العبرة من نموذج المقاومة الشعبية في القدس

نشر في 06-08-2017
آخر تحديث 06-08-2017 | 00:14
 مصطفى البرغوثي قدمت مدينة القدس ومحيطها في شهر يوليو نموذجاً مؤثراً من المقاومة الشعبية الفلسطينية، ورفعت معنويات كل الشعب الفلسطيني المتعطش إلى الإنجاز. ولأن انتصار القدس والأقصى كان فصلاً في معركة محتدمة ومتواصلة، يخوضها الشعب الفلسطيني لإنهاء الاحتلال ونظام الأبارتهايد العنصري، وهي معركة طويلة، فإن من المهم استنباط الدروس من ذلك النموذج الذي نجح، والتي يجب تطبيقها في أماكن ومراحل أخرى لاحقة. ولعل هذه الدروس يمكن استخلاصها من سمات ثمانٍ ميزت هبّة القدس.

السمة الأولى، أن هبة الأقصى والقدس تبنت مبدأ الاعتماد على النفس، وعدم انتظار ما سيفعله الآخرون. آمن المشاركون فيها بأنه "ما حك جلدك مثل ظفرك"، ولم ينتظروا توجيهات أو إرشادات من أحد، ولم يربطوا حراكهم بانتظار تحرك الآخرين، ولو ربطوا، لطال انتظارهم.

وجسدت الهبّة كذلك مبدأ تنظيم النفس، بكل الوسائل الممكنة، وبالاستفادة من كل المؤسسات الدينية والمجتمعية والمدنية، ثم إنها تحدت الاحتلال وقراراته بوضوح وجلاء، وبتصميم وحزم. وفي يوم واحد، تبنت القدس مبادئ الانتفاضة الشعبية الأولى الثلاثة، الاعتمادعلى النفس، وتنظيم النفس، وتحدي الاحتلال.

السمة الثانية، أن الحراك الشعبي سار في تصاعد تدريجي متواصل ومتصاعد، ودون انتكاسات، لأنه بقي شعبيا ولم يصادر سياسيا، بدأ ربما بالعشرات، ثم بالمئات، ثم بالآلآف، ووصل الى عشرات الآلاف. وقد نجح لأنه تحرك بقوة الفكرة الجامعة، والنموذج الحي، الذي وجد تجاوبا من الإحساس بالواجب، والرغبة في الاقتداء.

السمة الثالثة، كانت قوة المشاركة الجماهيرية الواسعة، وعظمة تأثيرها، وقد مثلت هذه المشاركة الذروة التي يطمح كل فعل للمقاومة الشعبية أن يصل إليها، لكن المميز في حالة القدس، كان استمرار هذه المشاركة دون اختصارها في فعل واحد، أو يوم واحد، كما يحدث عادة.

السمة الرابعة، كانت وضوح ودقة هدف الحراك الشعبي، والثبات في الإصرار عليه، رغم كل ضغوط الاحتلال، وبعض الضغوط السياسية المحلية والإقليمية والدولية. إزالة كل ما أقامه الاحتلال دون استثناء منذ الرابع عشر من يوليو، ذلك كان الهدف، وذلك ما تم التمسك به حتى الدقائق الأخيرة قبل الدخول الشعبي الرائع للمسجد الأقصى. وحتى عندما تعاظمت الضغوط، وناور الاحتلال مناورته الأخيرة بإغلاق باب حطة، لم تتردد الجماهير المشاركة في اتخاذ القرار بالعودة للاعتصام، حتى انكسر الاحتلال، وتحقق الهدف بشكل كامل ونقي ومبهر.

السمة الخامسة، كانت وحدة القيادة الشعبية الوطنية والدينية، وقد كانت وحدة تفاعلية، ولم تكن لتنجح، أو لتطاع، لولا احترامها الجليل لإرادة الجماهير الشعبية، وتغليبها لقرار هذه الإرادة في المنعطفات الحاسمة والدقيقة. ولربما كانت هذه الوحدة النموذجية، أكثر ما أذهل سلطة الاحتلال المعتادة على استغلال الانقسامات الفلسطينية، وعلى تغذيتها بكل الوسائل.

السمة السادسة، كانت الإصرار الجماهيري على الطابع السلمي للحراك الشعبي وللصلاة المقاومة، ورفض الانجرار لاستفزازات الاحتلال أو التجاوب مع عنفه الإجرامي. رغم أن قوات الاحتلال استخدمت كل أنواع البطش والقنابل والرصاص، بما في ذلك الرصاص الحي ضد المواطنين العزل، وكان الثمن باهظاً بسقوط خمسة شهداء بواسل، بعضهم أطفال، وإصابة أكثر من 1500 جريح. ومع تتابع الأيام، بدأت تصل إلى العالم الصورة الحقيقية لما كان يجري، وهي الصورة التي تخافها إسرائيل وحكومتها أكثر من أي شيء آخر. صورة جيش بالآلاف، وعسكر مدجج بالسلاح، يواجه جماهير شعبية عزلاء من السلاح، ولكنها مفعمة بالشجاعة والعزيمة والتحدي. وهي صورة الانتفاضة الشعبية الأولى التي عرت وفضحت الاحتلال الإسرائيلي، والتي يخاف المحتلون أن تعود إلى وعي شعوب العالم. ولو كان المجتمع الدولي صادقاً في احترامه للقانون الدولي لشكل لجان تحقيق في سلوك القوات الإسرائيلية تجاه الجماهير الفلسطينية ولحاسب إسرائيل وفرض العقوبات عليها، كما يفعل في مناطق أخرى، ولكن "ازدواجية المعايير" مازالت قائمة للأسف عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.

السمة السابعة، وهي سمة بالغة الروعة، كانت احتفاظ الجماهير الفلسطينية بزمام المبادرة بيدها منذ اليوم الأول وحتى اللحظات الأخيرة وما بعدها. فلم يستطع نتنياهو ولا حكومته ولا شرطته ولا كل من جاءوا من خلف المحيطات لمساعدته، سحب زمام المبادرة من يد الجماهير الفلسطينية، ولم يكن ذلك سهلاً، كما لم يكن بسيطاً، ولكنه كان ناجحاً بامتياز، ولذك اضطر نتنياهو أن يعترف بهزيمته التي لم يستطع إخفاءها.

وحتى في يوم صلاة الجمعة الأولى بعد دخول الأقصى، أفشل الفلسطينيون، بانضباط ووعي مذهل، محاولات قوات الاحتلال استفزازهم وجرهم إلى دائرة العنف لتبرير الانتقام من نجاحهم، وحافظوا بذلك على زمام المبادرة وعلى انتصارهم.

السمة الثامنة، كانت تحول قضية المسجد الأقصى والقدس إلى قضية فلسطينية عامة، وإن كان ببعض التأخير، وبتفاوت من مكان لآخر، حتى شملت الداخل وسائر الأراضي المحتلة، والفلسطينيين في الخارج، وامتد تأثيرها عربياً وإسلامياً وعالمياً، مما شكل عنصراً ضغطاً متصاعداً على الحكومة الإسرائيلية. لا يمكن لأحد أن يجادل في أن انتصار القدس والأقصى، كان في الأساس من صنع الجماهير الشعبية الفلسطينية والمقدسيين البواسل، ولا يستطيع أحد أن ينفي اليوم قدرتهم على الإنجاز والانتصار، والعبرة في كيفية الاستفادة من دروس هذا النموذج وسماته، لبناء وتطوير المقاومة الشعبية الفلسطينية على النطاق الوطني.

* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية

back to top