بركان «كاتلا» بأيسلندا سبّب المجاعة في عصور أوروبا المظلمة

نشر في 06-08-2017
آخر تحديث 06-08-2017 | 00:08
بركان «كاتلا»
بركان «كاتلا»
بدت لعنة. كان صيف عام 821 رطباً وبارداً وأدى إلى محصول سيئ. عندما حلّ الشتاء، هبطت درجات الحرارة بقوة، وخنقت العواصف الثلجية قرى وبلدات كاملة. أما أنهار الدنوب، والراين، والسين، التي لا تتجمد مطلقاً، فتجمدت بصلابة حتى صار بإمكان الناس عبور الجليد على سطحها بعربات الخيل
لا سيراً على الأقدام فحسب. عندما جاء الربيع، لم يحمل معه أية راحة. تلت الثلج عواصف برَد مريعة، وبعدها حلّت المجاعة والوباء. كانت فصول الشتاء القليلة التالية الأكثر سوءاً. نتيجة لذلك، انتشر الخوف في البلاد. كتب الراهب باسكاسيوس رادبيرتوس من كوربي، في ما يُعرف اليوم بشمال فرنسا، أن الله نفسه كان غاضباً. لكن الله لم يكن وراء هذا الدمار، وفق أولف بنتجين من جامعة كامبريدج، بل بركان يُدعى اليوم«كاتلا» على جزيرة كانت مجهولة آنذاك ونعرفها راهناً بأيسلندا.
ينام بركان«كاتلا» راهناً، وهو أحد أكبر براكين أيسلندا عند طرف الجزيرة الجنوبي، تحت 700 متر من الجليد. ينام على هذه الحال، وإن بتقلب، منذ نحو مئة عام. حدث ثورانه الكبير الأخير، الذي نجح في اختراق الجليد، عام 1918. وسجّل سكان أيسلندا عدداً من عمليات الثوران المشابه المحطم للجليد منذ استقرار أهل الشمال في الجزيرة عام 870. ولكن في عام 821، لم يكن أهل الشمال اكتشفوا أيسلندا، بل كانوا يصبون اهتمامهم على الأديرة والقرى التي يمكنهم نهبها على الساحل الأوروبي. لذلك، ما من سجل بشري عن نشاط كاتلا آنذاك. إلا أن د. بنتجين يعتقد أنه عثر على سجل طبيعي. يظنّ الباحث أنه توصل إلى مذكرة مكتوبة في غابة تعود إلى ما قبل التاريخ عن ثوران يتزامن مع الحوادث التي وصفها رادبيرتوس.

تستطيع الثورانات البركانية الكبيرة أن تؤثر في الطقس. تنفث البراكين خصوصاً ثاني أكسيد الكبريت، الذي يتفاعل مع غازات الجو ليشكّل ضبوب الكبريتات. ويعكس الأخير نور الشمس ويعيده إلى الفضاء، ما يؤدي إلى تدني حرارة الهواء تحته. هذا واقع علمي معروف. لذلك يظنّ العلماء منذ زمن طويل أن ما حدث في مطلع عشرينيات القرن التاسع كان جزءاً من تداعيات ثوران كبير مماثل.

علاوة على ذلك، تدعم هذا الاعتقادَ عينات الجليد التي جُمعت من غرينلندا، إذ تُظهر ارتفاعاً كبيراً في معدلات الكبريت في الطبقات التي تراكمت خلال تلك السنوات. لكنها لا تشير إلى موقع البركان لأن الكبريت الناجم عن الثوران يختلط بسرعة في الجو وسرعان ما ينتشر حول الأرض بالتساوي.

أشجار مدفونة

إلا أن الوضع تبدل عام 2003، حين كشفت الفيضانات الغابة التي أثارت اهتمام د. بنتجين. تُظهر البحوث الأولية أن الأشجار فيها كانت حية خلال القرن التاسع. لذلك شكّل الدكتور فريقاً من علماء الفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والتاريخ، والجغرافيا للتحقق من هذه المسألة، بدءاً بتحليل حلقات نمو الأشجار المدفونة السنوي.

بحث الفريق خصوصاً عن علامات إلى مؤشر ذري لا نملك عنه فهماً دقيقاً يظهر في حلقات الأشجار في مرحلة معينة أينما كانت حول العالم، فاكتشف خبراء علم النباتات القديمة أن الحلقات التي نمت عام 775 احتوت على كمية من نظير الكربون المشع الأكثر انتشاراً 14C تفوق الطبيعي بنحو 20 ضعفاً. وشهدت تلك السنة أيضاً حدثاً غامضاً سُجّل في الوثائق الأنغلو-ساكسونية، وهي مجموعة من الحويلات تصف تاريخ إنكلترا الباكر. كان هذا الحدث ظهور«صليب أحمر» في السماء بعد المغيب. يشير أفضل تخمين عصري إلى أن مدوّني الوثائق كانوا ينظرون إلى تجلٍّ قوي غير معتاد للأضواء الشمالية، وأن معدلات 14C العالية تعود إلى إنتاج هذا النظير بوفرة في الجو بسبب نسب الإشعاع الشمسي العالية، التي تحاكي أيضاً أضواء الشفق القطبي.

فيضان

بحث د. بنتجين وزملاؤه في الأشجار عن نسب 14C المرتفعة وعثروا عليها. وكما أفادوا في مجلة Geology، ظهرت هذه الذروة في حلقات نمت قبل 47 سنة من طم الغابة، ما يشير بالتالي إلى حدث جلل أدى إلى طمها عام 822.

بالنظر إلى اتجاه سقوط الأشجار، يبدو هذا الحدث فيضاناً نتج عن ذوبانٍ أو انفجار مفاجئ في نهر ميردالسيوكال الجليدي الذي يمتد فوق كاتلا. يبعد هذا النهر 35 كيلومتراً عن الغابة، ما يعني أن ذلك الفيضان كان ضخماً. وعند إضافة مصير الغابة إلى بيانات عينات الجليد من غرينلندا، نستخلص أن كاتلا كان ثائراً عام 822 أو ثار قبيل ذلك، ما أدى إلى إضعاف النهر الجليدي. ولا شك في أن هذا الثوران، الذي كان بالقوة اللازمة للتسبب بفيضان مماثل، يُعتبر كبيراً كفاية ليؤدي إلى تبدّل مؤقت في مناخ العالم شبيه بما وصفه رادبيرتوس.

الشتاء العظيم

لا شك في أن المتحدرين من شعوب الشمال، الذين عايشوا حوادث عشرينيات القرن التاسع، ما كانوا ليخشوا غضب إله لا يؤمنون به. لكنهم شعروا بالخوف على الأرجح لأنهم اعتقدوا أنهم يعيشون الشتاء العظيم، وهو عبارة عن ثلاث سنوات لا صيف فيها تسم بداية«راكناروك»، معركة آلهتهم الخاصة. لكن كاتلا توقف عن الثوران ولم يشهد العالم«راكناروك» ولا«يوم الدينونة». أما رادبيرتوس، فأعلنه البابا غريغوريوس السابع قديساً عام 1073 بعد 250 سنة تقريباً.

back to top