في «التطابق» و«المفارقة»

نشر في 06-08-2017
آخر تحديث 06-08-2017 | 00:01
 فوزي كريم 1-

أقرأ في المقهى أحياناً، بديلاً عن قراءة البيت. في المقهى يُعدُّ لي الشاي، ولا أعدُّه أنا، وقد أطمع بقطعة حلوى. ثم اني إذا ما استرحتُ من متابعة الفقرات والصفحات، أرتفع إلى متابعة أوجه وهيئات المارة من الناس. وقد أعلو إلى تأمل العمارة، وأعلو أكثر إلى تأمل ما يعتمل في الأفق وفق المواسم، من إضاءة شمس أو ظلال سحب.

كثيراً ما أعلو أيضاً، لا طمعاً باستراحة من قراءة، بل طمعا بما تدفعني القراءةُ إليه - جملة، سطر، فقرة أو صفحات - في ملاحقة رؤى تتفتح طيات. رؤى لا يقدر عليها إلا الخيال وحده، لأنها وليدة تزاوج بالغ الغموض بين قوى العاطفة، وقوى الأفكار، وقوى الحواس الجسدية داخل الكائن، حيث لا فواصل.

القراءة هنا مُلهمة، كذلك لحظات التأمل، لأنها تُنتج رؤى، والرؤى تطمع بدورها في أن تتشكل بكلمات، بنص، وهي مُبدعة أيضا، على افتراض أني أتحدث عن شاعر، في هذا القارئ في مقهى.

في غمرة هذه الرؤى التي تتدفق برقة ماء في مجرى، يسيرة طيعة، هكذا تبدو لي، أعدُّ ورقةً أو صفحة حاسوب لأكتبها، أو أكتب بوحي منها. أقترح كلمة، أو جملة، ثم أتوقف. أتأملها بحرج من يتبين مقدار هُزالها، وقصورها وافتعالها ربما. ورغم أني أعرف أن ما أراه من هزال هو وليد مُفارقة لا تقبل التسوية، بين رؤى (عواطف وأفكار وحواس) ليست بصرية تماما، وليست مجردة تماماً، وبين كلمات تلتصق بها معانيها النفعية والعملية، فإني أجدني أحاول، وأظل أحاول.

المفارقة لا تقبل التسوية، لذا أحاول الاحتيال على اللغة بتقنيات الاستعارة والمجاز. إلا أن المفارقة لا تلين. صحيح أن تقنيات كهذه قد تمنحني صوراً لا أغفل جمالها، وعمقها، إلا أن مذاق الاحتيال يلاحقني، ويُلقي مزيداً من الضوء على المفارقة، بين تلك الرؤى العميقة المُلهمة بوضوحها، والتي خرجت من كياني الإنساني كله، وبين الكلمات المحتالة على الورقة، التي تبدو أسماكاً لفظتها الأمواج على شاطئ.

قد تبدو في هذا الشعور مبالغة، لكنها مبالغة "على قد المقام". الشاعر لا يخلو من هذا الهاجس، منذ زمن قديم. والذي يتمتع بحاسة موسيقية، سيكون على يقين أكثر في هذا الهاجس، وخاصة إذا ما استطاع أن يتأمل موسيقياً إلى جانبه، لا في المقهى بالضرورة، ولكن في مخيلته.

الموسيقي حين يؤلف عمله، يؤديه أو يغنيه، إنما يلاحق لغة ليست رموزا لمعانٍ دالة كلغة الكتابة، لكن رموزاً لأصوات. والرمز والصوت هنا متطابقان، فكلاهما تجريد، هو عين التجريد الذي يعتمل داخل الموسيقي من عواطف وأفكار وأحاسيس. ما من مفارقة هنا. الصوت كامن في الرمز كمون الخضرة في العشبة. وبفعل هذا التطابق الكلي تتطلع كل الفنون لأن تكون موسيقى، لكن هيهات.

2-

يذكرني هذا التطلع إلى التطابق بين اللغة ورؤى الشاعر، أسوة بالتطابق بين النوتة والصوت لدى الموسيقي، بتطلع آخر أكثر أهمية وخطورة، طالما ألحّ عليَّ فيما أفكر فيه، وفيما أكتب عنه، هو التطلع إلى مطابقة الكاتب فيما يكتب مع ذاته ككائن حي. مطابقة النظر والفعل، الفكر والحياة، بين ما يشغلني في التأمل وفي الممارسة. إن من يتأمل الكاتب العربي، شاعراً، مفكراً، سياسياً، يصطدم بهذه المفارقة الشائعة التي تقرب من الشيزوفرينا، بين كتابة وتفكير أحدهم وبين ذاته وحياته. حتى لتبدو المعرفة وخبرة التأملات، إذا ما توافرت، لا تغذي الكائن بنسغها، من أجل ثمرة ما نافعة، بل هي على العكس تماماً سرعان ما تتحول إلى أسلحة للدفاع وللهجوم، أو إلى قوى عضلية للادعاء والنفاجة.

ما من فكرة، أو تجربة في حقل المعرفة، مهما عظمت، كفيلة بتغيير مجرى الحياة. وكأن حياة الشخص لا تعتمد "ذاتاً" على قدر من التكون. "الذات" التي شغلت الوجودية من كيركجور حتى سارتر وكامو. إن كل ما يتصل بالجهد المعرفي، مهما تنوعت حقوله، لا تمس كيانه الإنساني، لأن معانيها تظل عالقة في الرأس، كذرائع وحجج للدفاع والهجوم.

back to top