قبل أن تتحرر الذات

نشر في 30-07-2017
آخر تحديث 30-07-2017 | 00:00
 فوزي كريم قبل أسبوع صرت أراجع مواد، بين كتابة وترجمة وملحوظات، كنت أعددتها لكتاب حول "الموسيقى والفلسفة"، هو الثالث من مسلسل كتب "الفضائل الموسيقية"، الذي صدرت منه "الموسيقى والشعر"، و"الموسيقى والرسم" (دار نون 2015).

معي الآن نخبة من الفلاسفة والموسيقيين، ممن لم يتوقفوا عن الملاقحة بين حقلي "الفكرة" و"النغم": روسو، شوبنهاور، كيركجور، ﭭاﮔنر، نيتشه، هانسلك... وآخرون. لكنني توقفت في المراجعة عند الدنماركي كيركجور Kierkegaard (1813- 1855)، وتأثره العميق بموتسارت، الذي سبقه بنصف قرن، في بناء معماره الفلسفي، كرائد للمذهب الفلسفي الوجودي، الشائع في عصرنا الحديث على يد الفرنسيين سارتر وكامو.

كان كيركجور يرى أن مراحل الوجود التي تتطور فيها الذات الإنسانية تتم في ثلاث (ولعلها أوجه ثلاثة منفصلة عن بعض):

1- المرحلة الجمالية 2- المرحلة الأخلاقية 3- المرحلة الدينية. ولا يتم الانتقال بين هذه المراحل المتعارضة مع بعض إلا عبر ما يسميه بـ"الوثبة" أو القفزة.

المرحلة الجمالية ذاتها تتوزع إلى قسمين: المرحلة الحسية المباشرة، والمرحلة الجمالية التأملية. إلا أن موسيقى موتسارت تشغله في المرحلة الحسية المباشرة هذه، التي تتوزع إلى ثلاثة أطوار بدورها. طور تلتحم فيه ذات الكائن مع رغبته الحسية، كما يحدث لدى الطفل حين يحلم باتحاده الحسي مع الأشياء، إلى الحد الذي تختلط فيه ذاته مع انطباعاته الحسية. ما من فاصل هنا بين "الذات" و"الموضوع" الذي ترغب فيه، لذلك تبدو "الذات" معدومة.

في أوبرا "زواج فيغارو" (The Marriage of Figaro) يتمثل كيركجور بشخصية الصبي "شربينو"، الذي يعيش حبه الإيهامي المراهق للكونتيسة. إنه يرى فيه انعدام الذات لدى الكائن، داخل بحران الشهوة الحسية المحضة. "إننا هنا في طور الطفل الملتحم بأمه بغير تمايز بينهما، لهذا سوف نجد موتسارت يعبر عن شخصية الغلام بطبقة صوت نسائي، فهو شخصية لم تظهر بعد، ولم تتميز ولم تنفصل بحيث ترغب في موضوع ما كما يرغب الذكر في الأنثى مثلاً".

في الطور الثاني يتمثل كيركجور بشخصية بابايينو (Papageno)، صياد الطيور والعازف لها بصفارته، في أوبرا Magic Flute. يرى فيه استيقاظ "الرغبة" مع استيقاظ "موضوعها"، بعد حلم الطور الأول. الذات أو الرغبة التي تبدأ تطورها الناشط، دون أن تستقل عن موضوعها، وستستقل عن موضوعها، لأنها ستكتشفه، في الطور الثالث. إنها هنا تستكشف، في حين كانت تحلم في الطور الأول. عملية استكشافها مسرات متواصلة تنعكس في حياة "بابايينو" المتداعية الألحان والخالية من الهموم.

في الطور الثالث يُقبل كيركجور على أوبرا موتسارت Don Giovanni، ليرى فيها تلك "الرغبة" وهي تتحدد وتتضح.

إنها تجد موضوعها "المطلق" في "الجزئي"، وهي ترغب فيه على نحو مطلق، وهي لهذا السبب مُركّبة من المرحلتين السابقتين. الحس الشهواني يستيقظ الآن بكل ما لديه من حماس ومتعة، و"دون جوان" هو التعبير الشيطاني عن هذا الحس والنزعة الحسية. إنه يحب في لحظة، وينتهي في لحظة، فرؤية المرأة وحبها يمثلان شيئاً واحداً. وهو لا يُخفق أبداً في محاولاته، ومع ذلك، فهو حب فقير، لأنه يحيا في اللحظة ويموت فيها، لذلك لا نجد حياة لدون جوان، فهي مجموعة من اللحظات المتكررة دون تواصل.

مع نهاية هذه الأطوار الثلاثة للمرحلة الحسية الشهوانية يرى كيركجور، أن من الخطأ أن نقول عن هؤلاء الأفراد إنهم ذوات، فليس لديهم الوعي الذاتي الواضح الذي يجعلهم قادرين على اتخاذ قرارات محددة. إنه يترك ذلك للمرحلتين التاليتين من مراحل الوجود: المرحلة الأخلاقية، والمرحلة الدينية.

بشأن اهتمامه الموسيقي يرى كيركجور "أن الموسيقى أقدر وسيط للتعبير عن الحسية الشهوانية"، لأنها "تحتاج إلى التعبير عنها في مباشرتها، لأن التوسط، وما ينعكس في شيء آخر غير ذاته، إنما يقع في دائرة اللغة، ويُصبح موضوعا لمقولات أخلاقية. أما دائرة المباشر فحسب، فلا يمكن التعبير عنها إلا عن طريق الموسيقى وحدها".

back to top