته الرمليّ المكسور الذي يجرح الآذان:

- كازانوفا مااات . . . كازانوفا مااات . . . كازانوفا مااات. . .

قبل أن يجد انسيابه الطفولي.

صاح كابي مرّة أخرى، بكلّ قواه، وهو يقطع الطريق المؤدّي إلى درب المقاهي الذي يكتظّ منذ الفجر بالناس، وأنفاس العمّال، وعرق العابرين وهم يصعدون نحو أعالي المدينة باتجاه السوق الشعبيّة، وسوق السمك الذي تتماهى فيه روائح الحوت الفاسد برائحة الأرجل التي لا يمسّها الماء إلاّ قليلاً، والأحذية النتنة العتيقة.

- كازانوفا مااات. مااات كازانوفا. كازانوفا مااات . . .

- هههه. شكون قال لك مات؟

التفت كابي نحو الصوت. عرفه من نبراته.

- ريزو. ملك المدينة الذي فشلت حتى الشرطة معه، مش الأفضل أن تنام.

- الآن يبدأ نومي يا كابي. هل نسيت؟ واش تقول جرائدك؟

- لا شيء. كما العادة. نبيع الهواء الفاسد بمقابل. خذ. سلَّم لي على بابا الطيّب الحوّات.

سلّمه نسخة من الغاشي. أخذها وهو يتمتم: أدفع لك ثمنها في نهاية الشهر. ثم واصل تدحرجه في الشارع شبه المضاء. عندما وصل إلى عمود الكهرباء في الزاوية، قبل أن ينعطف شمالاً، وقف قليلاً. فتحها بكلّ عرضها. تأمّلها قليلاً، ثم رماها بكلّ قواه، فبعثرتها الرياح التي كانت حدّتها قد زادت قليلاً.

كلّما اقترب من السوق، شعر كابي بالاختناق، فيخفّ صوته من تلقاء ذاته وتنتابه البحّة من جديد.

شمّ رائحة البحر والملح. شعر بالبرد يخترق جلده الجافّ. رأى من وراء زجاج مقهى كافي بيرُّو فيردي وجهه الهادئ وهو يشرب قهوته البيضاء، وعلى مسافة شبر واحد، فنجان القهوة المرّة الصغير.

عمّو خلدون، تمتم كابي. هو، هو، في مكانه اليوميّ، منذ أن تقاعد قبل سنوات. لم تتغيّر عاداته أبداً.

انزلق كابي إلى العمق ليتفادى اللفحة الباردة القادمة من البحر في شكل سهم بارد.

استمرّ في نداءاته لبيع الجريدة.

- كازانوفا مااات . . . كازانوفا مااات . . . كازانوفا مااات . . .

- لا عليك يا عكاشة. كازانوفا لن يموت. سيدفننا كلّنا حتى قبل أن يرحل.

قال رجل كان منهمكاً في لعب الروندا مع صديقه.

يجلس خلدون في الزاوية المطلّة على الفراغ، في المكان نفسه منذ أن عرفه، بطقوسه وحركاته نفسها، وكأنّ الزمن مثبّت في نقطة بعينها. أمامه كأس صغيرة من القهوة البيضاء، يتركها في منتصفها.

تبقى أمامه ساعات حتى تبرد. يقرأ اليوميّتين المحليّتين بالفرنسيّة والعربيّة، الغاشي وLa Populace ، قبل أن يختم جلسته برشفات متتالية من قهوته المرّة. ولا ينسحب من المكان إلا بعد منتصف النهار ليتغدّى، ويعود مساء إلى مكانه نفسه، يلعب الدومينو أو الشطرنج، مع أصدقائه الذين تُسمع أصواتهم من بعيد داخل المقهى وخارجه. وحده خلدون لا يتكلّم إلاّ قليلاً. يظل صامتاً، يتأمّل الخارج الذي تملأه حركة البشر والحناطير وسيّارات 4 x 4 الجديدة التي اجتاحت منارة سيتي.

وضع كابي أمام خلدون صحيفتي اليوم.

- أيّ جديد تحمله لنا نهار اليوم يا عكاشة؟

- لا جديد يا عمّو خلدون إلاّ أخبار كازانوفا. شفتك من برّا.

عرفت أنّك هنا تشرب قهوتك البيضاء، ماء ساخناً مخلوطاً بماء الزهر، قبل القهوة المرّة التي تستمرّ معك ساعات طويلة حتى بعد قراءة اليوميّتين.

- من سمّاك صوفة طايرة لم يخطئ. كيفها مباركة وليان؟

- ماما مباركة ببعض الخير. تقاوم باستماتة وشجاعة. ليان مذعورة. قالت لي يمّا مباركة، في النهار تظلّ نورمال، وفي الليل تهذي خوفاً، كلّما تذكّرت والدها الذي قتل، لأنّه كان عاشقاً وصديقاً لحسين فرجامي ومرافقاً له. لم يكن لا شيعيّاً، ولا سنيّاً، ولا علويّاً. كان مسيحيّاً. لا أحد يعرف من قتله، كلّ الجهات متّهمة، وكلّها بريئة. وليان، نكاية في قتلة والدها، لا تسمع إلاّ لمعزوفات فرجامي. تعلّمت الفارسيّة سماعيّاً. وتعزف بشكل ساحر على السنتور الفارسيّ، تماماً كما علّمها والدها.

- الجهل قاهر يا عكاشة، والحياة في منارة سيتي ليست بسيطة.

الإنسان يأتي، يولد ويكبر ويشيخ فيها، وهو لا يعرف أيّ جدوى لوجوده فيها! مدينة ناشفة.

- فكّرنا أن نحتلّ زاوية صغيرة عند مدخل سوق المدينة، هي تغنّي فارسيّ، وأنا أغنّي دحمان الحراشي، لكن يبدو أنّ الناس عندنا لم يتعوّدوا على هذه الحرفة الحرّة، كما قالت يمّا مباركة.

back to top